وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة ؛ ويتجه بالخطاب إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها ؛ وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعا وأحزابا مع الأهواء والنزوات !
( فأقم وجهك للدين حنيفا . فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) . .
هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده ، وفي موضعه ، بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده ، وفي أغوار النفس وفطرتها . . يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله ؛ كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل ، ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح . . وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن . السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس .
( فأقم وجهك للدين حنيفا ) . . واتجه إليه مستقيما . فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق ، ولا تستمد من علم ، إنما تتبع الشهوات ، والنزوات بغير ضابط ولا دليل . . أقم وجهك للدين حنيفا مائلا عن كل ما عداه ، مستقيما على نهيه دون سواه :
( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) . . وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين ؛ وكلاهما من صنع الله ؛ و كلاهما موافق لناموس الوجود ؛ وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه . والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف . وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير . والفطرة ثابتة والدين ثابت : ( لا تبديل لخلق الله ) . فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة . فطرة البشر وفطرة الوجود .
ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . . فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم .
والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم ، ولو أنه موجه إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلا أن المقصود به جميع المؤمنين . لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلا معنى إقامة الوجه للدين :
يقول تعالى : فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك ، من الحنيفية ملة إبراهيم ، الذي هداك الله لها ، وكملها لك غاية الكمال ، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة ، التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه تعالى فطر خلقه على [ معرفته وتوحيده ، وأنه لا إله غيره ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [ الأعراف : 172 ] ، وفي الحديث : " إني خلقت عبادي حُنَفاء ، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على ]{[22817]} الإسلام ، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية أو النصرانية أو المجوسية{[22818]} .
وقوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } قال بعضهم : معناه لا تبدلوا خلق الله ، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها . فيكون خبرا بمعنى الطلب ، كقوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 97 ] ، وهذا معنى حسن صحيح .
وقال آخرون : هو خبر على بابه ، ومعناه : أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة ، لا يولد أحد إلا على ذلك ، ولا تفاوت بين الناس في ذلك ؛ ولهذا قال ابن عباس ، وإبراهيم النَّخَعي ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد {[22819]} في قوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي : لدين الله .
وقال البخاري : قوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } : لدين الله ، خَلْقُ الأولين : [ دين الأولين ] ، {[22820]} والدين والفطرة : الإسلام .
حدثنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن {[22821]} أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدَانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجسانه ، كما تَنْتِج البهيمة بهيمة جَمْعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء " ؟ ثم يقول : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } .
ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيْلي ، عن الزهري ، به{[22822]} . وأخرجاه - أيضا - من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[22823]} .
وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة ، فمنهم الأسودُ بن سَرِيع التميمي . قال{[22824]} الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل ، حدثنا يونس ، عن الحسن{[22825]} عن الأسود بن سَرِيع [ التميمي ]{[22826]} قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه ، فأصبت ظهرا {[22827]} ، فقتل الناس يومئذ ، حتى قتلوا الولدان . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟ " . فقال رجل : يا رسول الله ، أما هم أبناء المشركين ؟ فقال : " ألا إنما خياركم أبناء المشركين " . ثم قال : " لا تقتلوا ذرية ، لا تقتلوا ذرية " . وقال : " كل نسمة تولد على الفطرة ، حتى يُعرب عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو ينصرانها " .
ورواه النسائي في كتاب السير ، عن زياد بن أيوب ، عن هُشَيْم ، عن يونس - وهو ابن عبيد - عن الحسن البصري ، به{[22828]} {[22829]} .
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال الإمام أحمد :
حدثنا هاشم ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، عن جابر عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يُعرب عنه لسانه ، فإذا عبر{[22830]} عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورا " {[22831]} .
ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير{[22832]} ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن أولاد المشركين ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم " . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليَشْكُرِي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا بذلك{[22833]} .
وقد قال{[22834]} أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - أنبأنا عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس قال : أتى عليَّ زمان وأنا أقول : أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين ، وأولاد المشركين مع المشركين . حتى حدثني فلان عن{[22835]} فلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل{[22836]} عنهم فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " . قال : فلقيت الرجل فأخبرني . فأمسكت عن قولي{[22837]} .
ومنهم عياض بن حِمار المجاشعي ، قال{[22838]} الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن مُطَرّف ، عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : " إن ربي ، عز وجل ، أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا ، كل مال نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله ، عز وجل ، نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان .
ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا ، فقلت : يا رب إذًا يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خبُزَةً . قال{[22839]} : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نَغْزُك ، وأنفق عليهم فسننفق عليك . وابعث جيشا نبعث خمسة مثله ، وقاتل بِمَنْ أطاعك مَنْ عصاك " . قال : " وأهل الجنة : ثلاثة ذو سلطان مُقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف فقير متصدق . وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زَبْرَ له ، الذين هم فيكم تَبَعًا ، لا يبتغون أهلا ولا مالا . والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه . ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن{[22840]} أهلك ومالك " وذكر البخيل ، أو الكذاب ، والشنظير : الفحاش{[22841]} .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طرق عن قتادة ، به{[22842]} .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : التمسك بالشريعة{[22843]} والفطرة السليمة هو الدين القويم المستقيم ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي : فلهذا لا يعرفه أكثر الناس ، فهم عنه ناكبون ، كما قال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [ الأنعام : 116 ] .
{ فأقم وجهك للدين حنيفا } فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه ، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به . { فطرت الله } خلقته نصب على الإغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها . { التي فطر الناس عليها } خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه ، أو ملة الإسلام فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها ، وقيل العهد المأخوذ من آدم وذريته . { لا تبديل لخلق الله } لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغير . { ذلك } إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة أن فسرت بالملة . { الدين القيم } المستقيم الذي لا عوج فيه . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } استقامته لعدم تدبرهم .
ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه للدين المستقيم وهو دين الإسلام ، وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين ، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه{[9310]} ، و { حنيفاً } ، معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة ، وقوله { فطرةَ الله } نصب على المصدر ، كقوله { صبغة الله }{[9311]} [ البقرة : 138 ] وقيل هو نصب بفعل مضمر تقديره اتبع والتزم { فطرة الله } ، واختلف الناس في «الفطرة » ها هنا ، فذكر مكي وغيره في ذلك جميع ما يمكن أن تصرف هذه اللفظة عليه وفي بعض ذلك قلق ، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به ، فكأنه قال { فأقم وجهك للدين } الذي هو الحنيف وهو { فطرة الله } الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه » الحديث{[9312]} ، فذكر الأبوين : إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة وقوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } يحتمل تأويلين : أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة أي اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق ، ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه ، والآخران أن يكون قوله { لا تبديل لخلق الله } إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي إنهم لا يفلحون ، وقال مجاهد : المعنى لا تبديل لدين الله ، وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا معناه لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف فإن كل شريعة هي عقائدها ، وذهب بعض المفسرين في هذه الآية إلى تأويلات منها عكرمة ، وقد روي عن ابن عباس { لا تبديل لخلق الله } معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان ، ومنها قول بعضهم في الفطرة الملة على أنه قد قيل في الفطرة الدين وتأول قوله { فطر الناس } على الخصوص أي المؤمنين ، وقيل «الفطرة » هو العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره ، ونحوه حديث معاذ بن جبل حين مر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال يا معاذ ما قوام هذه الأمة ؟ قال : الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والصلاة وهي الدين والطاعة وهي العصمة فقال عمر : صدقت{[9313]} ، و { القيم } بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة .