سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة
هذه سورة الطلاق ، يبين الله فيها أحكامه ، ويفصل فيها الحالات التي لم تفصل في السورة الأخرى " سورة البقرة " التي تضمنت بعض أحكام الطلاق ؛ ويقرر فيها أحكام الحالات المتخلفة عن الطلاق من شؤون الأسرة . وقد تضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله الله ويجري وفق سنته : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) . .
وحق المطلقة وواجبها في البقاء في بيتها - وهو بيت مطلقها - فترة العدة لا تخرج ولا تخرج إلا أن تأتي بفاحشة مبينة : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) . .
وحقها بعد انقضاء العدة في الخروج لتفعل بنفسها ما تشاء ، ما لم يكن الزوج قد راجعها وأمسكها في فترة العدة ، لا ليضارها ويؤذيها بهذا الإمساك ويعطلها عن الزواج ، ولكن لتعود الحياة الزوجية بينهما بالمعروف : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) . . وهذا مع الإشهاد على الإمساك أو الفراق : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) . .
وفي سورة البقرة بين مدة العدة للمطلقة ذات الحيض - وهي ثلاثة قروء بمعنى ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف فقهي - وهنا بين هذه المدة بالنسبة للآيسة التي انقطع حيضها وللصغيرة التي لم تحض : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) . .
وبين عدة الحامل : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) . .
ثم فصل حكم المسكن الذي تعتد فيه المعتدة ونفقة الحمل حتى تضع : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن . وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) . .
ثم حكم الرضاعة لولد المطلقة حين تضعه ، وأجر الأم على الرضاعة في حالة الإتفاق بينها وبين أبيه على مصلحة الطفل بينهما ، وفي حالة إرضاعه من أخرى : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف . وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) . .
ثم زاد حكم النفقة والأجر في جميع الحالات تفصيلا ، فجعله تابعا لحالة الزوج وقدرته : ( لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله . لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) . .
وهكذا تتبعت النصوص سائر الحالات ، وما يتخلف عنها ، بأحكام مفصلة دقيقة ، ولم تدع شيئا من أنقاض الأسرة المفككة بالطلاق إلا أراحته في مكانه ، وبينت حكمه ، في رفق وفي دقة وفي وضوح . .
ويقف الإنسان مدهوشا أمام هذه السورة وهي تتناول أحكام هذه الحالة ومتخلفاتها . وهي تحشد للأمر هذه الحشد العجيب من الترغيب والترهيب ، والتعقيب على كل حكم ، ووصل هذا الأمر بقدر الله في السماوات والأرضين ، وسنن الله في هلاك العاتين عن أمره ، وفي الفرج والسعة لمن يتقونه . وتكرار الأمر بالمعروف والسماحة والتراضي ، وإيثار الجميل . والإطماع في الخير . والتذكير بقدر الله في الخلق وفي الرزق ، وفي اليسر والعسر . .
يقف الإنسان مدهوشا أمام هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق أمام هذا الاحتفال والاهتمام - حتى ليوجه الخطاب إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بشخصه ، وهو أمر عام للمؤمنين وحكم عام للمسلمين ، زيادة في الاهتمام وإشعارا بخطورة الأمر المتحدث فيه . وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالة حالة ، والأمر المشدد في كل حكم بالدقة في مراعاته ، وتقوى الله في تنفيذه ، ومراقبة الله في تناوله . والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب ، إطالة تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله ! وهو الدين كله ! وهو القضية التي تفصل فيها السماء ، وتقف لتراقب تنفيذ الأحكام ! وتعد المتقين فيها بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن ؛ وتوعد الملتوين والمتلكئين والمضارين بأعنف وأشد ما يلقاه عاص ؛ وتلوح للناس بالرجاء الندي والخير المخبوء وراء أخذ الأمر بالمعروف والسماحة والتجمل والتيسير .
ويقرأ القارئ في هذه السورة . . ( واتقوا الله ربكم ) . . ( وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . . ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . . ( وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) . . ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) . . ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب . . ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره . قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . . ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) . ( ذلك أمر الله أنزله إليكم ) ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ) . . ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .
كما يقرأ ذلك التهديد العنيف الطويل المفصل : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا ، وعذبناها عذابا نكرا . فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا . أعد الله لهم عذابا شديدا ) . .
يعقبه التحذير من مثل هذا المصير ، والتذكير بنعمة الله بالرسول وما معه من النور ، والتلويح بالأجر الكبير : ( فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا ، قد أنزل الله إليكم ذكرا : رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور . ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ) . .
ثم يقرأ هذا الإيقاع الهائل الضخم في المجال الكوني الكبير : ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، يتنزل الأمر بينهن ، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) . .
يقرأ هذا كله تعقيبا على أحكام الطلاق . ويجد سورة كاملة في القرآن ، من هذا الطراز ، كلها موقوفة على تنظيم هذه الحالة ومتخلفاتها كذلك ! وربطها هكذا بأضخم حقائق الإيمان في المجال الكوني والنفسي . وهي حالة تهدم لا حالة بناء ، وحالة انتهاء لا حالة إنشاء . . لأسرة . . لا لدولة . . وهي توقع في الحس أنها أضخم من إنشاء دولة !
إن له عدة دلالات تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديته وانبثاقه من نبع غير بشري على وجه التأكيد . حتى لو لم تكن هناك دلالة أخرى سوى دلالة هذه السورة !
إنه يدل ابتداء على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي :
فالإسلام نظام أسرة . البيت في اعتباره مثابة وسكن ، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر ؛ وفي كنفه تنبت الطفولة ، وتدرج الحداثة ؛ ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل .
ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرا رفافا شفيفا ، يشع منه التعاطف ، وترف فيه الظلال ، ويشيع فيه الندى ، ويفوح منه العبير : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . . ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . . فهي صلة النفس بالنفس ، وهي صلة السكن والقرار ، وهي صلة المودة والرحمة ، وهي صلة الستر والتجمل . وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقا ، ويستروح من خلالها نداوة وظلا . وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق . ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها ، بما فيها امتداد الحياة بالنسل ، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة ، ويعترف بطهارتها وجديتها ، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها . ذلك حين يقول : ( نساؤكم حرث لكم ) . فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار .
ويحيط الإسلام هذه الخلية ، أو هذا المحضن ، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته . وحسب طبيعة الإسلام الكلية ، فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية ، بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية .
والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها ، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات ، وفي الإحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات ؛ وفي ربط هذا الشأن بالله مباشرة في كل موضع ، كما هو الحال في هذه السورة وفي غيرها . . يدرك إدراكا كاملا ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي ، وقيمة هذا الأمر عند الله ، وهو يجمع بين تقواه - سبحانه - وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا ) . . كما يجمع بين عبادة الله والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) . . وبين الشكر لله والشكر للوالدين في سورة لقمان : ( أن اشكر لي ولوالديك ) . .
وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداء على أساس الأسرة ، حين جرى قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه ، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى . وكان الله - سبحانه - قادرا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعةواحدة . ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق ، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته ، وحيث تنمي شخصيته وفضائله ، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته . ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي - منهج الله الأخير في الأرض - مع القدر الإلهي في خلقة الإنسان ابتداء . كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن الله بلا تفاوت ولا اختلاف .
والدلالة الثانية لسياق السورة ، وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله ، هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله ؛ واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية - لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية ، وعند أتباع الديانات المحرفة ، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها .
[ إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ، إنما ينظمها ويطهرها ، ويرفعها عن المستوى الحيواني ، ويرقيها حتى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية . ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية ، التي تجعل من التقاء جسدين ، التقاء نفسين وقلبين وروحين . وبتعبير شامل التقاء إنسانين ، تربط بينهما حياة مشتركة ، وآمال مشتركة ، وآلام مشتركة ، ومستقبل مشترك ، يلتقي في الذرية المرتقبة ، ويتقابل في الجيل الجديد ، الذي ينشأ في العش المشترك ، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان ] .
ويعد الإسلام الزواج وسيلة للتطهر والارتفاع فيدعو الأمة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عقبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم . وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . . ويسمي الزواج إحصانا أي وقاية وصيانة . ويستقر في أخلاد المؤمنين أن البقاء بدون إحصان ولو فترة قصيرة لا ينال رضى الله . فيقول الإمام علي - كرم الله وجهه - وقد سارع بالزواج عقب وفاة زوجه فاطمة بنت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد خشيت أن ألقى الله وأنا عزب " . . فيدخل الزواج في عرف المؤمن في الطاعات التي يتقرب بها إلى ربه . وترتفع هذه الصلة إلى مكان القداسة في ضميره بما أنها إحدى الطاعات لربه .
والدلالة الثالثة لسياق سورة الطلاق ونظائرها هي واقعية هذا النظام الإسلامي ومعاملته للحياة وللنفس البشرية كما هي في فطرتها ، مع محاولة رفعها إلى ذلك المستوى الكريم ، عن طريق استعداداتها وملابسات حياتها . ومن ثم لا يكتفي بالتشريع الدقيق في هذا الأمر الموكول إلى الضمير . ولا يكتفي بالتوجيه . ويستخدم هذا وذاك في مواجهة واقع النفس وواقع الحياة .
إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار . والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها . وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات ، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات ، ويفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف ولا تتلفت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق ! ويفرض حد الزنا وحد القذف ؛ ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليهاوالاستئذان بين أهلها في داخلها .
وينظم الارتباطات الزوجية بشريعة محددة ، ويقيم نظام البيت على أساس قوامة أحد الشريكين وهو الأقدر على القوامة ، منعا للفوضى والاضطراب والنزاع . . إلى آخر الضمانات والتنظيمات الواقية من كل اهتزاز . فوق التوجيهات العاطفية . وفوق ربط هذه العلاقة كلها بتقوى الله ورقابته .
ولكن الحياة الواقعية للبشر تثبت أن هناك حالات تتهدم وتتحطم على الرغم من جميع الضمانات والتوجيهات . وهي حالات لا بد أن تواجه مواجهة عملية ، اعترافا بمنطق الواقع الذي لا يجدي إنكاره حين تتعذر الحياة الزوجية ، ويصبح الإمساك بالزوجية عبثا لا يقوم على أساس !
" والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدسة فيفصمه لأول وهلة ، ولأول بادرة من خلاف . إنه يشد على هذا الرباط بقوة ، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس .
" إنه يهتف بالرجال : ( وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية ، ويفتح لهم تلك النافذة المجهولة : ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )فما يدريهم أن في هؤلاء النسوة المكروهات خيرا ، وأن الله يدخر لهم هذا الخير . فلا يجوز أن يفلتوه . إن لم يكن ينبغي لهم أن يستمسكوا به ويعزوه ! وليس أبلغ من هذا في استحياء الإنعطاف الوجداني واستثارته ، وترويض الكره وإطفاء شرته .
" فإذا تجاوز الأمر مسألة الحب والكره إلى النشوز والنفور ، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام . بل لا بد من محاولة يقوم بها الآخرون ، وتوفيق يحاوله الخيرون : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله ، وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليما خبيرا ) . . ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا . فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ) . .
[ فإذا لم تجد هذه الوساطة ، فالأمر إذن جد ، وهناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة ، ولا يستقر لها قرار . وإمساك الزوجية على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة ، يزيدها الضغط فشلا ، ومن الحكمة التسليم بالواقع ، وإنهاء هذه الحياة على كره من الإسلام ، فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] .
فإذا أراد أن يطلق فليس في كل لحظة يجوز الطلاق . إنما السنة أن يكون في طهر لم يقع فيه وطء . . وفي هذا ما يؤجل فصم العقدة فترة بعد موقف الغضب والانفعال . وفي خلال هذه الفترة قد تتغير النفوس ، وتقر القلوب ، ويصلح الله بين المتخاصمين فلا يقع الطلاق !
ثم بعد ذلك فترة العدة . ثلاثة قروء للتي تحيض وتلد . وثلاثة أشهر للآيسة والصغيرة . وفترة الحمل للحوامل . وفي خلالها مجال للمعاودة إن نبضت في القلوب نابضة من مودة ، ومن رغبة في استئناف ما انقطع من حبل الزوجية .
ولكن هذه المحاولات كلها لا تنفي أن هناك انفصالا يقع ، وحالات لا بد أن تواجهها الشريعة مواجهة عملية واقعية ، فتشرع لها ، وتنظم أوضاعها ، وتعالج آثارها . وفي هذا كانت تلك الأحكام الدقيقة المفصلة ، التي تدل على واقعية هذا الدين في علاجه للحياة ، مع دفعها دائما إلى الأمام . ورفعها دائما إلى السماء .
والدلالة الرابعة للسورة وما فيها من الترغيب والترهيب والتعقيب والتفصيل الشديد والتوكيد ، هو أنها كانت تواجه حالات واقعة في الجماعة المسلمة متخلفة من رواسب الجاهلية ، وما كانت تلاقيه المرأة من العنت والخسف ، مما اقتضى هذا التشديد ، وهذا الحشد من المؤثرات النفسية ، ومن التفصيلات الدقيقة ، التي لا تدع مجالا للتلاعب والالتواء مع ما كان مستقرا في النفوس من تصورات متخلفة عن علاقات الجنسين ، ومن تفكك وفوضى في الحياة العائلية .
ولم يكن الحال هكذا في شبه الجزيرة وحدها ، إنما كان شائعا في العالم كله يومذاك . فكان وضع المرأة هو وضع الرقيق أو ما هو أسوأ من الرقيق في جنبات الأرض جميعا . فوق ما كان ينظر إلى العلاقات الجنسية نظرة استقذار ، وإلى المرأة كأنها شيطان يغري بهذه القذارة .
ومن هذه الوهدة العالمية ارتفع الإسلام بالمرأة وبالعلاقات الزوجية إلى ذلك المستوى الرفيع الطاهر الكريم الذي سبقت الإشارة إليه . وأنشأ للمرأة ما أنشأ من القيمة والاعتبار والحقوق والضمانات . . وليدة لا توأد ولا تهان . ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها ثيبا أو بكرا . وزوجة لها حقوق الرعاية فوق ضمانات الشريعة . ومطلقة لها هذه الحقوق المفصلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وغيرها . .
شرع الإسلام هذا كله . لا لأن النساء في شبه الجزيرة أو في أي مكان في العالم حينذاك شعرن بأن مكانهن غير مرض ! ولا لأن شعور الرجال كذلك قد تأذى بوضع النساء . ولا لأنه كان هناك اتحاد نسائي عربي أو عالمي ! ولا لأن المرأة دخلت دار الندوة أو مجلس الشورى ! ولا لأن هاتفا واحدا في الأرض هتف بتغيير الأحوال . . إنما كانت هي شريعة السماء للأرض . وعدالة السماء للأرض . وإرادة السماء بالأرض . . أن ترتفع الحياة البشرية من تلك الوهدة ، وأن تتطهر العلاقات الزوجية من تلك الوصمة ، وأن يكون للزوجين من نفس واحدة حقوق الإنسان وكرامة الإنسان .
. . هذا دين رفيع . . لا يعرض عنه إلا مطموس . ولا يعيبه إلا منكوس ، ولا يحاربه إلا موكوس . فإنه لا يدع شريعة الله إلى شريعة الناس إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه .
والآن نستعرض الأحكام في سياق السورة - بعد هذا الاستطراد الذي لا يبعد كثيرا عن جو هذا الجزء وما فيه من تنظيم وبناء للجماعة المسلمة - والأحكام في سياق السورة شيء آخر غير ذلك التلخيص . شيء حي . فيه روح . وفيه حركة . وفيه حياة . وفيه إيحاء . . وله إيقاع . وهذا هو الفارق الأصيل بين مدارسة الأحكام في القرآن ومدارستها في كتب الفقه والأصول .
( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ، وأحصوا العدة ، واتقوا الله ربكم ، لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وتلك حدود الله ، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه . لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . .
هذه هي أول مرحلة وهذا هو أول حكم يوجه الخطاب به إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( يا أيها النبي ) . . ثم يظهر أن الحكم خاص بالمسلمين لا بشخصه [ صلى الله عليه وسلم ] : إذا طلقتم النساء . . . الخ فيوحي هذا النسق من التعبير بما وراءه ، وهو إثارة الإهتمام ، وتصوير الجدية . فهو أمر ذو بال ، ينادي الله نبيه بشخصهليلقي إليه فيه بأمره ، كما يبلغه لمن وراءه . وهي إيحاءات نفسية واضحة الدلالة على ما يراد بها من احتفال واحتشاد .
( إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) . .
وقد ورد في تحديد معنى هذا النص حديث صحيح رواه البخاري ولفظه : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني سالم ، أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض ، فذكر عمر لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتغيظ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم قال : " ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل " . .
ورواه مسلم ولفظه : " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " . .
ومن ثم يتعين أن هناك وقتا معينا لإيقاع الطلاق ؛ وأنه ليس للزوج أن يطلق حينما شاء إلا أن تكون امرأته في حالة طهر من حيض ، ولم يقع بينهما في هذا الطهر وطء . وتفيد آثار أخرى أن هناك حالة ثانية يجوز فيها الطلاق ، وهو أن تكون الزوجة حاملا بينة الحمل . والحكمة في ذلك التوقيت هي أولا إرجاء إيقاع الطلاق فترة بعد اللحظة التي تتجه فيها النفس للطلاق ؛ وقد تسكن الفورة إن كانت طارئة وتعود النفوس إلى الوئام . كما أن فيه تأكدا من الحمل أو عدمه قبل الطلاق . فقد يمسك عن الطلاق لو علم أن زوجه حامل . فإذا مضى فيه وقد تبين حملها دل على أنه مريد له ولو كانت حاملا . فاشتراط الطهر بلا وطء هو للتحقيق من عدم الحمل ، واشتراط تبين الحمل هو ليكون على بصيرة من الأمر .
وهذه أول محاولة لرأب الصدع في بناء الأسرة ، ومحاولة دفع المعول عن ذلك البناء .
وليس معنى هذا أن الطلاق لا يقع إلا في هذه الفترة . فهو يقع حيثما طلق . ولكنه يكون مكروها من الله ، مغضوبا عليه من رسول الله . وهذا الحكم يكفي في ضمير المؤمن ليمسك به حتى يأتي الأجل . فيقضي الله ما يريد في هذه المسألة .
كي لا يكون في عدم إحصائها إطالة للأمد على المطلقة ، ومضارة لها بمنعها من الزواج بعد العدة . أو نقص في مدتها لا يتحقق به الغرض الأول ، وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل المستكن حفظا للأنساب . ثم هو الضبط الدقيق الذي يوحي بأهمية الأمر ، ومراقبة السماء له ، ومطالبة أصحابه بالدقة فيه !
( واتقوا الله ربكم . لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) .
هذا أول تنبيه - بعد وهلة النداء الأول - وأول تحذير من الله وتقديم تقواه . قبل الأمر بعدم إخراجهن من بيوتهن - وهي بيوت أزواجهن ولكنه يسميها بيوتهن لتوكيد حقهن في الإقامة بها فترة العدة - لا يخرجن منها ولا يخرجن ، إلا في حالة وقوع فاحشة ظاهرة منهن . وقد ورد أن هذه الفاحشة قد تكون الزنا فتخرج للحد : وقد تكون إيذاء أهل الزوج . وقد تكون هي النشوز على الزوج - ولو أنه مطلق - وعمل ما يؤذيه . ذلك أن الحكمة من إبقاء المطلقة في بيت الزوج هي إتاحة الفرصة للرجعة ، واستثارة عواطف المودة ، وذكرياتالحياة المشتركة ، حيث تكون الزوجة بعيدة بحكم الطلاق قريبة من العين ؛ فيفعل هذا في المشاعر فعله بين الإثنين ! فأما حين ترتكس في حمأة الزنا وهي في بيته ! أو تؤذي أهله ، أو تنشز عليه ، فلا محل لاستحياء المشاعر الطيبة ، واستجاشة المودة الدفينة . ولا حاجة إلى استبقائها في فترة العدة . فإن قربها منه حينذاك يقطع الوشائج ولا يستحييها !
( تلك حدود الله . ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . .
وهذا هو التحذير الثاني . فالحارس لهذا الحكم هو الله . فأي مؤمن إذن يتعرض لحد يحرسه الله ? ! إنه الهلاك والبوار . . ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . . ظلم نفسه لتعريضها هكذا لبأس الله القائم على حدوده يحرسها ويرعاها . وظلم نفسه بظلم زوجه . وهي وهو من نفس واحدة ، فما يظلمها يظلمه كذلك بهذا الاعتبار . . ثم . .
( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) .
وهي لمسة موحية مؤثرة . فمن ذا الذي يعلم غيب الله وقدره المخبوء وراء أمره بالعدة ، وأمره ببقاء المطلقات في بيوتهن . . إنه يلوح هناك أمل ، ويوصوص هناك رجاء . وقد يكون الخير كله . وقد تتغير الأحوال وتتبدل إلى هناءة ورضى . فقدر الله دائم الحركة ، دائم التغيير ، ودائم الأحداث . والتسليم لأمر الله أولى ، والرعاية له أوفق ، وتقواه ومراقبته فيها الخير يلوح هناك !
سورة { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } الخ شاعت تسميتها في المصاحف وفي كتب التفسير وكتب السنة : سورة الطلاق ولم ترد تسميتها بهذا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موسوم بالقبول .
وذكر في الإتقان أن عبد الله بن مسعود سماها سورة النساء القصرى أخذا مما أخرجه البخاري وغيره عن مالك بن عامر قال : كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر عنده أن الحامل المتوفى عنها تعتد أقصى الأجلين أي أجل وضع الحمل إن كان أكثر من أربعة أشهر وعشر ، وأجل الأربعة الأشهر وعشر فقال : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } اه . وفي الاتقان عن الداودي إنكار أن تدعى هذه السورة بالقصرى للتنزه عن وصف القرآن بصفة نقص ورده ابن حجر بأن القصر أمر نسبي أي ليس مشعرا بنقص على الإطلاق . وابن مسعود وصفها بالقصرى احترازا عن السورة المشهورة باسم سورة النساء التي هي السورة الرابعة في المصحف التي أولها { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } . وأما قوله الطولى فهو صفة لموصوف محذوف أي بعد السورة الطولى يعني سورة البقرة لأنها أطول سور القرآن ويتعين أن ذلك مراده لأن سورة البقرة هي التي ذكرت فيها عدة المتوفى عنها . وقد يتوهم أن سورة البقرة تسمى سورة النساء الطولى من مقابلتها بسورة النساء القصرى في كلام ابن مسعود . وليس كذلك كما تقدم في سورة النساء .
وعدد آيها اثنتا عشرة آية في عدد الأكثر . وعدها أهل البصرة إحدى عشرة آية .
وهي معدودة السادسة والتسعين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الإنسان وقبل سورة البينة .
وسبب نزولها ما رواه مسلم عن طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمان بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ليراجعها ، فردها وقال : إذا طهرت فليطلق أو ليمسك . قال ابن عمر وقرأ النبي : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } .
وظاهر قوله وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الخ . إنها نزلت عليه ساعتئذ . ويحتمل أن تكون نزلت قبل هذه الحادثة . وقال الواحدي عن السدي : أنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر وعن قتادة أنها نزلت بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح . وجزم أبو بكر بن العربي بأن شيئا من ذلك لم يصح وأن الأصح أن الآية نزلت بيانا لشرع مبتدإ .
الغرض من آيات هذه السورة تحديد أحكام الطلاق وما يعقبه من العدة والإرضاع والإنفاق والإسكان . تتميما للأحكام المذكورة في سورة البقرة .
والإيماء إلى حكمة شرع العدة والنهي عن الإضرار بالمطلقات والتضييق عليهن .
والإشهاد على التطليق وعلى المراجعة وإرضاع المطلقة ابنها بأجر على الله .
والأمر بالائتمار والتشاور بين الأبوين في شأن أولادهما .
وتخلل ذلك الأمر بالمحافظة الوعد بأن الله يؤيد من يتقي الله ويتبع حدوده ويجعل له من أمره يسرا ويكفر عنه سيئاته .
وأن الله وضع لكل شيء حكمه لا يعجزه تنفيذ أحكامه .
وأعقب ذلك بالموعظة بحال الأمم الذين عتوا عن أمر الله ورسله وهو حث للمسلمين على العمل بما أمرهم به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يحق عليهم وصف العتو عن الأمر .
وتشريف وحي الله تعالى بأنه منزل من السماوات وصادر عن علم الله وقدرته تعالى .
توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب من أساليب آيات التشريع المهتم به فلا يقتضي ذلك تخصيص ما يذكر بعده النبي صلى الله عليه وسلم مثل { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } [ الأنفال : 65 ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتولى تنفيذ الشريعة في أمته وتبيين أحوالها . فإن كان التشريع الوارد يشمله ويشمل الأمة جاء الخطاب مشتملاً على ما يفيد ذلك مثل صيغة الجمع في قوله هنا { إذا طلقتم النساء } وإن كان التشريع خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بما يقتضي ذلك نحو { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] .
قال أبو بكر بن العربي : وهذا قولهم أن الخطاب له لفظاً . والمعنى له وللمؤمنين ، وإذا أراد الله الخطاب للمؤمنين لاطفه بقوله : { يا أيها النبي } ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال : { يا أيها الرسول } [ المائدة : 67 ] اه . ووجه الاهتمام بأحكام الطلاق والمراجعة والعِدّة سنذكره عند قوله تعالى : { واتقوا الله ربكم } .
فالأحكام المذكورة في هذه السورة عامة للمسلمين فضمير الجمع في قوله : { إذا طلقتم النساء } وما بعده من الضمائر مثلِه مراد بها هو وأمته . وتوجيه الخطاب إليه لأنه المبلغ للناس وإمام أمته وقدوَتهم والمنفذ لأحكام الله فيهم فيما بينهم من المعاملات فالتقدير إذا طلقتم أيها المسلمون .
وظاهر كلمة { إذا } أنها للمستقبل وهذا يؤيد ما قاله أبو بكر بن العربي من أنها شرع مبتدأ قالوا : إنه يجوز أن يكون المراد إذا طلقتم في المستقبل فلا تعودوا إلى مثل ما فعلتم ولكن طلقوهن لعدتهن ، أي في أطْهارهن كما سيأتي .
وتكرير فعل { فطلقوهن } لمزيد الاهتمام به فلم يقل إذا طلقتم النساء فلِطهرهن وقد تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى : { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } في سورة [ الشعراء : 130 ] ، وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } في سورة [ الفرقان : 72 ] .
واللام في { لعدتهن } لام التوقيت وهي بمعنى عند مثل كُتب ليوممِ كذا من شهر كذا . ومنه قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] لا تحتمل هذه اللام غير ذلك من المعاني التي تأتي لها اللام . ولما كان مدخول اللام هنا غير زمان عُلم أن المراد الوقت المضاف إلى عدتهن أي وقت الطهر .
ومعنى التركيب أن عدة النساء جعلت وقتاً لإيقاع طلاقهن فكني بالعدة عن الطهر لأن المطلقة تعتد بالأطهار .
وفائدة ذلك أن يكون إيماء إلى حكمة هذا التشريع وهي أن يكون الطلاق عند ابتداء العِدة وإنما تُبتدأ العدة بأول طُهر من أطْهار ثلاثة لدفع المضرة عن المطلقة بإطالة انتظار تزويجها لأن ما بين حيضها إذا طلقت فيه وبين طهرها أيام غير محسوبة في عدتها فكان أكثر المطلقين يقصدون بذلك إطالة مدة العدة ليوسعوا على أنفسهم زمن الارتياء للمراجعة قبل أن يَبنَّ منهم .
وفعل { طلقتم } مستعمل في معنى أردتم الطلاق وهو استعمال وارد ومنه قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية والقرينة ظاهرة .
والآية تدل على إباحة التطليق بدلالة الإشارة لأن القرآن لا يقدِّر حصول فعل محرَّم من دون أن يبيّن منعه .
والطلاق مباح لأنه قد يَكون حاجيّاً لبعض الأزواج فإن الزوجين شخصان اعتشرا اعتشاراً حديثاً في الغالب لم تكن بينهما قبله صلة من نسب ولا جوار ولا تخلق بخلق متقارب أو متماثل فيكثر أن يحدث بينهما بعد التزوج تخالف في بعض نواحي المعاشرة قد يكون شديداً ويعسر تذليله ، فيمل أحدهما ولا يوجد سبيل إلى إراحتهما من ذلك إلا التفرقة بينهما فأحله الله لأنه حاجيّ ولكنه ما أحله إلا لدفع الضر فلا ينبغي أن يجعل الإِذن فيه ذريعة للنكاية من أحَد الزوجين بالآخر . أو من ذوي قرابتهما ، أو لقصد تبديل المذاق . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « أبغض الحلال إلى الله الطلاق » .
وتعليق { طلقتم } بإذا الشرطية مشعر بأن الطلاق خلاف الأصل في علاقة الزوجين التي قال الله فيها : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] .
واختلف العلماء في أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وجزم به الخطابي في « شرح سنن أبي داود » : ولم يثْبُتْ تطليق النبي صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح والمروي في ذلك خبرانِ ، أولهما ما رواه ابن ماجة عن سويد بن سعيد وعبد الله بن عامر بن زرارة ومسروق بن المرزبان بسندهم إلى ابن عباس عن عُمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصَة ثم راجعها . وفي هذا السند ضعف لأن سُوَيد بن سعيد ضعيف نسبه ابن معين إلى الكذب وضعفه ابن المديني والنسائي وابن عدي . وقَبله أحمد بن حنبل وأبو حاتم . وكذلك مسروق بن المرزبان يضعف أيضاً . وبقي عبد الله بن عامر بن زرارة لا متكلم فيه فيكون الحديث صحيحاً لكنه غريب وهو لا يُقبل فيما تتوفر الدواعي على روايته كهذا . وهذا الحديث غريب في مبدئه ومنتهاه لانفراد سعيد بن جبير بروايته عن ابن عباس ، وانفراد ابن عباس بروايته عن عمر بن الخطاب مع عدم إخراج أهل الصحيح إياه فالأشبه أنه لم يقع طلاق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ولكن كانت قضيةُ الإيلاء بسبب حفصة .
والمعروف في « الصحيح » عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه فقال الناس طلق رسول الله نساءه . قال عمر : « فقلت يا رسول الله أطلقتَ نساءك ؟ ، قال : « لا آليت منهن شهراً » . فلعل أحد رواة الحديث عن ابن عباس عبر عن الإيلاء بلفظ التطليق وعن الفَيْئة بلفظ راجع على أن ابن ماجه يضعف عند أهل النقد .
وثانيهما : حديث الجونية أسماءَ أو أميمة بنت شُراحيل الكندية في « الصحيح » : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وأنه لما دخل يبني بها قالت له : « أعوذ بالله منك ، فقال : قد عذت بمعاذ ألحقي بأهلك » وأمَرَ أبا أُسيد الساعدي أن يكسوها ثوبين وأن يلحقها بأهلها ، ولعلها أرادت إظهار شرفها والتظاهر بأنها لا ترغب في الرجال وهو خُلق شائع في النساء .
والأشبه أن هذا طلاق وأنه كان على سبب سؤالها فهو مثل التخيير الذي قال الله تعالى فيه : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا } في سورة [ الأحزاب : 28 ] . فلا يعارض ذلك قوله : أبغض الحلال إلى الله الطلاق . إذ يكون قوله ذلك مخصوصاً بالطلاق الذي يأتيه الزوج بداع من تلقاء نفسه لأن علة الكراهية هي ما يخلفه الطلاق من بغضاء المطلقة من يطلقها فلا يصدر من النبي ابتداء تجنباً من أن تبغضه المطلقة فيكون ذلك وَبَالاً عليها ، فأما إذا سألته فقد انتفت الذريعة التي يجب سدها .
وعُلم من قوله تعالى : { لعدتهن } أنهن النساء المدخول بهن لأن غير المدخول بهن لا عدة لهن إجماعاً بنص آية الأحزاب .
وهذه الآية حجة لمالك والشافعي والجمهور أن العدة بالأطهار لا بالحِيَض فإن الآية دلت على أن يكون إيقاع الطلاق عند مبدإ الاعتداد فلو كان مبدأ الاعتداد هو الحيض لكانت الآية أمراً بإيقاع الطلاق في الحيض ولا خلاف في أن ذلك منهي عنه لحديث عمر في قضية طلاق ابنه عبد الله بن عمر زوجه وهي حائض . واتفق أهل العلم على الأخذ به فكيف يخالف مخالف في معنى القرء خلافاً يفضي إلى إبطال حكم القضية في ابن عمر وقد كانت العدة مشروعة من قبل بآية سورة البقرة وآيات الأحزاب فلذلك كان نوط إيقاع الطلاق بالحال التي تكون بها العدة إحالة على أمر معلوم لهم .
الإِحصاء : معرفة العدِّ وضبطه . وهو مشتق من الحصى وهي صغار الحجارة لأنهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعلوا لكل معدود حصاةً ثم عدوا ذلك الحصى ، قال تعالى : { وأحصى كل شيء عدداً } [ الجن : 28 ] .
والمعنى : الأمر بضبط أيام العدة والإتيان على جميعها وعدم التساهل فيها لأن التساهل فيها ذريعة إلى أحد أمرين ؛ إما التزويج قبل انتهائها فربّما اختلط النسب ، وإما تطويل المدة على المطلقة في أيام منعها من التزوج لأنها في مدة العدة لا تخلو من حاجة إلى من يقوم بها .
وأما فوات أمد المراجعة إذا كان المطلق قد ثاب إلى مراجعة امرأته .
والتعريف في العدة للعهد فإن الاعتداد مشروع من قبل كما علمته آنفاً والكلام على تقدير مضاف لأن المحصَى أيام العدة .
والمخاطب بضمير { أحصوا } هم المخاطبون بضمير { إذا طلقتم } فيأخذ كل من يتعلق به هذا الحكم حَظه من المطلق والمطلقة ومن يطلع على مخالفة ذلك من المسلمين وخاصة ولاة الأمور من الحكام وأهل الحسبة فإنهم الأولى بإقامة شرائع الله في الأمة وبخاصة إذا رأوا تفشي الاستخفاف بما قصدته الشريعة . وقد بيّنا ذلك في باب مقاصد القضاء من كتابي « مقاصد الشريعة » .
ففي العدة مصالح كثيرة وتحتها حقوق مختلفة اقتضتها تلك المصالح الكثيرة وأكثر تلك الحقوق للمطلِّق والمطلَّقة وهي تستتبع حقوقاً للمسلمين وولاةِ أمورهم في المحافظة على تلك الحقوق وخاصة عند التحاكم .
اعتراض بين جملة { وأحصوا العدة } وجملة { لا تخرجوهن من بيوتهن } والواو اعتراضية .
وحذف متعلّق { اتقوا الله } ليعم جميع ما يتقى الله فيه فيكون هذا من قبيل الاعتراض التذييلي وأول ما يقصد بأن يتقى الله فيه ما سيق الكلام لأجله .
فقوله : { واتقوا الله ربكم } تحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة . ذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزناً وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدّي ، وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله ولزيادة الحرص على التقوى أتبع اسم الجلالة بوصف { ربّكم } للتذكير بأنه حقيق بأن يتقى غضبه .
{ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مبينة } .
استئناف أو حال من ضمير { أحصوا العدة } ، أي حالة كون العدة في بيوتهن ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة { أحصوا العدة } لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة .
ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو جوازاً أو وجوباً .
وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه مِلْك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاّتي كنّ فيها أزواجاً استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب « ربّة البيت » وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق .
وهذا الحكم سببُه مركب من قصد المكارمة بين المطلّق والمطلقة . وقصد الانضباط في علة الاعتداد تكميلاً لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلّق حتى يبرأ النسب من كل شك .
وجملة { ولا يخرجن } عطف على جملة { لا تخرجوهن } وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يُخرجها فترْغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج . فَإذا كان البيت مكترى سكنتْه المطلقة وكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة .
وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعِرضه فهذا مقتضى الآية .
ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً وقال ابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية ، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور : حفظ النسب ، وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها . وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم } [ الطلاق : 6 ] الآية . وتَعلم أن ذلك تأكيداً لما في هذه الآية من وجوب الإِسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله : { من وجدكم } [ الطلاق : 6 ] وما عطف عليه .
والاستثناء في قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول . ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقاً لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة . وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله : { لا تخرجوهن } { ولا يخرجن } . فالمعنى : إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجْن ، أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه .
والفاحشة : الفِعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنا كما في قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } الآية في سورة [ النساء : ] 15 .
وشَمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] . وقوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } في سورة [ الأعراف : 33 ] . قال ابن عطية : قال بعض الناس : الفاحشة متى وردت في القرآن معرَّفة فهي الزنا ( يريد أو ما يشبهه ) كما في قوله : { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } [ الأعراف : 80 ] ومتى وردت منكرة فهي المعاصي .
وقرأ الجمهور { مبينة } بكسر الياء التحتية ، أي هي تُبيِّن لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجاز باستعارة التبيين للوضوح أو تبيين لولاة الأمور صدورَها من المرأة فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازاً عقلياً وإنما المبيِّن ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل في كل حالة على ما يناسب معنى التبيين .
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم { مبيَّنة } بفتح التحتية ، أي كانت فاحشة بَينتْها الحجة أو بينَها الخارج ومحمل القراءتين واحد .
ووصفها ب { مبينة } إما أن يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش ، أي هي فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرفاً . وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التي تخرج .
وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها فعن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعْدود أبي يوسف : أن الفاحشة الزنا ، قالوا : ومعاد الاستثناء الإِذن في إخراجهن ، أي ليقام عليهن الحد .
وفسرت الفاحشة بالبَذَاء على الجيران والأحماء أو على الزوج بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين ونسب هذا إلى أبي بن كعب لأنه قرأ « إلا أن يفحشن عليكم » ( بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش ) وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الشافعي .
وفسرت الفاحشة بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت فإن العدة بَلْه الزنا ونسب إلى ابن عباس أيضاً وابن عُمر وقاله السدي وأبو حنيفة .
وعن قتادة الفاحشة : النشوز ، أي إذا طلقها لأجللِ النشوز فلا سكنى لها .
وعن ابن عمر والسدي إرجاع الاستثناء إلى الجملة التي هو موال لها وهي جملة { ولا يخرجن } أي هن منهيات عن الخروج إلا أن يردن أن يأتين بفاحشة ، ومعنى ذلك إرادة تفظيع خروجهن ، أي إن أردن أن يأتين بفاحشة يخرجن وهذا بما يسمى تأكيد الشيء بما يشبه ضده كذا سماه السكاكي تسمية عند الأقدمين تأكيد المادح بما يشبه الذم ومنه قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
فجعلت الآية خروجهن ريبة لهن وحذرت النساء منه بأسلوب خطابي ( بفتح الخاء ) فيكون هذا الاستثناء منعاً لهن من الخروج على طريقة المبالغة في النهي .
ومحمل فعل { يأتين } على هذا الوجه أنه من يردن أن يأتين مثل { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] .
وقد ورد في « الصحيح » عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتته فاطمة بنت قيس الفهرية فأخبرته أن زوجها أبا عمرو بن حفص أو أبا حفص بن عَمرو ( وكان وجهه النبي صلى الله عليه وسلم مع عليّ إلى اليمن ) فأرسل إليها من اليمن بتطليقة صادفت آخر الثلاث فبانت منه ، وأنه أرسل إلى بعض ذويه بأن ينفقوا عليها مدة العدة فقالوا لها : ما لكِ نفقة إلا أن تكوني حاملاً ، وأنها رفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم . وفي رواية أنها قالت : أخاف أن يُقْتَحَم عليَّ ( بالبناء للمجهول ) ، وفي رواية أنها كانت في مكان وحْش مخيف على ناحيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال .
واختلف العلماء في انتقالها فقال جماعة : هو رُخصة لفاطمة بنت قيس لا تتجاوزها وكانت عائشة أم المؤمنين ترى ذلك ، روَى البخاري أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته عَمرة بنت عبد الرحمان بن الحكم وكان عمُّها مروان بن الحكم أميرَ المدينة يومئذٍ فانتقلها أبوها إليه فبلغ ذلك عائشةَ أم المؤمنين فأرسلت إلى مروان أن اتَّققِ الله وأرددها إلى بيتها فقال مروان : أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس ؟ قالت عائشة : لا يضركَ أن لا تذكر حديثَ فاطمة ، فقال مروان : إن كان بككِ الشَّرَّ فحسبككِ ما بين هذين من الشَّر ، ( ولعل عائشة اقتنعت بذلك إذ لم يرد أنها ردت عليه ) .
وفي « الصحيح » عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا ندع كتاب الله وسنةَ نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت . وقالت عائشة : ليس لفاطمة بنت قيس خبر في ذكر هذا الحديث وعابت عليها أشدَّ العيب . وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش مُخيف على ناحيتها فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال . ويظهر من هذا أنه اختلاف في حقيقة العذر المسوغ للانتقال . قال مالك : وليس للمرأة أن تنتقل من موضع عدتها بغير عذر رواه الباجي في « المنتقى » .
وقال ابن العربي : إن الخروج للحدث والبَذاء والحاجة إلى المعايش وخوففِ العودة من المسكن جائز بالسنة .
ومن العلماء من جوز الانتقال للضرورة وجعلوا ذلك محمل حديث فاطمة بنت قيس فإنها خيف عليها في مكان وحش وحدث بينها وبين أهل زوجها شر وبَذاء قال سعيد بن المسيب : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها أنها كانت لَسِنَة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنتقل وهذا الاختلاف قريب من أن يكون اختلافاً لفظياً لاتفاق الجميع عدا عمر بن الخطاب على أن انتقالها كان لعذر قَبله النبي صلى الله عليه وسلم فتكون تلك القضية مخصصة للآية ويجري القياس عليها إذا تحققت علة القياس .
أما قول عمر بن الخطاب : لا نَدع كتابَ الله وسنةَ نبينا لقول امرأة أحفظتْ أم نسيت . فهو دحض لرواية فاطمة ابنة قيس بشكَ له فيه فلا تكون معارضة لآية حتى يصار إلى الجمع بالتخصيص والترخيص . وقال ابن العربي : قيل إن عمر لم يخصص القرآن بخبر الواحد .
وأما تحديد منع خروج المعتدة من بيتها فلا خلاف في أن مبيتها في غير بيتها حرام . وأما خروجها نهاراً لقضاء شؤون نفسها فجوزه مالك والليث بن سعد وأحمد للمعتدة مطلقاً .
وقال الشافعي : المطلقة الرجعية لا تخرج ليلاً ولا نهاراً والمبتوتة تخرج نهاراً . وقال أبو حنيفة : تخرج المعتدة عدة الوفاة نهاراً ولا تخرج غيرها ، لا ليلاً ولا نهاراً .
وفي « صحيح مسلم » أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن حديثها فلما أبلغ إليه قال : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي وجدنا عليها الناس . فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : « فبَيني وبينكم القرآن قال الله عز وجل : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } . هذا لمن كان له رجعة فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً فعَلام تحبسُونها فظنت أن ملازمة بيتها لاستبقاء الصلة بينها وبين مفارقها وأنها ملزمة بذلك لأجْل الإنفاق .
والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة أنها حفظ الإعراض فإن المطلقة يكثر إلتفات العيون لها وقد يتسرب سوء الظن إليها فيكثر الاختلاف عليها ولا تجد ذا عصمة يذب عنها فلذلك شرعت لها السكنى ولا تخرج إلا لحاجياتها فهذه حكمة من قبيل المَظنة فإذا طرأ على الأحوال ما أوقعها في المشقة أو أوقع الناس في مشقة من جرائها أخرجت من ذلك المسكن وجرَى على مكثها في المسكن الذي تنتقل إليه ما يجري عليها في مسكن مطلقها لأن المظِنة قد عارضتها مَئِنَّة . ومن الحكم أيضاً في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكناً لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال وإنما هن عيال على الرجال فلما كانت المعتدة ممنوعة من التزوج كان إسكانها حقاً على مفارقها استصحاباً للحال حتى تحل للتزوج فتصير سكناها على من يتزوجها . ويزاد في المطلقة الرجعية قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها لعلهُ أن يثوب إليه رشده فيراجعها فلا يحتاج في مراجعتها إلى إعادة التذاكر بينه وبينها أو بينه وبين أهلها . فهذا مجموع علل فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها بخلاف العلة المركبة إذا تخلف جزء منها .
الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة { ولا يخرجن } ، وجملة { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أريد بهذا الاعتراض المبادرة بالتنبيه إلى إقامة الأحكام المذكورة من أول السورة إقامةً لا تقصير فيها ولا خيرة لأحد في التسامح بها ، وخاصة المطلَّقة والمطلِّق أن يحسبا أن ذلك من حقهما انفراداً أو اشتراكاً .
والإشارة إلى الجمل المتقدمة باعتبار معانيها بتأويل القضايا .
والحدودُ : جمع حد وهو ما يَحُد ، أي يمنع من الاجتياز إلى ما ورائه للأماكن التي لا يحبون الاقتحام فيها إما مطلقاً مِثل حدود الحِمى وإما لوجوب تغيير الحالة مثل حدود الحَرم لمنع الصيد وحدود المواقيت للإحرام بالحج والعمرة .
والمعنى : أن هذه الأحكام مشابهة الحدود في المحافظة على ما تقتضيه في هذا .
ووجه الشبه إنما يراعى بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم : « النحو في الكلام كالملح في الطعام » فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسداً ككثرة الملح في الطعام .
ووقوع { حدود الله } خبراً عن اسم الإشارة الذي أشير به إلى أشياء معينة يجعل إضافة حدود إلى اسم الجلالة مراداً منها تشريف المضاف وتعظيمه .
والمعنى : وتلك مما حدّ الله فلا تفيد تعريف الجمع بالإضافة عموماً لصرف القرينة عن إفادة ذلك لظهور أن تلك الأشياء المعينة ليست جميع حدود الله .
{ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نفسه } .
عطف على جملة ، { وتلك حدود الله } . فهو تتميم وهو المقصود من التذييل وإذ قد كان حدود الله جمعاً معرفاً بالإضافة كان مفيداً للعموم إذ لا صارف عن إرادة العموم بخلاف إضافة حدود الله السابق .
والمعنى : من يتعد شيئاً من حدود الله فقد ظلم نفسه ، وبهذا تعلم أن ليس في قوله : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } إظهار في مقام الإضمار لاختلاف هذين المركبين بالعموم والخصوص وجيء بهذا الإطناب لتهويل أمر هذا التعدي .
وأُخبر عن متعديها بأنه ظلم نفسه للتخويف تحذيراً من تعدي هذه الحدود فإن ظلم النفس هو الجريرة عليها بما يعود بالإضرار وذلك منه ظلم لها في الدنيا بتعريض النفس لعواقب سيئة تنجر من مخالفة أحكام الدين لأن أحكامه صلاح للناس فمن فرط فيها فاتته المصالح المنطوية هي عليها .
قال : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطَهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } [ المائدة : 6 ] .
ومنه ظلم للنفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعد به على الإخلال بأحكام الدّين قال تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنتُ لمن الساخرين أو تقولَ لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } [ الزمر : 56 58 ] فإن للمؤمنين حظاً من هذا الوعيد بمقدار تفاوت ما بين الكفر ومجرد العصيان وجيء في هذا التحذير بمَن الشرطية لإفادة عموم كل من تعدى حدود الله فيدخل في ذلك الذين يتعدون أحكام الطلاق وأحكام العدة في هذا العموم .
{ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمرا } .
هذه الجملة تعليل لجملة { فطلقوهن لعدتهن } وما ألحق بها مما هو إيضاح لها وتفصيل لأحوالها . ولذلك جاءت مفصولة عن الجمل التي قبلها .
ويجوز كونها بَدلاً من جملة { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } بدل اشتمال لأن ظلم النفس بعضه حاصل في الدنيا وهو مشتمل على إضاعة مصالح النفس عنها . وقد سلك في هذه الآية مسلك الترغيب في امتثال الأحكام المتقدمة بعد أن سلك في شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها .
فمن مصالح الاعتداد ما في مدة الاعتداد من التوسيع على الزوجين في مهلة النظر في مصير شأنهما بعد الطلاق ، فقد يتضح لهما أو لأحدهما متاعب وأضرار من انفصام عروة المعاشرة بينهما فَيعُّدّ ما أضجرهما من بعض خُلقهما شيئاً تافهاً بالنسبة لما لحقهما من أضرار الطلاق فيندم كلاهما أو أحدهما فيجدا من المدة ما يسع للسعي بينهما في إصلاح ذات بينهما .
والمقصود الإشارة إلى أهم ما في العدة من المصالح وهو ما يُحدثه الله من أمر بعد الطلاق وتنكير أمر للتنويع .
أي أمراً موصوفاً بصفة محذوفة ، أي أمراً نافعاً لهما .
وهذا الأمر هو تقليب القلوب من بغض إلى محبة ، ومن غضب إلى رضى ، ومن إيثار تحمل المخالفة في الأخلاق مع المعاشرة على تحمل آلام الفراق وخاصة إذا كان بين المتفارقين أبناء ، أو من ظهور حمل بالمطلقة بعد أن لم يكن لها أولاد فيلزُّ ظهوره أباه إلى مراجعة أمه المطلقة . على أن في الاعتداد والإسكان مصالح أخرى كما علمته آنفاً .
والخطاب في قوله : { لا تدري } لغير معين جار على طريقة القصد بالخطاب إلى كل من يصلح للخطاب ويهمه أمر الشيء المخاطب به من كل من قَصر بصره إلى حالة الكراهية التي نشأ عليها الطلاق ولم يتدبر في عواقب الأمور ولا أحاط فِكرُه بصور الأحوال المختلفة المتقلبة كما قال تعالى : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } [ النساء : 19 ] .
ولعل كلمة { لا تدري } تجري مجرى المثل فلا يراد مما فيها من علامة الخطاب ولا من صيغة الإفراد إلا الجري على الغالب في الخطاب وهو مبني على توجيه الخطاب لغير معين .