في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة

هذه سورة الطلاق ، يبين الله فيها أحكامه ، ويفصل فيها الحالات التي لم تفصل في السورة الأخرى " سورة البقرة " التي تضمنت بعض أحكام الطلاق ؛ ويقرر فيها أحكام الحالات المتخلفة عن الطلاق من شؤون الأسرة . وقد تضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله الله ويجري وفق سنته : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) . .

وحق المطلقة وواجبها في البقاء في بيتها - وهو بيت مطلقها - فترة العدة لا تخرج ولا تخرج إلا أن تأتي بفاحشة مبينة : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) . .

وحقها بعد انقضاء العدة في الخروج لتفعل بنفسها ما تشاء ، ما لم يكن الزوج قد راجعها وأمسكها في فترة العدة ، لا ليضارها ويؤذيها بهذا الإمساك ويعطلها عن الزواج ، ولكن لتعود الحياة الزوجية بينهما بالمعروف : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) . . وهذا مع الإشهاد على الإمساك أو الفراق : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) . .

وفي سورة البقرة بين مدة العدة للمطلقة ذات الحيض - وهي ثلاثة قروء بمعنى ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف فقهي - وهنا بين هذه المدة بالنسبة للآيسة التي انقطع حيضها وللصغيرة التي لم تحض : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) . .

وبين عدة الحامل : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) . .

ثم فصل حكم المسكن الذي تعتد فيه المعتدة ونفقة الحمل حتى تضع : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن . وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) . .

ثم حكم الرضاعة لولد المطلقة حين تضعه ، وأجر الأم على الرضاعة في حالة الإتفاق بينها وبين أبيه على مصلحة الطفل بينهما ، وفي حالة إرضاعه من أخرى : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف . وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) . .

ثم زاد حكم النفقة والأجر في جميع الحالات تفصيلا ، فجعله تابعا لحالة الزوج وقدرته : ( لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله . لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) . .

وهكذا تتبعت النصوص سائر الحالات ، وما يتخلف عنها ، بأحكام مفصلة دقيقة ، ولم تدع شيئا من أنقاض الأسرة المفككة بالطلاق إلا أراحته في مكانه ، وبينت حكمه ، في رفق وفي دقة وفي وضوح . .

ويقف الإنسان مدهوشا أمام هذه السورة وهي تتناول أحكام هذه الحالة ومتخلفاتها . وهي تحشد للأمر هذه الحشد العجيب من الترغيب والترهيب ، والتعقيب على كل حكم ، ووصل هذا الأمر بقدر الله في السماوات والأرضين ، وسنن الله في هلاك العاتين عن أمره ، وفي الفرج والسعة لمن يتقونه . وتكرار الأمر بالمعروف والسماحة والتراضي ، وإيثار الجميل . والإطماع في الخير . والتذكير بقدر الله في الخلق وفي الرزق ، وفي اليسر والعسر . .

يقف الإنسان مدهوشا أمام هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق أمام هذا الاحتفال والاهتمام - حتى ليوجه الخطاب إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بشخصه ، وهو أمر عام للمؤمنين وحكم عام للمسلمين ، زيادة في الاهتمام وإشعارا بخطورة الأمر المتحدث فيه . وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالة حالة ، والأمر المشدد في كل حكم بالدقة في مراعاته ، وتقوى الله في تنفيذه ، ومراقبة الله في تناوله . والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب ، إطالة تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله ! وهو الدين كله ! وهو القضية التي تفصل فيها السماء ، وتقف لتراقب تنفيذ الأحكام ! وتعد المتقين فيها بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن ؛ وتوعد الملتوين والمتلكئين والمضارين بأعنف وأشد ما يلقاه عاص ؛ وتلوح للناس بالرجاء الندي والخير المخبوء وراء أخذ الأمر بالمعروف والسماحة والتجمل والتيسير .

ويقرأ القارئ في هذه السورة . . ( واتقوا الله ربكم ) . . ( وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . . ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . . ( وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) . . ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) . . ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب . . ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره . قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . . ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) . ( ذلك أمر الله أنزله إليكم ) ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ) . . ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .

كما يقرأ ذلك التهديد العنيف الطويل المفصل : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا ، وعذبناها عذابا نكرا . فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا . أعد الله لهم عذابا شديدا ) . .

يعقبه التحذير من مثل هذا المصير ، والتذكير بنعمة الله بالرسول وما معه من النور ، والتلويح بالأجر الكبير : ( فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا ، قد أنزل الله إليكم ذكرا : رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور . ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ) . .

ثم يقرأ هذا الإيقاع الهائل الضخم في المجال الكوني الكبير : ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، يتنزل الأمر بينهن ، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) . .

يقرأ هذا كله تعقيبا على أحكام الطلاق . ويجد سورة كاملة في القرآن ، من هذا الطراز ، كلها موقوفة على تنظيم هذه الحالة ومتخلفاتها كذلك ! وربطها هكذا بأضخم حقائق الإيمان في المجال الكوني والنفسي . وهي حالة تهدم لا حالة بناء ، وحالة انتهاء لا حالة إنشاء . . لأسرة . . لا لدولة . . وهي توقع في الحس أنها أضخم من إنشاء دولة !

علام يدل هذا ?

إن له عدة دلالات تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديته وانبثاقه من نبع غير بشري على وجه التأكيد . حتى لو لم تكن هناك دلالة أخرى سوى دلالة هذه السورة !

إنه يدل ابتداء على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي :

فالإسلام نظام أسرة . البيت في اعتباره مثابة وسكن ، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر ؛ وفي كنفه تنبت الطفولة ، وتدرج الحداثة ؛ ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل .

ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرا رفافا شفيفا ، يشع منه التعاطف ، وترف فيه الظلال ، ويشيع فيه الندى ، ويفوح منه العبير : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . . ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . . فهي صلة النفس بالنفس ، وهي صلة السكن والقرار ، وهي صلة المودة والرحمة ، وهي صلة الستر والتجمل . وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقا ، ويستروح من خلالها نداوة وظلا . وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق . ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها ، بما فيها امتداد الحياة بالنسل ، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة ، ويعترف بطهارتها وجديتها ، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها . ذلك حين يقول : ( نساؤكم حرث لكم ) . فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار .

ويحيط الإسلام هذه الخلية ، أو هذا المحضن ، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته . وحسب طبيعة الإسلام الكلية ، فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية ، بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية .

والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها ، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات ، وفي الإحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات ؛ وفي ربط هذا الشأن بالله مباشرة في كل موضع ، كما هو الحال في هذه السورة وفي غيرها . . يدرك إدراكا كاملا ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي ، وقيمة هذا الأمر عند الله ، وهو يجمع بين تقواه - سبحانه - وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا ) . . كما يجمع بين عبادة الله والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) . . وبين الشكر لله والشكر للوالدين في سورة لقمان : ( أن اشكر لي ولوالديك ) . .

وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداء على أساس الأسرة ، حين جرى قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه ، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى . وكان الله - سبحانه - قادرا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعةواحدة . ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق ، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته ، وحيث تنمي شخصيته وفضائله ، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته . ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي - منهج الله الأخير في الأرض - مع القدر الإلهي في خلقة الإنسان ابتداء . كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن الله بلا تفاوت ولا اختلاف .

والدلالة الثانية لسياق السورة ، وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله ، هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله ؛ واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية - لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية ، وعند أتباع الديانات المحرفة ، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها .

[ إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ، إنما ينظمها ويطهرها ، ويرفعها عن المستوى الحيواني ، ويرقيها حتى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية . ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية ، التي تجعل من التقاء جسدين ، التقاء نفسين وقلبين وروحين . وبتعبير شامل التقاء إنسانين ، تربط بينهما حياة مشتركة ، وآمال مشتركة ، وآلام مشتركة ، ومستقبل مشترك ، يلتقي في الذرية المرتقبة ، ويتقابل في الجيل الجديد ، الذي ينشأ في العش المشترك ، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان ] .

ويعد الإسلام الزواج وسيلة للتطهر والارتفاع فيدعو الأمة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عقبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم . وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . . ويسمي الزواج إحصانا أي وقاية وصيانة . ويستقر في أخلاد المؤمنين أن البقاء بدون إحصان ولو فترة قصيرة لا ينال رضى الله . فيقول الإمام علي - كرم الله وجهه - وقد سارع بالزواج عقب وفاة زوجه فاطمة بنت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد خشيت أن ألقى الله وأنا عزب " . . فيدخل الزواج في عرف المؤمن في الطاعات التي يتقرب بها إلى ربه . وترتفع هذه الصلة إلى مكان القداسة في ضميره بما أنها إحدى الطاعات لربه .

والدلالة الثالثة لسياق سورة الطلاق ونظائرها هي واقعية هذا النظام الإسلامي ومعاملته للحياة وللنفس البشرية كما هي في فطرتها ، مع محاولة رفعها إلى ذلك المستوى الكريم ، عن طريق استعداداتها وملابسات حياتها . ومن ثم لا يكتفي بالتشريع الدقيق في هذا الأمر الموكول إلى الضمير . ولا يكتفي بالتوجيه . ويستخدم هذا وذاك في مواجهة واقع النفس وواقع الحياة .

إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار . والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها . وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات ، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات ، ويفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف ولا تتلفت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق ! ويفرض حد الزنا وحد القذف ؛ ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليهاوالاستئذان بين أهلها في داخلها .

وينظم الارتباطات الزوجية بشريعة محددة ، ويقيم نظام البيت على أساس قوامة أحد الشريكين وهو الأقدر على القوامة ، منعا للفوضى والاضطراب والنزاع . . إلى آخر الضمانات والتنظيمات الواقية من كل اهتزاز . فوق التوجيهات العاطفية . وفوق ربط هذه العلاقة كلها بتقوى الله ورقابته .

ولكن الحياة الواقعية للبشر تثبت أن هناك حالات تتهدم وتتحطم على الرغم من جميع الضمانات والتوجيهات . وهي حالات لا بد أن تواجه مواجهة عملية ، اعترافا بمنطق الواقع الذي لا يجدي إنكاره حين تتعذر الحياة الزوجية ، ويصبح الإمساك بالزوجية عبثا لا يقوم على أساس !

" والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدسة فيفصمه لأول وهلة ، ولأول بادرة من خلاف . إنه يشد على هذا الرباط بقوة ، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس .

" إنه يهتف بالرجال : ( وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية ، ويفتح لهم تلك النافذة المجهولة : ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )فما يدريهم أن في هؤلاء النسوة المكروهات خيرا ، وأن الله يدخر لهم هذا الخير . فلا يجوز أن يفلتوه . إن لم يكن ينبغي لهم أن يستمسكوا به ويعزوه ! وليس أبلغ من هذا في استحياء الإنعطاف الوجداني واستثارته ، وترويض الكره وإطفاء شرته .

" فإذا تجاوز الأمر مسألة الحب والكره إلى النشوز والنفور ، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام . بل لا بد من محاولة يقوم بها الآخرون ، وتوفيق يحاوله الخيرون : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله ، وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليما خبيرا ) . . ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا . فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ) . .

[ فإذا لم تجد هذه الوساطة ، فالأمر إذن جد ، وهناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة ، ولا يستقر لها قرار . وإمساك الزوجية على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة ، يزيدها الضغط فشلا ، ومن الحكمة التسليم بالواقع ، وإنهاء هذه الحياة على كره من الإسلام ، فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] .

فإذا أراد أن يطلق فليس في كل لحظة يجوز الطلاق . إنما السنة أن يكون في طهر لم يقع فيه وطء . . وفي هذا ما يؤجل فصم العقدة فترة بعد موقف الغضب والانفعال . وفي خلال هذه الفترة قد تتغير النفوس ، وتقر القلوب ، ويصلح الله بين المتخاصمين فلا يقع الطلاق !

ثم بعد ذلك فترة العدة . ثلاثة قروء للتي تحيض وتلد . وثلاثة أشهر للآيسة والصغيرة . وفترة الحمل للحوامل . وفي خلالها مجال للمعاودة إن نبضت في القلوب نابضة من مودة ، ومن رغبة في استئناف ما انقطع من حبل الزوجية .

ولكن هذه المحاولات كلها لا تنفي أن هناك انفصالا يقع ، وحالات لا بد أن تواجهها الشريعة مواجهة عملية واقعية ، فتشرع لها ، وتنظم أوضاعها ، وتعالج آثارها . وفي هذا كانت تلك الأحكام الدقيقة المفصلة ، التي تدل على واقعية هذا الدين في علاجه للحياة ، مع دفعها دائما إلى الأمام . ورفعها دائما إلى السماء .

والدلالة الرابعة للسورة وما فيها من الترغيب والترهيب والتعقيب والتفصيل الشديد والتوكيد ، هو أنها كانت تواجه حالات واقعة في الجماعة المسلمة متخلفة من رواسب الجاهلية ، وما كانت تلاقيه المرأة من العنت والخسف ، مما اقتضى هذا التشديد ، وهذا الحشد من المؤثرات النفسية ، ومن التفصيلات الدقيقة ، التي لا تدع مجالا للتلاعب والالتواء مع ما كان مستقرا في النفوس من تصورات متخلفة عن علاقات الجنسين ، ومن تفكك وفوضى في الحياة العائلية .

ولم يكن الحال هكذا في شبه الجزيرة وحدها ، إنما كان شائعا في العالم كله يومذاك . فكان وضع المرأة هو وضع الرقيق أو ما هو أسوأ من الرقيق في جنبات الأرض جميعا . فوق ما كان ينظر إلى العلاقات الجنسية نظرة استقذار ، وإلى المرأة كأنها شيطان يغري بهذه القذارة .

ومن هذه الوهدة العالمية ارتفع الإسلام بالمرأة وبالعلاقات الزوجية إلى ذلك المستوى الرفيع الطاهر الكريم الذي سبقت الإشارة إليه . وأنشأ للمرأة ما أنشأ من القيمة والاعتبار والحقوق والضمانات . . وليدة لا توأد ولا تهان . ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها ثيبا أو بكرا . وزوجة لها حقوق الرعاية فوق ضمانات الشريعة . ومطلقة لها هذه الحقوق المفصلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وغيرها . .

شرع الإسلام هذا كله . لا لأن النساء في شبه الجزيرة أو في أي مكان في العالم حينذاك شعرن بأن مكانهن غير مرض ! ولا لأن شعور الرجال كذلك قد تأذى بوضع النساء . ولا لأنه كان هناك اتحاد نسائي عربي أو عالمي ! ولا لأن المرأة دخلت دار الندوة أو مجلس الشورى ! ولا لأن هاتفا واحدا في الأرض هتف بتغيير الأحوال . . إنما كانت هي شريعة السماء للأرض . وعدالة السماء للأرض . وإرادة السماء بالأرض . . أن ترتفع الحياة البشرية من تلك الوهدة ، وأن تتطهر العلاقات الزوجية من تلك الوصمة ، وأن يكون للزوجين من نفس واحدة حقوق الإنسان وكرامة الإنسان .

. . هذا دين رفيع . . لا يعرض عنه إلا مطموس . ولا يعيبه إلا منكوس ، ولا يحاربه إلا موكوس . فإنه لا يدع شريعة الله إلى شريعة الناس إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه .

والآن نستعرض الأحكام في سياق السورة - بعد هذا الاستطراد الذي لا يبعد كثيرا عن جو هذا الجزء وما فيه من تنظيم وبناء للجماعة المسلمة - والأحكام في سياق السورة شيء آخر غير ذلك التلخيص . شيء حي . فيه روح . وفيه حركة . وفيه حياة . وفيه إيحاء . . وله إيقاع . وهذا هو الفارق الأصيل بين مدارسة الأحكام في القرآن ومدارستها في كتب الفقه والأصول .

( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ، وأحصوا العدة ، واتقوا الله ربكم ، لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وتلك حدود الله ، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه . لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . .

هذه هي أول مرحلة وهذا هو أول حكم يوجه الخطاب به إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( يا أيها النبي ) . . ثم يظهر أن الحكم خاص بالمسلمين لا بشخصه [ صلى الله عليه وسلم ] : إذا طلقتم النساء . . . الخ فيوحي هذا النسق من التعبير بما وراءه ، وهو إثارة الإهتمام ، وتصوير الجدية . فهو أمر ذو بال ، ينادي الله نبيه بشخصهليلقي إليه فيه بأمره ، كما يبلغه لمن وراءه . وهي إيحاءات نفسية واضحة الدلالة على ما يراد بها من احتفال واحتشاد .

( إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) . .

وقد ورد في تحديد معنى هذا النص حديث صحيح رواه البخاري ولفظه : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني سالم ، أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض ، فذكر عمر لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتغيظ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم قال : " ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل " . .

ورواه مسلم ولفظه : " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " . .

ومن ثم يتعين أن هناك وقتا معينا لإيقاع الطلاق ؛ وأنه ليس للزوج أن يطلق حينما شاء إلا أن تكون امرأته في حالة طهر من حيض ، ولم يقع بينهما في هذا الطهر وطء . وتفيد آثار أخرى أن هناك حالة ثانية يجوز فيها الطلاق ، وهو أن تكون الزوجة حاملا بينة الحمل . والحكمة في ذلك التوقيت هي أولا إرجاء إيقاع الطلاق فترة بعد اللحظة التي تتجه فيها النفس للطلاق ؛ وقد تسكن الفورة إن كانت طارئة وتعود النفوس إلى الوئام . كما أن فيه تأكدا من الحمل أو عدمه قبل الطلاق . فقد يمسك عن الطلاق لو علم أن زوجه حامل . فإذا مضى فيه وقد تبين حملها دل على أنه مريد له ولو كانت حاملا . فاشتراط الطهر بلا وطء هو للتحقيق من عدم الحمل ، واشتراط تبين الحمل هو ليكون على بصيرة من الأمر .

وهذه أول محاولة لرأب الصدع في بناء الأسرة ، ومحاولة دفع المعول عن ذلك البناء .

وليس معنى هذا أن الطلاق لا يقع إلا في هذه الفترة . فهو يقع حيثما طلق . ولكنه يكون مكروها من الله ، مغضوبا عليه من رسول الله . وهذا الحكم يكفي في ضمير المؤمن ليمسك به حتى يأتي الأجل . فيقضي الله ما يريد في هذه المسألة .

( وأحصوا العدة ) . .

كي لا يكون في عدم إحصائها إطالة للأمد على المطلقة ، ومضارة لها بمنعها من الزواج بعد العدة . أو نقص في مدتها لا يتحقق به الغرض الأول ، وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل المستكن حفظا للأنساب . ثم هو الضبط الدقيق الذي يوحي بأهمية الأمر ، ومراقبة السماء له ، ومطالبة أصحابه بالدقة فيه !

( واتقوا الله ربكم . لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) .

هذا أول تنبيه - بعد وهلة النداء الأول - وأول تحذير من الله وتقديم تقواه . قبل الأمر بعدم إخراجهن من بيوتهن - وهي بيوت أزواجهن ولكنه يسميها بيوتهن لتوكيد حقهن في الإقامة بها فترة العدة - لا يخرجن منها ولا يخرجن ، إلا في حالة وقوع فاحشة ظاهرة منهن . وقد ورد أن هذه الفاحشة قد تكون الزنا فتخرج للحد : وقد تكون إيذاء أهل الزوج . وقد تكون هي النشوز على الزوج - ولو أنه مطلق - وعمل ما يؤذيه . ذلك أن الحكمة من إبقاء المطلقة في بيت الزوج هي إتاحة الفرصة للرجعة ، واستثارة عواطف المودة ، وذكرياتالحياة المشتركة ، حيث تكون الزوجة بعيدة بحكم الطلاق قريبة من العين ؛ فيفعل هذا في المشاعر فعله بين الإثنين ! فأما حين ترتكس في حمأة الزنا وهي في بيته ! أو تؤذي أهله ، أو تنشز عليه ، فلا محل لاستحياء المشاعر الطيبة ، واستجاشة المودة الدفينة . ولا حاجة إلى استبقائها في فترة العدة . فإن قربها منه حينذاك يقطع الوشائج ولا يستحييها !

( تلك حدود الله . ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . .

وهذا هو التحذير الثاني . فالحارس لهذا الحكم هو الله . فأي مؤمن إذن يتعرض لحد يحرسه الله ? ! إنه الهلاك والبوار . . ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . . ظلم نفسه لتعريضها هكذا لبأس الله القائم على حدوده يحرسها ويرعاها . وظلم نفسه بظلم زوجه . وهي وهو من نفس واحدة ، فما يظلمها يظلمه كذلك بهذا الاعتبار . . ثم . .

( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) .

وهي لمسة موحية مؤثرة . فمن ذا الذي يعلم غيب الله وقدره المخبوء وراء أمره بالعدة ، وأمره ببقاء المطلقات في بيوتهن . . إنه يلوح هناك أمل ، ويوصوص هناك رجاء . وقد يكون الخير كله . وقد تتغير الأحوال وتتبدل إلى هناءة ورضى . فقدر الله دائم الحركة ، دائم التغيير ، ودائم الأحداث . والتسليم لأمر الله أولى ، والرعاية له أوفق ، وتقواه ومراقبته فيها الخير يلوح هناك !

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطلاق

وتسمى سورة النساء القصرى كذا سماها ابن مسعود كما أخرجه البخاري وغيره وأنكره الداوودي فقال : لا أرى القصرى محفوظا ولا يقال لشيء من سور القرآن : قصرى ولا صغرى وتعقبه ابن حجر بأنه زد للأخبار الثابتة بلا مستند والقصر والطول أمر نسبي وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال : طولي الطوليين وأراد بذلك سورة الأعراف وهي مدنية بالاتفاق . واختلف في عدد آياتها ففي البصري إحدى عشرة آية وفيما عداه اثنتا عشرة آية ولما ذكر سبحانه فيما تقدم ( إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم ) وكانت العداوة قد تفضي إلى الطلاق ذكر جل شأنه هنا الطلاق وأرشد سبحانه إلى الانفصال منهن على الوجه الجميل وذكر عز وجل أيضا ما يتعلق بالأولاد في الجملة

{ يأيُّهَا النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } خص النداء به صلى الله عليه وسلم وعم الخطاب بالحكم لأن النبي عليه الصلاة والسلام إمام أمته كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه المتكلم عنهم والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكمهم كلهم وساداً مسد جميعهم ، وفي ذلك من إظهار جلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه ، ولذلك اختير لفظ { النبي } لما فيه من الدلالة على علو مرتبته صلى الله عليه وسلم ، وقيل : الخطاب كالنداء له صلى الله عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله

: ألا فارحموني يا إله محمد *** وقيل : إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريماً له صلى الله عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيماً ، وجعل بعضهم الكلام على هذا بتقدير القول أي قل لأمتك : { إِذَا طَلَّقْتُمُ } ، وقيل : حذف نداء الأمة ، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم ، وأياً مّا كان فالمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه ، واتفقوا على أنه لولا هذا التجوز لم يستقم الكلام لما فيه من تحصيل الحاصل ، أو كون المعنى إذا طلقتم فطلقوهن مرة أخرى وهو غير مراد ، وقال بعض المحققين : لك أن تقول : لا حاجة إلى ذلك بل هو من تعليق الخاص بالعام وهو أبلغ في الدلالة على اللزوم كما يقال : إن ضربت زيداً فاضربه ضرباً مبرحاً لأن المعنى إن يصدر منك ضرب فليكن ضرباً شديداً ، وهو أحسن من تأويله بالإرادة فتدبر انتهى ، وأنت تعلم أن المتبادر فيما ذكره كونه على معنى الإرادة أيضاً { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي لاستقبال عدتهن ، واللام للتوقيت نحو كتبته لأربع ليال يقين من جمادى الأولى ، أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري ، وتعقبه أبو حيان بما فيه نظر واعتبار الاستقبال رأي من يرى أن العدة بالحيض وهي القروء في آية البقرة كالإمام أبي حنيفة ليكون الطلاق في الطهر وهو الطلاق المأمور به ، والمراد بالأمر بإيقاعه في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض .

وقد صرحوا جميعاً بأن ذلك طلاق بدعى حرام ، وقيد الطهر بكونه لم يجامعن فيه ، واستدل لذلك ، ولاعتبار الاستقبال بما أخرجه الإمامان : مالك . والشافعي . والشيخان . وأبو داود . والترمذي . والنسائي . وابن ماجه . وآخرون عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء » .

وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وكان ابن عمر كما أخرج عنه ابن المنذر . وغيره يقرأ كذلك ، وكذلك ابن عباس ، وفي رواية عنهما أنهما قرآ لقبل عدتهن . ومن يرى أن العدة بالأطهار وهي القروء في تلك الآية كالإمام الشافعي يعلق لام التوقيت بالفعل ولا يعتبر الاستقبال ، واعترض على التأويل بمستقبلات لعدتهن بأنه إن أريد التلبس بأولها فهو للشافعي ، ومن يرى رأيه لا عليه وعلى الخالف لا له ، وإن أريد المشارفة عادة فخلاف مقتضى اللفظ لأن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت لا استقبال الوقت ، وعلى الاستدلال بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالى عله وسلم حسبما تضمنه الحديث السابق بأن قبل الشيء أو له نقيض دبره فهي مؤكدة لمذهب الشافعي لا دافعة له ، ويشهد لكون العدة بالإطهار قراءة ابن مسعود لقبل طهرهن ومنهم من قال : التقدير لاطهار عدتهن ، وتعقب بأنه إن جعلت الإضافة بمعنى من دل على أن القرء هو الحيض والطهر معاً ، وإن جعلت بمعنى اللام فيكفي ما في قولك لإطهار الحيض من التنافر رداً مع ما فيه من الإضمار من غير دليل .

وفي الكشاف المراد أي من الآية أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهو أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعد من الندم ، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقها للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار ، وقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفروقة ، وأما أبو حنيفة . وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد فأما مفروقا في الاطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : «ما هكذا أمرك الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة » وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمر : «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء » .

وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح ، فمالك يراعي في طلاق السنة الواحدة .

والوقت ، وأبو حنيفة يراعى التفريق . والوقت ، والشافعي يراعى الوقت انتهى .

وفي فتح القدير في الاحتجاج على عدم كراهة التفريق على الاطهار وكونه من الطلاق السني رواية غير ما ذكر عن ابن عمر أيضاً ، وقد قال فيها ما قال إلا أنه في الآخرة رجح قبولها ، والمراد بإرسال الثلاث دفعة ما يعم كونها بألفاظ متعددة كأن يقال : أنت طالق أنت طالق أنت طالق ، أو بلفظ واحد كأن يقال : أنت طالق ثلاثاً ، وفي وقوع هذا ثلاثاً خلاف ، وكذا في وقوع الطلاق مطلقاً في الحيض ، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث . ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » ونقله غير واحد عن ابن المسيب . وجماعة من التابعين ، وقال قوم منهم فيما قيل طاوس . وعكرمة : الطلاق الثلاث بفم واحد يقع به واحدة ، وروي هذا أبو داود عن ابن عباس وهو اختيار ابن تيمية من الحنابلة وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس : ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبي بكر . وصدر من خلافة عمر قال : نعم ، وفي رواية لمسلم أن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبي بكر . وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ، ومنهم من قال في المدخول بها : يقع ثلاث ، وفي الغير واحدة لما في مسلم . وأبي داود . والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال : أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة ؟ فقال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبي بكر . وصدر من خلافة عمر الحديث ، والذي ذهب إليه جمهور الصحابة . والتابعين ، ومن بعدهم من أئمة المسلمين ومنهم الأئمة الأربعة وقوع الثلاث بفم واحد . بل ذكر الإمام ابن الهمام وقوع الإجماع السكوتي من الصحابة على الوقوع .

ونقل عن أكثر مجتهديهم كعلي كرم الله تعالى وجهه . وابن عباس . وابن مسعود . وأبي هريرة . وعثمان بن عفان . وعبد الله بن عمرو بن العاص الإفتاء الصريح بذلك ، وذكر أيضاً أن إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفة الصحابة له مع علمهم بأنه كانت واحدة لا يمكن إلا لأنهم قد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لعلمهم بإناطته بمعان علموا انتهاءها في الزمان المتأخر ، واستحسن ابن حجر في التحفة الجواب بالاطلاع على ناسخ بعد نقله جوابين سواه وتزييفه لهما ، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى بعض أخبار مرفوعة يستدل بها على وقوع الثلاث ، لكن قيل : إن الثلاث فيها يحتمل أن تكون بألفاظ ثلاثة كأنت طالق أنت طالق أنت طالق ، ولعله هو الظاهر لا بلفظ واحد كأنت طالق ثلاثاً ، وحينئذ لا يصلح ذلك للرد على من لم يوقع الثلاث بهذا اللفظ لكن إذا صح الإجماع ولو سكوتياً على الوقوع لا ينبغي إلا الموافقة والسكوت ، وتأويل ما روي عن عمر ، ولذا قال بعض الأئمة : لو حكم قاض بأن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه لإجماع الأئمة المعتبرين عليه ، وإن اختلفوا في معصية من يوقعه كذلك ، ومن قال : بمعصيته استدل بما روي النسائي عن محمود بن لبيد قال : «أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاثاً جميعاً فقام غضبان فقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ا حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله » وبما أخرجه عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادة فسأله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : «بانت بثلاث في معصية الله وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون عدوان وظلم إن شاء الله تعالى عذبه وإن شاء غفر له » ويفهم من هذا حرمة إيقاع الزائد أيضاً وهو ظاهر كلام ابن الرفعة ، ومقتضى قول الروياني واعتمده الزركشي . وغيره أنه يعزر فاعله ، ووجه بأنه تعاطي نحو عقد فاسد وهو حرام ، ونوزع في ذلك بما فيه نظر ، وبما في سنن أبي داود عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق زوجته ثلاثاً فقال له : عصيت ربك وبانت منك امرأتك إلى غير ذلك .

ومن قال بعدمها استدل بما رواه الشيخان من أن عويمراً العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثاً قبل أن يخبره صلى الله عليه وسلم بحرمتها عليه ، وقال : إنه لو كان معصية لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقداً بقاء الزوجية ، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف ، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ولم يوجدا ، فدل على أن لا حرمة وبأنه قد فعله . جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر ثلاثاً في موضعه . والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته شهبانوا ثلاثاً لما هنته بالخلافة بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه ، وقال بعض الحنفية في ذلك : إنه محمول على أنهم قالوا : ثلاثاً للسنة ، وهو أبعد من قول بعض الشافعية فيما روي من الأدلة الدالة على العصيان فيه أنه محمول على أنه كان في الحيض فالمعصية فيه من تلك الحيثية .

واستدل على كونه معصية إذا كان في الحيض بما هو أظهر من ذلك كالروايتين السابقتين فيما نقل عن الكشاف ، وفي الاستدلال بهما على حرمة إرسال الثلاث بحث ، وربما يستدل بالثانية على وجوب الرجعة لكن قد ذكر بعض أجلة الشافعية أنها لا تجب بل تندب في الطلاق البدعي ، وإنما لم تجب لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء ، وليس في فليراجعها أمر لابن عمر لأنه تفريع على أمر عمر ، فالمعني فليراجعها لأجل أمرك لكونك والده ، واستفادة الندب منه حينئذ إنما هي من القرينة ، وإذا راجع ارتفع الاثم المتعلق بحق الزوجة لا في الرجعة قاطعة للضرر من أصله فكانت بمنزلة التوبة ترفع أصل المعصية ، وبه فارق دفن البصاق في المسجد فإنه قاطع لدوام ضرره لا لأصله لأن تلويث المسجد به قد حصل ، ويندفع بما ذكر ما قيل : رفع الرجعة للتحريم كالتوبة يدل على وجوبها إذ كون الشيء بمنزلة الواجب في خصوصية من خصوصياته لا يقتضي وجوبه ، ولا يستدل بما اقتضته الآية من النهي عن إيقاع الطلاق في الحيض على فساد الطلاق فيه إذا النهي عند أبي حنيفة لا يستلزم الفساد مطلقاً ، وعند الشافعي يدل على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو لازم له فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا ، وما نحن فيه لأمر مقارن وهو زمان الحيض فهو عنده لا يستلزم الفساد هنا أيضاً ، وأيد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها قيل : وما كان منه من التطليق في الحيض سبب نزول هذه الآية والذي رواه ابن مردويه من طريق أبي الزبير عنه وحكى عن السدي .

/ وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : بلغنا أن قوله تعالى : { الحكيم يأيُّهَا النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ } الآية نزل في عبد الله بن عمرو بن العاص . وطفيل بن الحرث . وعمرو بن سعيد بن العاص ، وقال بعضهم : فعله ناس منهم ابن عمرو بن العاص . وعتبة بن غزوان فنزلت الآية ، وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنها نزلت في حفصة بنت عمر طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة فنزلت إلى قوله تعالى : { يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } فراجعها عليه الصلاة والسلام ، ورواه قتادة عن أنس ، وقال القرطبي نقلاً عن علماء الحديث : إن الأصح أنها نزلت ابتداءاً لبيان حكم شرعي ، وكل ما ذكر من أسباب النزول لها لم يصح ، وحكى أبو حيان نحوه عن الحافظ أبي بكر بن العربي ، وظاهرها أن نفس الطلاق مباح ، واستدل له أيضاً بما رواه أبو داود .

وابن ماجه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من أبغض المباحات عند الله عز وجل الطلاق " وفي لفظ " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " لوصفه بالإباحة والحل لأن أفعل بعض ما يضاف إليه ، والمراد من كونه مبغوضاً التنفير عنه أو كونه كذلك من حيث أنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة لا من حيث حقيقته في نفسه .

وقال البيهقي : البغض على إيقاعه كل وقت من غير رعاية لوقته المسنون ، وبطلاقه صلى الله عليه وسلم حفصة ثم أمره تعالى إياه أن يراجعها فإنها صوامة قوامة ، وقال غير واحد : هو محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : " لعن الله كل مذواق مطلاق " وإنما أبيح للحاجة ، قال ابن الهمام : وهذا هو الأصح فيكره إذا لم يكن حاجة ، ويحمل لفظ المباح على أما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل الله تعالى شيئاً أبغض إليه من الطلاق فإن الفعل لا عموم له في الأزمان ، ومن الحاجة الكبر وعدم اشتهائه جماعها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه عليه وهي لا ترضي بترك ذلك ، وما روي عن الحسن وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه من قوله : أحب الغني قال الله سبحانه : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] فهو رأي منه إن كان على ظاهره ، وكل ما نقل من طلاق الصحابة كطلاق المغيرة بن شعبة الزوجات الأربعة دفعة فقد قال لهن : أنتن حسنات الأخلاق ناعمات الأطواق طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق فمحمله وجود الحاجة ، وإن لم يصرح بها ، وقال ابن حجر : هو إما واجب كطلاق مول لم يرد الوطء وحكمين رأياه ، أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها ، أو تكون غير عفيفة ما لم يخش الفجور بها ، ومن ثم أمر صلى الله عليه وسلم من قال : «إن زوجتي لا ترد يد لامس » أي لا تمنع من يريد الفجور بها على أحد أقوال في معناه بإمساكها خشية من ذلك . ويلحق بخشية الفجور بها حصول مشقة له بفراقها تؤدي إلى مبيح تيمم ، وكون مقامها عنده أمنع لفجورها فيما يظهر فيهما ، أو سيئة الخلق أي بحيث لا يصبر على عشرتها عادة فيما يظهر ، وإلا فغير سيئة الخلق كالغراب الأعضم أو يأمره به أحد والديه أي من غير تعنت كما هو شأن الحمقي من الآباء والأمهات ، ومع عدم خوف فتنة أو مشقة بطلاقها فيما يظهر ، أو حرام كالبدعي ، أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله للخبر الصحيح «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق » ولدلالته على زيادة التنفير عنه قالوا : ليس فيه مباح لكن صورة الإمام بما إذا لم يشتهها أي شهوة كاملة ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع اه .

والآية على ما لا يخفي على المنصف لا تدل على أكثر من حرمته في الحيض ، والمراد بالنساء فيها المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف ، وغيره لمكان قوله سبحانه : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } .

/ { وَأَحْصُواْ العدة } واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل ، وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى كما كان معتاداً قديماً ثم صار حقيقة فيما ذكر { واتقوا الله رَبَّكُمْ } في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن ، وفي وصفه تعالى بربوبيته عز وجل لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الاتقاء { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضي عدتهن ، وإضافتها إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن ، وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناءً به ، والنهي عن الإخراج يتناول عدم إخراجهن غضباً عليهن . أو كراهة لمساكنتهن . أو لحاجة لهم إلى المساكن . أو محض سفه بمنطوقه ، ويتناول عدم الاذن لهن في الخروج بإشارته لأن خروجهن محرم بقوله تعالى : { وَلاَ يَخْرُجْنَ } أما إذا كانت لا ناهية كالتي قبلها فظاهر ، وأما إذا كانت نافية فلأن المراد به النهي ، وهو أبلغ من النهي الصريح كما لا يخفي ، والإذن في فعل المحرم محرم فكأنه قيل : لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ، فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤمد فلا يسقط بالإذن ، وهذا على ما ذكره الجلبي مذهب الحنفية ، ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما ، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن ؛ وتعقب الشهاب كون ذلك مذهب الحنفية بقوله : فيه نظر ، وقد ذكر الرازي في الأحكام ما يدل على خلافه وأن السكنى كالنفقة تسقط بالإسقاط انتهى .

والذي يظهر من كلامهم ما ذكره الجلبي » وقد نص عليه الحصكفي في الدر المختار ، وعلله بأن ذلك حق الله تعالى فلا يسقط بالإذن ، وفي الفتح لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكتري بيته ، وأما أن يحل لها الخروج فلا { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ } أي ظاهرة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة كما أخرجه عبد الرزاق . وعبد بن حميد . وابن المنذر . والبيهقي في سننه . وابن مردويه . والحاكم وصححه عن ابن عمر ، وروي عن السدى . وابن السائب . والنخعي وبه أخذ أبو حنيفة والاستثناء عليه راجع إلى { لا * يَخْرُجْنَ } والمعنى لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة ، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعاً عن الخروج على أبلغ وجه ، وقال الإمام ابن الهمام : هذا كما يقال في الخطابية : لا تزن إلا أن تكون فاسقاً .

ولا تشتم أمك إلا أن تكون قاطع رحم ، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جداً ، والزنا على ما روي عن قتادة . والحسن . والشعبي . وزيد بن أسلم . والضحاك . وعكرمة . وحماد . والليث ، وهو قول ابن مسعود . وقول ابن عباس ؛ وبه أخذ أبو يوسف ، والاستثناء عليه راجع إلى لا تخرجوهن على ما يقتضيه ظاهر كلام جمع أي لا تخرجوهن إلا إن زنين فأخرجوهن لإقامة الحد عليهن ، وقال بعض المحققين : هو راجع إلى الكل وما يوجب حداً من زنا . أو سرقة . أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب واختاره الطبري ، والبذاء على الأحماء أي أو على الزوج كما أخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس والاستثناء راجع إلى الأول أي لا تخرجوهن إلا إذا طالت ألسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أزواجهن أو أحمائهن ، وأيد بقراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم بفتح الياء وضم الحاء ، وفي موضح الأهواري يفحشن من أفحش ، قال الجوهري : أفحش عليه في النطق أي أتى بالفحش ، وفي حرف ابن مسعود إلا أن يفحشن بدون عليكم والنشوز ، والمراد إلا أن يطلقن على النشوز على ما روي عن قتادة أيضاً ، والاستثناء عليه قيل : راجع إلى الأول أيضاً ، وفي الكشف هو راجع إلى الكل لأنه إذا سقط حقها في السكنى حل الإخراج والخروج أيضاً ، وأياً مّا كان فليس في الآية حصر المبيح لفعل المنهي عنه بالإتيان بالفاحشة ، وقد بينت المبيحات في كتب الفروع فليراجعها من أراد ذلك .

وقرأ ابن كثير . وأبو بكر { مُّبَيّنَةٍ } بالفتح { وَتِلْكَ } إشارة إلى ما ذكر من الأحكام أي تلك الأحكام الجليلة الشأن { حُدُودَ الله } التي عينها لعباده عز وجل { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } أي حدوده تعالى المذكورة بأن أخل بشيء منها على أن الإظهار في موضع الاضمار لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلة الحكم في قوله تعالى : { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي أضر بها كما قال شيخ الإسلام ، ونقل عن بعض تفسير الظلم بتعريضها للعقاب ، وتعقبه بأنه يأباه قوله سبحانه : { لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية ؛ وقد قالوا : إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه فلا بد أن يكون الظلم عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه ، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي ، وخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز أكثر الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى .

ورد بأن الضرر الدنيوي غير محقق فلا ينبغي تفسير الظلم ههنا به ، وأن قوله تعالى : { لا تَدْرِى } الخ ليس تعليلاً لما ذكر بل هو ترغيب للمحافظة على الحدود بعد الترهيب ، وفيه أنه بالترهيب أشبه منه بالترغيب ، ولعل المراد من أضر بها عرضها للضرر ، فالظلم هو ذلك التعريض ولا محذور في تفسيره به فيما يظهر ، وجملة الترجي في موضع النصب ب { لا تَدْرِي } ، وعد أبو حيان { لَعَلَّ } من المعلقات ، والخطاب في { لا تَدْرِي } للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي صلى الله عليه وسلم كما قيل ، فالمعنى من يتعدى حدود الله تعالى فقد عرض نفسه للضرر فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر { لَعَلَّ الله } تعالى يحدث في قلبك { بَعْدَ ذَلِكَ } الذي فعلت من التعدي { أمْراً } يقتضي خلاف ما فعلته فيكون بدل بغضها محبة وبدل الاعراض عنها إقبالاً إليها ، ولا يتسنى تلا فيه برجعة أو استئناف نكاح .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطلاق

مدنية وآياتها اثنتا عشرة

{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } نادى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم خاطب أمته ، لأنه السيد المقدم ، فخطاب الجميع معه . وقيل : مجازه : يا أيها الرسول قل لأمتك { إذا طلقتم النساء } أي : إذا أردتم تطليقهن ، كقوله عز وجل : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله }( النحل- 98 ) أي : إذا أردت القراءة . { فطلقوهن لعدتهن } أي لطهرهن بالذي يحصينه من عدتهن . وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن : فطلقوهن في قبل عدتهن . نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض .

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر " أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : يا عمر مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " . ورواه سالم عن ابن عمر قال : " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً " . ورواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر ، ولم يقولا : ثم تحيض ثم تطهر .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا مسلم وسعيد بن سالم ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه " سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل عبد الله بن عمر -وأبو الزبير يسمع- فقال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً ؟ فقال ابن عمر : طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضاً ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك " قال ابن عمر : وقال الله عز وجل : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن } في قبل لعدتهن ، أو لقبل عدتهن ، الشافعي يشك . ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج ، وقال : قال ابن عمر : وقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن . { فصل } اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس ، وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه بدعة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن شاء طلق قبل أن يمس " . والطلاق السني : أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه . وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء . فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض ، أو طلق الصغيرة التي لم تحض قط ، والآيسة بعدما جامعها ، أو طلق الحامل بعد ما جامعها ، أو في حال رؤية الدم ، لا يكون بدعياً . ولا سنة ولا بدعة في طلاق هؤلاء ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً " . والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعياً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ، ولولا جوازه في جميع الأحوال لأشبه أن يتعرف الحال . ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصداً يعصي الله تعالى ، ولكن يقع الطلاق لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة ولولا وقوع الطلاق لكان لا يأمره بالمراجعة ، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس ، كما رواه يونس بن جبير وأنس عن سيرين عن ابن عمر . وما رواه نافع : " ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر " . فاستحباب ، استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا يكون مراجعته إياها للطلاق ، كما يكره النكاح للطلاق . ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث ، عند بعض أهل العلم ، حتى لو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثاً لا يكون بدعياً ، وهو قول الشافعي وأحمد . وذهب بعضهم إلى أنه بدعة ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي . قوله عز وجل : { وأحصوا العدة } أي عدد أقرائها ، احفظوها ، قيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً . وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى . { واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن } أراد به إذا كان المسكن الذي طلقها فيه للزوج لا يجوز له أن يخرجها منه ، { ولا يخرجن } ولا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض العدة فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت ، فإن وقعت ضرورة -وإن خافت هدماً أو غرقاً- لها أن تخرج إلى منزل آخر ، وكذلك إن كان لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً فإن رجالاً استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم : نستوحش في بيوتنا ، فأذن لهن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن ، فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها ، وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لخالة جابر حين طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها . وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة وجائية ، والبدوية تتبوأ حيث يتبوأ أهلها في العدة ، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم . قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال ابن عباس : الفاحشة المبينة : أن تبذأ على أهل زوجها ، فيحل إخراجها . وقال جماعة : أراد بالفاحشة : أن تزني ، فتخرج لإقامة الحد عليها ، ثم ترد إلى منزلها ، يروى ذلك عن ابن مسعود . وقال قتادة : معناه إلا أن يطلقها على نشوزها ، فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة : النشوز . وقال ابن عمر ، والسدي : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة . { وتلك حدود الله } يعني : ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها ، { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين . وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات ، ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة ، حتى إذا ندم أمكنته المراجعة .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مدنية وآياتها اثنا عشرة آية . وقيل : اثنتا عشرة آية ويحتل الحديث عن الطلاق والعدة وأحكامهما شطرا كبيرا من السورة . ونبين كلا من ذلك حينه إن شاء الله .

وفي السورة تعظيم لشأن التقوى وهي ما يستكن في القلوب من مخافة لله وما يستشعره المرء في أعماقه من رقابة لله عليه ليظل بهذا الشعور رهيف الحس والضمير ، مستديم الرهبة والخوف من الله . ثم يأتي الإعلان عقب ذلك عن أن تقوى الله منجاة للمرء من الكروب ومخرج له من الضيق والعسر . إلى غير ذلك من أحكام المطلقات وعدتهن والإنفاق عليهن .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } .

روي عن أنس قال : طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقيل له : راجعها فإنها صوّامة قوّامة وهي من إحدى أزواجك ونسائك في الجنة .

وروى البخاري عن سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل " {[4559]} .

والله ( جل وعلا ) يخاطب في هذه الآية رسوله صلى الله عليه وسلم أولا تشريفا له وتعظيما ثم يخاطب أمته من بعده بقوله : { ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } أي لا يطلق أحدكم امرأته وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه . ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها طلقة واحدة . وعلى هذا فإن الطلاق من حيث حكمه قسمان ، وهما طلاق السنة وطلاق البدعة : أما طلاق السنة : فهو أن يطلقها وهي طاهرة من غير جماع . أو يطلقها وهي حامل قد استبان حملها . وأما الطلاق البدعي : فهو أن يطلقها وهي حائض أو في طهر جومعت فيه ولا يدري هل حملت أم لا . وثمة طلاق ثالث ليس فيه سنة ولا بدعة ، وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها .

وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : الطلاق على أربعة وجوه : وجهان حلالان ، ووجهان حرامان . فأما الحلال : فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع . وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها . وأما الحرام : فأن يطلقها وهي حائض أو يطلقها حين يجامعها ، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أم لا .

وعلى هذا ، من طلق زوجته في طهر لم يجامعها فيه فقد نفذ طلاقه وأصاب السنة . أما إن طلقها وهي حائض أو في طهر قد جومعت فيه ، فقد نفذ طلاقه وأخطأ السنة . وقيل : لا يقع الطلاق في الحيض ، لأنه خلاف السنة وهو قول الشيعة . والصحيح الأول وهو قول أكثر أهل العلم ، فمن طلق امرأته حائضا وقع طلاقه وخالف السنة . وفي ذلك ثبت في الصحيحين - واللفظ للدارقطني - عن عبد الله ابن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله " وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة ، فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه قال : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة واحدة . وهو مذهب أكثر أهل العلم . وهو قول الحنفية والمالكية وآخرين . واستندوا في ذلك إلى حديث عبد الله بن عمر المتقدم . وعند الشافعية ، لو طلقها ثلاثا في طهر واحد لم يكن بدعة ، واحتج لذلك بما رواه الدارقطني بسنده أن عبد الرحمان بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية ثلاث تطليقات في كلمة واحدة فلم يعبه أحد من أصحابه واحتج أيضا بحديث عويمر العجلاني لما لاعن قال : يا رسول الله ، هي طالق ثلاث . فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم{[4560]} .

قوله : { وأحصوا العدة } أي اضبطوا العدة بحفظ الوقت الذي وقع فيه الطلاق ، وأكملوها ثلاثة أقراء كاملات لا نقصان فيهن .

أما المخاطب بأمر الإحصاء فهم الأزواج ، لأن الضمائر في قوله : { طلقتم } وقوله : { وأحصوا } وقوله : { لا تخرجوهن } ترجع كلها إلى الأزواج . على أن الزوجات يدخلن في المخاطبين على سبيل الإلحاق . فهن يشتركن مع الأزواج في بعض الأمور كالإحصاء للمراجعة ، وإلحاق النسب أو انقطاعه . وقيل : المخاطب ، المسلمون .

قوله : { واتقوا الله ربكم } أي خافوا الله ربكم فاحذروا أن تعصوه أو تتعدوا حدوده { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } أي ليس لكم أيها الأزواج أن تخرجوا زوجاتكم المطلقات من بيوتهن التي كنتم أسكنتموهن فيها قبل الطلاق ، ما دمن في عدتهن . وليس لهن أن يخرجن وذلك لحق الزوج ، إلا لضرورة ظاهرة . فإن خرجت من بيتها في حال عدتها من غير ضرورة فهي آثمة ولا تنقطع عدتها . ويستوي في ذلك ، الرجعية والمبتوتة .

على أن المطلقة ليس لها أن تخرج من بيتها لا في الليل ولا في النهار ، رجعية كانت أو مبتوتة . وهو قول الحنيفة . وقالوا في المتوفى عنها زوجها : لها أن تخرج نهارا لكسب رزقها ولا تبرح بيتها ليلا . وذهب جمهور الشافعية والمالكية والحنبلية وآخرين إلى أن المعتدة تخرج بالنهار من أجل حوائجها ثم تلزم بيتها ليلا . واستدلوا بما أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله قال : طلقت خالتي فأرادت أن تجدّ نخلها فزجرها رجل أن تخرج ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " بلى فجدّي نخلك فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفا " ويستوي عند المالكية ما لو كانت المطلقة رجعية أو بائنة . وقالت الشافعية : لا تخرج الرجعية ليلا ولا نهارا . وإنما تخرج نهارا المبتوتة .

قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } المراد بالفاحشة كل معصية كالزنا والسرقة وبذاءة اللسان على الأهل . أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن يفعلن شيئا من ذلك .

قوله : { وتلك حدود الله } الإشارة إلى الأحكام التي بينها الله فهي حدوده التي حدها لعباده ولا يجوز لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها { ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه } يعني من يتعدّ أحكام الله التي حدها لخلقه فيتجاوزها إلى غيرها فقد أورد نفسه مورد الهلاك .

قوله : { لاتدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } الأمر الذي يحدثه الله ، هو أن يقلب قلب الزوج من بغض زوجته إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن العزم على الطلاق إلى الندم ثم مراجعتها فالمراد بالأمر ، في الجملة الرغبة والرجعة{[4561]} .


[4559]:أسباب النزول للنيسابوري ص 289 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 377.
[4560]:تفسير القرطبي جـ 18 ص 150 – 153 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 378 وأحكام القرآن للجصاص جـ 5 ص 346 –350.
[4561]:تفسير القرطبي جـ 18 ص 148- 156 وأحكام القرآن للجصاص جـ 5 ص 346 – 350 والكشاف جـ 4 ص 119 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 378.