وبعد هذا البيان الجامع الحكيم لطرق التعامل التي أباحها الله - تعالى - لعباده والتي حرمها عليهم ، بين سبحانه - أن ما في السموات والأرض ملك له ، وأنه سيحاسب عباده بما يقتضيه علمه الشامل ، وإرادته النافذة فقال - تعالى - .
{ للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي . . . }
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 284 )
ما دام الأمر كذلك فعليكم - أيها المؤمنون - أن تبذلوا نهاية جهدكم في العمل الصالح الذي بين أيديكم إنما هو عارية مستردة ، وأن المالك الحقيقي له إنما هو الله رب العالمين ، فأنفقوا من هذا المال - الذي هو أمانة بين أديكم - في وجوه الخير واجمعوه م نطريق حلال ، وكونوا من القوم العقلاء الصالحين الذين لم تشغلهم دنياهم عن أخراهم ، بل كانوا كما قالوا : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار } وقوله - سبحانه - : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } بيان لشمول علم الله - تعالى - لما أظهره الإِنسان أو أخفاه من أقوال وأعمال ، وأنه سيحاسبه على ذلك بما يستحقه من خير أو شر .
والجملة الكريمة صريحة في أن الله - تعالى - يحاسب العباد على نياتهم وما تكسبه قلوبهم سواء أأخفوه أم أظهروه .
وقد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنم اتكون على ما يعزم عليه الإِنسان وينويه ويصر على فعله ، سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته : كمن عزم على السرقة واتخذ الوسائل لذلك ولكن لم يستطع التنفيذ لأسباب لم يتمكن معها من السرقة التي أصر عليها .
أما الخواطر النفسية التي تجول في النفس ، وتعرض للإِنسان دون أن يعزم على تنفيذها ، فإنها ليست موضع مؤاخذة ، بل إن التغلب عليها ، وكفها بعد مكافحتها يجعله أهلاً للثواب .
ففي الحصحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله - تعالى - : إذا هم عبدى بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشر " .
وروى الجماعة في كتبهم عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوزوا لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم " .
قال الفخر الرازي : الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين : فمنها ما يوطن الإِنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ، ومنها ما لا يكون كذلك ، بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإِنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس .
فالقسم الأول يكون مؤاخذاً به .
والثاني لا يكون مؤاخذاً به ، ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وقال الآلوسي : المؤاخذة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ، وليس كذلك سائر ما يحدث في النفس - أي من خواطر لا تصميم ولا عزم معها - قال بعضهم :
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا . . . فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت . . . سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
وقوله - تعالى - : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } بيان لنتيجة المحابة التي تكون من الخالق - عز وجل - لعباده .
أي : أنه - سبحانه - بمقتضى علمه الشامل ، وإرادته النافذة ، يحاسب عباده على ما أسروه وما أعلنوه من أقوال وأعمال ، فيغفر بفضله لمن يشاء أو يغفر له ، ويعذب بعدله من يشاء أن يعذبه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه .
وقوله : ( فيغفر ) ويعذب ، قرأه عاصم وابن عامر ويعقوب وأبو جعفر برفع الراء والباء على الاستئناف أي فهو يغفر : وقرأ الباقون بإسكانهما عطفاً على جواب الشرط وهو قوله : { يُحَاسِبْكُمْ } .
وقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته - سبحانه - على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما سبق ذكره من المحاسبة لعباده ، وإثابة من يشاء إثابته وتعذيب من يشاء تعذيبه ، فهو القاهر فوق عباده ، وهو الحكيم الخبير .
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة ، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما ، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت ، المجازي عليها ، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب ، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب !
( لله ما في السماوات وما في الأرض . وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله على كل شيء قدير ) .
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت ؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة ، بذلك الرباط الوثيق ، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء . فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية . . وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم . . وهي والتشريع في الإسلام متكاملان . فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها ؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له . صنعة إلهية متكاملة متناسقة . تربية وتشريع . وتقوى وسلطان . . ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان . فأنى تذهب شرائع الأرض ، وقوانين الأرض ، ومناهج الأرض ؟ أنى تذهب نظرة إنسان قاصر ، محدود العمر ، محدود المعرفة ، محدود الرؤية ، يتقلب هواه هنا وهناك ، فلا يستقر على حال ، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي ، ولا على رؤية ، ولا على إدراك ؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها . ربها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق ، والذي يعلم ما يصلح لخلقه ، في كل حالة وفي كل آن ؟
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه . الشقوة التي بدأت في الغرب هربا من الكنيسة الطاغية الباغية هناك ؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا ؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر . . فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس ، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها . ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال ، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه ! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله . . وكانت الشقوة وكان البلاء ! !
فأما نحن - نحن الذين نزعم الإسلام - فما بالنا ؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه ؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال ، ويحط عنا الأثقال ، ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح ؟ !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.