تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفيل مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة " الكافرون " . يُخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقصة أصحاب الفيل الذين قصدوا هدم الكعبة . ويبين له ما حوته تلك القصة من عبرة دالة على حرمة هذا البيت الحرام ، وقدرة الله تعالى وانتقامه من المعتدين على حرماته . . وكيف سلط عليهم من جنوده ما قطع دابرهم وردّهم خاسرين .

وسيرة أبرهة الحبشي وغزوه لبيت الله لهدمه مبسوطة في كتب السيرة والتاريخ . وقد كان هذا الحدث الهام في عام مولد النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه ، سنة خمسمائة وسبعين ميلادية .

{ أصحاب الفيل } : أبرهة الحبشيّ وجيشُه الذين جاءوا لهدم الكعبة .

حادثُ الفيل معروفٌ متواتر لدى العرب . وقد جعلوه مبدأَ تاريخٍ يؤرخون به فيقولون : وُلدِ عامَ الفيل . وحدث كذا عامَ الفيل . . وكان سنةَ خمسمائة وسبعين ميلادية . وفي ذلك العام وُلدِ النبيُّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .

ألم تعلم يا محمدُ ماذا صنع اللهُ العظيمُ بأصحابِ الفيلِ ، جيشِ أبرهةَ ، الّذين جاءوا لهدْم الكعبة ؟

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الفيل ، وهي مكية .

{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }

أي : أما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه ، ورحمته بعباده ، وأدلة توحيده ، وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ما فعله الله بأصحاب الفيل .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفيل

مكية ، وآياتها خمس .

{ بسم الله الرحمن الرحيم } { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } وكانت قصة أصحاب الفيل -على ما ذكره محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، عن ابن عباس ، وذكره الواقدي- : أن النجاشي ملك الحبشة كان قد بعث أرياطا إلى أرض اليمن فغلب عليها ، فقام رجل من الحبشة ، يقال له : أبرهة بن الصباح أبو مكتوم ، فساخط أرياط في أمر الحبشة ، حتى انصدعوا صدعين ، وكانت طائفة مع أرياط ، وطائفة مع أبرهة ، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياط ، واجتمعت الحبشة لأبرهة ، وغلب على اليمن وأقره النجاشي على عمله . ثم إن أبرهة رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله ، فبنى كنيسة بصنعاء وكتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها ، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب ، فسمع به رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إليها مستخفياً فدخلها ليلاً فقعد فيها وتغوط بها ، ولطخ بالعذرة قبلتها ، فبلغ ذلك أبرهة فقال : من اجترأ علي ولطخ كنيستي بالعذرة ؟ فقيل له : صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت ، فحلف أبرهة عند ذلك : ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها ، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه بفيله ، وكان له فيل يقال له محمود ، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوة ، فبعث به إليه ، فخرج أبرهة من الحبشة سائراً إلى مكة ، وخرج معه بالفيل ، فسمعت العرب بذلك فاستعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم ، فخرج ملك من ملوك اليمن ، يقال له : ذو نفر ، بمن أطاعه من قومه ، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر ، فقال : أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي ، فاستحياه وأوثقه . وكان أبرهة رجلاً حليماً . ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم ، خرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن ، فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيل ، فقال نفيل : أيها الملك إني دليل بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ، فاستبقاه ، وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال : أيها الملك نحن عبيدك ، ليس لك عندنا خلاف ، وقد علمنا أنك تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ، فبعثوا معه أبا رغال ، مولىً لهم ، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره ، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة ، يقال له : الأسود بن مسعود ، على مقدمة خيله ، وأمره بالغارة على نعم الناس ، فجمع الأسود إليه أموال الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير . ثم إن أبرهة بعث حباطة الحميري إلى أهل مكة ، وقال : سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه ، أخبره أني لم آت لقتال ، إنما جئت لأهدم هذا البيت . فانطلق حتى دخل على مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم ، فقال : إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه ، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم . فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال ، ولا له عندنا إلا أن نخلي بينه وبين ما جاء له ، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا قوة إلا به . قال : فانطلق معي إلى الملك ، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم المعسكر ، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فأتاه فقال : يا ذا نفير ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيةً ، ولكن سأبعث إلى أنيس ، سائس الفيل ، فإنه لي صديق فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده ، قال : فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إن هذا سيد قريش صاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي ، أحب ما وصل إليه من الخير ، فدخل أنيس على أبرهة فقال : أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، يستأذن إليك ، وأحب أن تأذن له فيكلمك ، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك ، فأذن له ، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً ، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه ، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته ، فهبط إلى البساط فجلس عليه ثم دعاه فأجلسه معه ، ثم قال لترجمانه قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال له الترجمان ذلك ، فقال عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي ، فقال أبرهة لترجمانه قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، وقد زهدت فيك ، قال عبد المطلب : لم ؟ قال : جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها ؟ قال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل ، وإن لهذا البيت رباً سيمنع عنه من يقصده بسوء ، قال : ما كان ليمنعه مني ، قال : فأنت وذاك ، فأمر بإبله فردت عليه . فلما ردت الإبل إلى عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر الذي وقع بينه وبين أبرهة ، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال ، تخوفاً عليهم من معرة الجيش ، ففعلوا ، وأتى عبد المطلب الكعبة ، وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا*** يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا*** امنعهم أن يخربوا قراكا

وقال أيضاً :

لاهم إن العبد يم*** نع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصل***يب وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم*** ومحالهم غدواً محالك

جروا جموع بلادهم*** والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم*** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع*** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك عبد المطلب الحلقة ، وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه ، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه وهيأ فيله ، وكان فيلاً لم ير مثله في العظم والقوة ، ويقال : كان معه اثنا عشر فيلاً . فأقبل نفيل إلى الأعظم ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، فبرك الفيل ، فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى ، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، فصرفوه إلى الحرام فبرك وأبى أن يقوم . وخرج نفيل يشتد حتى صعد في أعلى الجبل ، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، أمثال الحمص والعدس ، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك ، وليس كل القوم أصابت ، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاؤوا منه ، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال ، فصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل مهلك . وبعث الله على أبرهة داءً في جسده فجعل يتساقط أنامله كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة من قيح ودم ، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فيمن بقي من أصحابه ، وما مات حتى انصدع صدره من قلبه ثم هلك . قال الواقدي : وأما محمود ، فيل النجاشي ، فربض ولم يسر إلى الحرم فنجا ، والفيل الآخر شجعوا فحصب . وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل : أن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى أرض النجاشي فدنوا من ساحل البحر ، وثم بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل ، فنزلوا فأججوا ناراً فاصطلوا ، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف ، فهاجت الريح فاضطرم الهيكل ناراً ، فانطلق الصريخ إلى النجاشي ، فأسف واغتاظ غيظاً شديدا ، فبعث أبرهة لهدم الكعبة . وقال فيه : إنه كان في مكة يومئذ أبو مسعود الثقفي ، وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتوا بمكة ، وكان رجلاً نبيلاً تستقيم الأمور برأيه ، وكان خليلاً لعبد المطلب ، فقال له عبد المطلب : ماذا عندك ؟ هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك . فقال أبو مسعود : اصعد بنا إلى حراء فصعد الجبل ، فقال أبو مسعود لعبد المطلب : اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها لله ، وقلدها نعلاً ، ثم أرسلها في الحرم لعل بعض هذه السودان يعقر منها شيئاً ، فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم ، ففعل ذلك عبد المطلب ، فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها ، وجعل عبد المطلب يدعو ، فقال أبو مسعود : إن لهذا البيت رباً يمنعه ، فقد نزل تبع ملك اليمن صحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه ، وأظلم عليه ثلاثة أيام ، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض ، وعظمه ونحر له جزوراً . ثم قال أبو مسعود : فانظر نحو البحر ، فنظر عبد المطلب : فقال : أرى طيراً بيضاء نشأت من شاطئ البحر ، فقال : ارمقها ببصرك أين قرارها ؟ قال أراها قد دارت على رؤوسنا ، قال : فهل تعرفها ؟ قال : فوالله ما أعرفها ما هي بنجدية ، ولا تهامية ، ولا عربية ولا شامية ، قال : ما قدرها ؟ قال : أشباه اليعاسيب ، في منقارها حصىً كأنها حصى الحذف ، قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضاً ، أمام كل فرقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، فجاءت حتى إذا حازت بعسكر القوم وكدت فوق رؤوسهم ، فلما توافت الرجال كلها أهالت الطير ما في مناقرها على من تحتها ، مكتوب في كل حجر اسم صاحبه ، ثم إنها انصاعت راجعة من حيث جاءت ، فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا ربوة فلم يؤنسا أحدا ، ثم دنوا ربوة فلم يسمعا حساً فقالا : بات القوم ساهرين ، فأصبحوا نياما ، فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون ، وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه ويخرق الدابة والفيل ، ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه ، فعمد عبد المطلب فأخذ فأساً من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأها من أموالهم من الذهب الأحمر والجوهر ، وحفر لصاحبه حفرة فملأها كذلك ، ثم قال لأبي مسعود : هات فاختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك ، وإن شئت فهما لك معاً ، قال أبو مسعود : اختر لي على نفسك ، فقال عبد المطلب : إني لم أر أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك ، وجلس كل واحد منهما على حفرته ، ونادى عبد المطلب في الناس ، فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعاً ، وساد عبد المطلب بذلك قريشاً وأعطته القيادة ، فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنىً من ذلك المال ، ودفع الله عن كعبته وبيته . واختلفوا في تاريخ عام الفيل ، فقال مقاتل : كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة . وقال الكلبي : بثلاث وعشرين سنة . والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله عز وجل : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } قال مقاتل : كان معهم فيل واحد . وقال الضحاك : كانت الفيلة ثمانية . وقيل : اثنا عشر ، سوى الفيل الأعظم ، وإنما وحد ؛ لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم . وقيل : لوفاق رؤوس الآي .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

لما قدم في الهمزة أن كثرة الأموال المسببة بالقوة بالرجال ربما أعقبت الوبال ، دل عليه في هذه بدليل شهودي وصل في تحريقه وتغلغله في الأجسام وتجريفه إلى القلوب في العذاب الأدنى كما ذكر فيما قبلها للعذاب الأكبر الأخفى ، محذراً من الوجاهة في الدنيا وعلو الرتبة ، مشيراً إلى أنها كلما عظمت زاد ضررها بما يكسبه من الطغيان حتى ينازع صاحبها الملك الأعلى ، ومع كونه شهودياً فللعرب -ولا سيما قريش- به الخبرة التامة ، فقال مقرراً منكراً على من يخطر له خلاف ذلك : { ألم تر } أي تعلم علماً هو في تحققه كالحاضر المحسوس بالبصر ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد تلك الوقعة فإنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر مع إعلام الله له أخبارها ، وخصه صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأن ذلك لا يعلمه ويعمل به إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن وفقه الله لحسن اتباعه ، لما للإنسان من علائق النقصان ، وعلائق الحظوظ والنسيان ، وقرىء " تر " باسكان الراء ، قالوا : جداً في إظهار أثر الجازم ، وكأن السر في هذه القراءة الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية ، إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر ، من لم يعتن به ويسارع إلى تعمده لا يدركه حق إدراكه .

ولما كان للناظر في الكيفية من التدقيق والوقوف على التحقيق في وجوه الدلالات على كمال علم الله وقدرته وإعزاز نبيه بالإرهاص لنبوته والتمكين لرسالته لتعظيم بلده وتشريف قومه ما ليس للناظر إلى مطلق الفعل قال : { كيف } ، دون أن يقول : ما { فعل } أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل ، وفعل الرؤية معلق عن " كيف " لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه ؛ بل ناصبه فعل ، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق { ربك * } أي المحسن إليك ، ومن إحسانه إحسانه إلى قومك بك وبهذه الواقعة الخارقة للعادة إرهاصاً لنبوتك كما هو معلوم من أخبار الأنبياء المتقدمين فيما يقع بين أيدي نبواتهم من مثل ذلك ، ليكون مؤيداً لادعائهم النبوة بعد ذلك ، وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالخطاب والتعبير بالرب مع التشريف له ، والإشارة بذكره التعريض بحقارة الأصنام التي سموها أرباباً لهم ، يعلم ذلك منهم علم اليقين من آمن ، ومن استمر على كفره فسيعلم ذلك حق اليقين عندما يسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالبلد الحرام ، ويحلها له على أعلى حال ومرام { بأصحاب الفيل * } أي الذين قصدوا انتهاك حرمات الله سبحانه وتعالى فيخربوا بيته ويمزقوا جيرانه بما أوصلهم إلى البطر من الأموال والقوة التي منّ عليهم سبحانه وتعالى بها ، فحسبوا أنها تخلدهم ، فبان أنها توردهم المهالك ضد ما حسبوه ، وهم الحبشة الذين كانوا غلبوا على بلاد اليمن ، بنى أميرهم وهو أبو يكسوم أبرهة بن الصباح الأشرم بيعة بصنعاء وسماها القليس وزن قبيط ، وأراد أن يصرف إليها - فيما زعم - حج العرب ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً ، يعني تغوط ولطخها به ، فأغضب ذلك الأشرم ، فسأل فقيل له : نرى الفاعل من أهل البيت الذي بمكة ، فحلف ليهدمنَّ الكعبة . ومن عجائب صنع الله أنه ألهمه سبحانه وتعالى تسميتها هذا الاسم الذي هو مشتق من القلس الذي أحد معانيه أنه ماء خرج من الحلق ملء الفم ، فهو مبدأ القيء الذي هو أخو الغائط الذي آل أمرها إليه ، فكان سبب هلاكها بهلاك بانيها ، وذلك أنه غضب من ذلك فخرج بجيشه لهدم بيت الله الكعبة ومعه أفيال كثيرة منها فيل عظيم اسمه محمود ، فقاتله بعض العرب فهزمهم وقتل منهم ، فلما دوّخهم دانوا له ، فلما وصل إلى المغمس خرج إليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، فعرض عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ، وقيل : بل كانت طلائعه أخذت له مائتي بعير فطلبها منه فقال : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، فزهدت فيك حين تكلمني في مائتي بعير ، وتترك كلامي في بيت هو دينكم وفيه عزكم ؟ فقال : أنا رب الإبل ، وأما البيت فله رب يمنعه ، فقال : ما كان يمنعه مني ، فقال :أنت وذاك ، فرد عليه إبله فساقها ومضى ، وأمر قريشاً أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في الجبال ، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا *** فامنعهم أن يقربوا قراكا

وقال :

لا هم إن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك

جروا جميع تلادهم *** في الفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم *** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه ، فلما أصبح أبرهة تهيأ للدخول إلى الحرم وعبأ جيشه وقدم الفيل فبرك ، فعالجوه فلم تفد فيه حيلة ، فوجهوه إلى غير الحرم فقام يهرول ، فوجهوه إلى الحرم فبرك ، وكان هذا دأبه في ذلك اليوم ، فبينما هم كذلك إذا أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل ، كل طائر منها في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، الحجر منها أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فرمتهم بها ، فكان الحجر منها يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره ، فهلكوا جميعاً ، وأهل مكة ومن حضر من العرب في رؤوس الجبال ينظرون إلى صنع الله تعالى بهم وإحسانه إليهم - أي أهل مكة - وكان ذلك إرهاصاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك كان عام مولده ، وقال حمزة الكرماني : وفي رواية : يوم مولده ، وكأنه كان سبباً لضعفهم حتى ذهب سيف بن ذي يزن إلى كسرى وأتى منه بجيش فاستأصل بقيتهم - كما هو مشهور في السير ، ومأثور في الخبر ، ووفدت قريش لتهنئته بالنصرة عليهم ، وكان رئيسهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبشره سيف بأنه يولد له ولد اسمه محمد فأعلمه بأن ولد وأن أباه توفي ، فأخبره سيف بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان ، وأن يثرب مهاجره ، وأنه لو علم أنه يعيش إلى زمن بعثته لأتى يثرب وجعلها قراره حتى ينصر النبي صلى الله عليه وسلم بها ويظهر نبوته .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك ، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم ، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم ، حتى هموا بهدم البيت المكرم ، فتعجلوا النقمة ، وجعل الله كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، أي جماعات متفرقة ، ترميهم بحجارة من سجيل ، حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم ، فجعلهم كعصف مأكول ، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم . انتهى .