مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : من أولها إلى قوله تعالى : " سنسمه على الخرطوم{[1]} " [ القلم : 16 ] مكي . ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : " أكبر لو كانوا يعلمون{[2]} " [ القلم : 33 ] مدني . ومن بعد ذلك إلى قوله : " يكتبون{[3]} " [ القلم : 47 ] مكي . ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : " من الصالحين{[4]} " [ القلم : 50 ] مدني ، وما بقي مكي ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : " ن والقلم " أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب . والباقون بالإظهار . وقرأ عيسى بن عمر بفتحها ، كأنه أضمر فعلا . وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف القسم . وقرأ هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء . واختلف في تأويله ، فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ن لوح من نور ) . وروى ثابت البناني أن " ن " الدواة . وقاله الحسن وقتادة . وروى الوليد بن مسلم قال : حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ، وذلك قوله تعالى : " ن والقلم " ثم قال له اكتب قال : وما أكتب قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة - قال - ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة . ثم خلق العقل فقال الجبار : ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأُكَمِّلَنَّكَ فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ) قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته ) . وعن مجاهد قال : " ن " الحوت الذي تحت الأرض السابعة . قال : " والقلم " الذي كتب به الذكر . وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي : إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون . وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن ، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره ، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض . ثم قرأ ابن عباس " ن والقلم " الآية . وقال الكلبي ومقاتل : اسمه البهموت{[15216]} . قال الراجز :
مالي أراكم كلكم سكوتَا *** والله ربي خلق البَهْمُوتَا
وقال أبو اليقظان والواقدي : ليوثا . وقال كعب : لوثوثا . وقال : بلهموثا{[15217]} . وقال كعب : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه ، وقال : أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها ، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع ، فهم ليوثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه ، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت . قال كعب : فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه ، إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت . وقال الضحاك عن ابن عباس : إن " ن " آخر حروف من حروف الرحمن . قال : الر ، وحم ، ون ، الرحمن تعالى متقطعة . وقال ابن زيد : هو قسم أقسم تعالى به . وقال ابن كيسان : هو فاتحة السورة . وقيل : اسم السورة . وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه نصير ونور وناصر . وقال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين ، وهو حق . بيانه قوله تعالى : " وكان حقا علينا نصر المؤمنين{[15218]} " [ الروم : 47 ] وقال جعفر الصادق : هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون . وقيل : هو المعروف من حروف المعجم ؛ لأنه لو كان غير ذلك لكان معربا ، وهو اختيار القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره . قال : لأن " ن " حرف لم يعرب ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور . وعلى هذا قيل : هو اسم السورة ، أي هذه السورة " ن " . ثم قال : " والقلم " أقسم بالقلم لما فيه من البيان كاللسان ؛ وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض ، ومنه قول أبي الفتح البستي :
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم *** وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكُتَّاب عزا ورفعة *** مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة ، ما ذكرناه أعلاه . وقال ابن عباس : هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله ، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة . قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض . ويقال . خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين ، فقال : اجْرِ ، فقال : يا رب بم أجري ؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ . وقال الوليد بن عبادة بن الصامت : أوصاني أبي عند موته فقال : يا بني ، اتق الله ، واعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده ، والقدر خيره وشره ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب فقال : يا رب وما أكتب ؟ فقال : اكتب القدر ، فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد ) . وقال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم ، فأمره أن يكتب ما هو كائن ، فكتب فيما كتب " تبت يدا أبي لهب " [ المسد : 1 ] . وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى على عباده . قال غيره : فخلق الله القلم الأول فكتب ما يكون في الذكر ، ووضعه عنده فوق عرشه ، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض ، على ما يأتي بيانه في سورة " اقرأ باسم ربك{[15219]} " [ العلق : 1 ] .
قوله تعالى : " وما يسطرون " أي وما يكتبون . يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ، قاله ابن عباس : وقيل : وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به . وقال ابن عباس : ومعنى " وما يسطرون " وما يعلمون . و " ما " موصولة أو مصدرية ، أي ومسطوراتهم أو وسطرهم ، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة ، على الخلاف .
مكية إلا من آية 17 إلى غاية آية 33 ومن آية 48 إلى غاية آية 50 فمدنية وآياتها 52 نزلت بعد العلق .
{ ن } حرف من حروف الهجاء ، وقد تقدم الكلام عليها في البقرة . ويختص ن بأنه قيل : إنه حرف من الرحمن ، فإن حروف الرحمن ألف ولام وراء وحاء وميم ون .
وقيل : إن نون هنا يراد به الحوت ، وزعموا أنه الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبعة ، وهذا لا يصح ، على أن نون بمعنى الحوت معروف في اللغة ومنه ذو النون .
وقيل : إن نون هنا يراد به الدواة ، وهذا غير معروف في اللغة ، ويبطل قول من قال : إنه الحوت أو الدواة ، بأنه لو كان كذلك لكان معربا بالرفع أو النصب أو الخفض ، ولكان في آخره تنوين ، فكونه موقوفا دليل على أنه حرف هجاء ، نحو ألم وغيره من حروف الهجاء الموقوفة .
{ والقلم وما يسطرون } اختلف فيه على قولين :
أحدهما : أنه القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ فالضمير في { يسطرون } للملائكة .
والآخر : أنه القلم المعروف عند الناس أقسم الله به لما فيه من المنافع والحكم والضمير في { يسطرون } على هذا لبني آدم .
هذه السورة مكية وآياتها ثنتان وخمسون . وهي مبدوءة بالقسم من الله ، إذ يقسم بالقلم وبما يكتبه الكاتبون ، على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته وأنه غير مجنون ، كما يهذي السفهاء والجهلاء من المشركين الضالين . بل إنه في غاية الحسن والكمال من الخلق البشري المفضال بشهادة الله الخالق { وإنك لعلى خلق عظيم } .
وفي السورة تحذير من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الاغترار بالمشركين المكذبين ، ومن مداهنتهم وكيدهم وإضلالهم . وفيها تخويف من أهوال القيامة وما يقع فيها من أحداث مخوفة جسام . ويتجلى ذلك في قوله سبحانه : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } لا جرم أن الساعة رعيبة مخوفة ، وفيها من البلايا والنوازل والفظائع ما يزلزل القلوب والأبدان .
وفي السورة بيان بحقيقة العين الحاسدة ، التي تزلق المصابين المحسودين ، لنبين عند ذلك أن سبيل التحرز من حسد الحاسدين ، قراءة القرآن ، ثم الضراعة إلى الله بالدعاء .
إلى غير ذلك من المعاني والمواعظ التي تفيض بها هذه السورة في آياتها العجاب ، وعباراتها المثيرة الحسان ، وألفاظها الربانية العليا .
{ ن والقلم وما يسطرون 1 ما أنت بنعمة ربك بمجنون 2 وإن لك لأجرا غير ممنون 3 وإنك لعلى خلق عظيم 4 فستبصر ويبصرون 5 بأييّكم المفتون 6 إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } .
{ ن } حرف من حروف التهجي كغيره من فواتح السور وقد سميت به السورة ، وما ينبغي أن نذهب بعيدا في تأويل هذا الحرف ، كي لا نوغل أو نتيه في الشطحات من الإسرائيليات . فالله أعلم بما يريده من مثل هذه الحروف .
قوله : { والقلم وما يسطرون } أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان وما يناط به من التبيين . وهو في ذلك كاللسان ينطق بالمعاني فتعيها الآذان وتدركها الأذهان . وفي القسم من الله بالقلم ما يدل على الأهمية البالغة للقلم الذي تخطّ به العلوم والمعارف وكل الدروس والأخبار والحكم . والمراد به كل قلم مما يكتب به الكاتبون سواء في الأرض أو السماء { وما يسطرون } ما ، اسم موصول . أي والذي يسطرون . والضمير عائد إلى أصحاب القلم الذين يكتبون به . والمعنى : وما يكتبه الكاتبون من الناس أو الملائكة الحفظة .