المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

30- بيَّن - سبحانه - أنه هو الذي أحيا الإنسان ومكَّن له في الأرض ، ثم بيَّن بعد ذلك أصل تكوين الإنسان وما أودع فيه من علم الأشياء وذكره به ، فاذكر يا محمد نعمة أخرى من نعم ربك على الإنسان ، وهي أنه قال لملائكته : إني جاعل في الأرض من أُمكِّنه منها وأجعله صاحبَ سلطان فيها وهو آدم وذريته ، استخلفهم الله في عمارة الأرض .

واذكر قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها بالمعاصي ، ومن يسفك الدماء بالعدوان والقتل لما في طبيعته من شهوات ، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، ونظهر ذكرك ونمجِّدك ؟ فأجابهم ربهم : إني أعلم ما لم تعلموا من المصلحة في ذلك .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ . . . }

في هذه الآيات الكريمة عطف - سبحانه - قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .

وإذ وإذا ظرفان للزمان ، الأول للماضي والثاني للمستقبل ، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد الماضي كقوله : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ . . . } وإن جاء إذا مع الماضي أفاد الاستقبال كقوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام . والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحاً به في آيات أخرى كما قال تعالى :

{ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } والملائكة جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملأك ، من ملك ، نحو شمال من شمل ، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك ، وقيل : إن ملاك من لأك إذا أرسل ، ومنه الألوكة ، أي : الرسالة .

والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة . قال تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } وقال تعالى : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } وقال-تعالى - { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } و ( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض ، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل . وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة .

ثم حكى - سبحانه - إجابة الملائكة فقال : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .

الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .

والسفك : الصب والإِهراق ، يقال : سفكت الدم والدمع سفكاً - من باب ضرب - صببته . والفاعل سافك وسفاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .

والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .

والتقديس : التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال .

فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية . والمعنى : أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .

وقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ } إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا . والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه . قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله - تعالى - { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا ؟

وقد رد الله - تعالى - على الملائكة بقوله : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله .

فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق - عز وجل - وتنبيه إلى أنه - تعالى - عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء ، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .

قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلو على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

30

فلننظر الآن في قصة آدم - كما جاءت هنا - في ضوء هذه الإيضاحات . .

إن السياق - فيما سبق - يستعرض موكب الحياة ، بل موكب الوجود كله . ثم يتحدث عن الأرض - في معرض آلاء الله على الناس - فيقرر أن الله خلق كل ما فيها لهم . . فهنا في هذا الجو تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض ، ومنحه مقاليدها ، على عهد من الله وشرط ، وإعطائه المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة . كما أنها تمهد للحديث عن استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهد من الله ؛ ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة الوافية بعهد الله [ كما سيجيء ] فتتسق القصة مع الجو الذي تساق فيه كل الاتساق .

فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من إيحاءات أصيلة :

ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ؛ وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى :

( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . .

وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض ، وتطلق فيها يده ، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين ، والتحليل والتركيب ، والتحوير والتبديل ؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .

وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة ، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية

وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته ، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة !

وإذن فهي منزلة عظيمة ، منزلة هذا الإنسان ، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم .

هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) . . حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة ، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض !

( قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ ) . .

ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال ، أو من تجارب سابقة في الأرض ، أو من إلهام البصيرة ، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ، أو من مقتضيات حياته على الأرض ؛ وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض ، وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق ، وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية المطلقة للوجود ، وهو وحده العلة الأولى للخلق . . وهو متحقق بوجودهم هم ، يسبحون بحمد الله ويقدسون له ، ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته !

لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا ، في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها ، على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو الدائم ، والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة البانية . خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا يقف ، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير .

عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء ، والخبير بمصائر الأمور :

( قال : إني أعلم ما لا تعلمون ) . .

/خ39

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

يخبر{[1471]} تعالى بامتنانه على بني آدم ، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم ، فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } أي : واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة ، واقصص على قومك ذلك . وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية [ وهو أبو عبيدة ]{[1472]} أنه زعم أن " إذ " هاهنا زائدة ، وأن تقدير الكلام : وقال ربك . ورده ابن جرير .

قال القرطبي : وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج : هذا اجتراء{[1473]} من أبي عبيدة .

{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } أي : قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [ الأنعام : 165 ] وقال { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [ النمل : 62 ] . وقال { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ } [ الزخرف : 60 ] . وقال { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ مريم : 59 ] . [ وقرئ في الشاذ : " إني جاعل في الأرض خليقة " حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي ]{[1474]} . وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم ، عليه السلام ، فقط ، كما يقوله طائفة من المفسرين ، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ، وفي ذلك نظر ، بل الخلاف في ذلك كثير ، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره ، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فإنهم{[1475]} إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون [ أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم ، قاله القرطبي ]{[1476]} أو أنهم قاسوهم على من سبق ، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك .

وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [ وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي : لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا . قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } الآية ]{[1477]} وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : إني أعلم من المصلحة{[1478]} الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها{[1479]} ما لا تعلمون أنتم ؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء ، والصالحون والعباد ، والزهاد والأولياء ، والأبرار والمقربون ، والعلماء العاملون والخاشعون ، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم .

وقد ثبت في الصحيح{[1480]} : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون . وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام : " يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل " فقولهم : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } وقيل : معنى قوله جوابًا لهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها ، وقيل : إنه جواب لقولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } فقال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به . وقيل : بل تضمن قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم ، فقال الله تعالى لهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم . ذكرها فخر الدين مع غيرها من الأجوبة ، والله أعلم .

ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه :

قال ابن جرير : حدثني القاسم بن الحسن قال : حدثنا الحسين قال : حدثني الحجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة ، قالوا : قال الله للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم : إني فاعل . وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك .

وقال السدي : استشار الملائكة في خلق آدم . رواه ابن أبي حاتم ، قال{[1481]} : وروي عن قتادة نحوه . وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن ، والله أعلم .

{ فِي الأرْضِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد{[1482]} حدثنا عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله{[1483]} صلى الله عليه وسلم قال : " دُحِيت الأرض من مكة ، وأول من طاف بالبيت الملائكة ، فقال الله : إني جاعل في الأرض خليفة ، يعني مكة " {[1484]} .

وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف ، وفيه مُدْرَج ، وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم ، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك .

{ خَلِيفَةً } قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا{[1485]} : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا .

قال ابن جرير : فكان تأويل الآية على هذا : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } مني ، يخلفني في الحكم بين خلقي ، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم{[1486]} بالعدل بين خلقه . وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها{[1487]} فمن غير خلفائه .

قال ابن جرير : وإنما [ كان تأويل الآية على هذا ]{[1488]} معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا .

قال : والخليفة الفعلية من قولك ، خلف فلان فلانا في هذا الأمر : إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ يونس : 14 ] . ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ؛ لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خَلَفًا .

قال : وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم .

قال ابن جرير : وحدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أول من سكن الأرض الجنُّ ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم{[1489]} بجزائر البحور وأطراف الجبال . ثم خلق آدم وأسكنه إياها ، فلذلك قال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً }{[1490]} .

وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } قال : يعنون [ به ]{[1491]} بني آدم .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله ، عز وجل ، خلق إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها خلق ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها [ ويسفك الدماء ]{[1492]} ؟ !

وقد تقدم ما رواه السدي ، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة : أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم ، فقالت الملائكة ذلك . وتقدم آنفا{[1493]} ما رواه الضحاك ، عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك ، فقاسوا هؤلاء بأولئك .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن بُكَير{[1494]} بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فأفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم ، حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فقال الله للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون{[1495]} .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } إلى قوله : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 33 ] قال : خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ؛ فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء بينهم ، وكان الفساد في الأرض ، فمن ثم قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } كما أفسدت الجن { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } كما سَفَكُوا .

قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مبارك بن فضالة ، حدثنا الحسن ، قال : قال الله للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم : إني فاعل . فآمنوا بربهم{[1496]} ، فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه ، فقالوا بالعلم الذي علمهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؟ { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }

قال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون{[1497]} ويسفكون الدماء ، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلَّمهم .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } كان [ الله ]{[1498]} أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خَلْق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك حين قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا }{[1499]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام الرازي ، حدثنا ابن المبارك ، عن معروف ، يعني ابن خَرّبوذ المكي ، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول : السّجِلّ ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت ، وكانا من أعوانه ، فلما قال تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } قالا ذلك استطالة على الملائكة .

وهذا أثر غريب . وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ، فهو نقله عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، والله أعلم . ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط ،

وهو خلاف السياق .

وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم - أيضًا - حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن أبي عَبْد الله ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، قال : سمعت أبي يقول : إن الملائكة الذين قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } كانوا عشرة آلاف ، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم .

وهذا - أيضًا - إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم .

قال ابن جريج : إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }

وقال ابن جرير : وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؛ لأن الله أذن لهم{[1500]} في السؤال عن ذلك ، بعد ما أخبرهم{[1501]} أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة ، فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ! ؟ فأجابهم ربهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } يعني : أن ذلك كائن منهم ، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعا .

قال : وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا ، مسألة [ الملائكة ]{[1502]} استخبار منهم ، لا على وجه الإنكار ، واختاره ابن جرير .

وقال سعيد عن قتادة قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } فاستشار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، قال : وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ، فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال : { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .

وقوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : التسبيحُ : التسبيحُ ، والتقديس : الصلاة{[1503]} .

وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود - وعن ناس من الصحابة : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال : يقولون : نصلي لك .

وقال مجاهد : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال : نعظمك ونكبرك .

وقال الضحاك : التقديس : التطهير .

وقال محمد بن إسحاق : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال : لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه .

وقال ابن جرير : التقديس : هو التعظيم والتطهير ، ومنه قولهم : سُبُّوح قُدُّوس ، يعني بقولهم : سُبوح ، تنزيه له ، وبقولهم : قدوس ، طهارة وتعظيم له . ولذلك قيل للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إذًا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك { وَنُقَدِّسُ لَكَ } ننسبك إلى ما هو من صفاتك ، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك .

[ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ قال : «ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده »{[1504]} وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحًا في السماوات العلا «سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى »{[1505]} ]{[1506]} .

{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } قال قتادة : فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }

وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه ، ويقطع تنازعهم ، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ، ويقيم الحدود ، ويزجر عن تعاطي الفواحش ، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب ، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك{[1507]} إمام الحرمين الإجماع ، والله أعلم ، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف ، وقد نص عليه الشافعي .

وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ فيه خلاف ، فمنهم من قال : لا يشترط ، وقيل : بلى ويكفي شاهدان . وقال الجبائي : يجب أربعة وعاقد ومعقود له ، كما ترك عمر رضي الله عنه ، الأمر شورى بين ستة ، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ، ومعقود له وهو عثمان ، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .

ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلا مسلمًا عدلا مجتهدًا بصيرًا سليم الأعضاء خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًا على الصحيح ، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الروافض ، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف ، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام : " إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان " {[1508]} وهل له أن يعزل نفسه ؟ فيه خلاف ، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك .

فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : " من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان " {[1509]} . وهذا قول الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، منهم إمام الحرمين ، وقالت الكرامية : يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة ، قالوا : وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة ؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف ، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما ، وتردد إمام الحرمين في ذلك ، قلت : وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب .


[1471]:في جـ: "أخبر".
[1472]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1473]:في أ: "إجرام".
[1474]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1475]:في جـ، ب: "فإن الله".
[1476]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1477]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1478]:في جـ: "بالمصلحة".
[1479]:في جـ: "الذي ذكروها".
[1480]:صحيح مسلم برقم (632) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[1481]:في جـ، ط: "وقال".
[1482]:في جـ: "أحمد".
[1483]:في جـ، ط، ب: "النبي".
[1484]:تفسير ابن أبي حاتم (1/108).
[1485]:في جـ: "فقالوا".
[1486]:في جـ: "وحكم".
[1487]:في جـ، ط، أ: "حقها".
[1488]:زيادة من جـ.
[1489]:في جـ: "ألحقوهم".
[1490]:تفسير الطبري (1/450).
[1491]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1492]:زيادة من جـ.
[1493]:في جـ، ط: "أيضا".
[1494]:في أ: "بكر".
[1495]:تفسير ابن أبي حاتم (1/109).
[1496]:في أ، و: "أفأمنوا برأيهم".
[1497]:في جـ: "يفسدون في الأرض".
[1498]:زيادة من جـ، ط، ب، أ.
[1499]:تفسير عبد الرزاق (1/65).
[1500]:في أ، و: "لها".
[1501]:في أ، و: "ما أخبرها".
[1502]:زيادة من جـ.
[1503]:تفسير عبد الرزاق (1/65).
[1504]:صحيح مسلم برقم (2731).
[1505]:ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق مسكين بن ميمون عن عروة بن رويم، عن عبد الرحمن بن قرط رضي الله عنه به مرفوعا وسيأتي من رواية الطبراني عند تفسير الآية: 44 من سورة الإسراء.
[1506]:زيادة من جـ، ط، ب، أ.
[1507]:في أ: "تلك".
[1508]:رواه البخاري في صحيحه برقم (7055) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[1509]:رواه مسلم في صحيحه برقم (1852) من حديث عرفجة رضي الله عنه.