في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة العلق مكية وآيتها تسع عشرة

مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق . والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :

" أول ما بدئ به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء . وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود إلى ذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ، ثم قال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . فرجع بها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : يا خديجة مالي ? وأخبرها الخبر . وقال : " قد خشيت على نفسي " فقالت له : كلا . أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا . إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها . وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية . كان يكتب الكتاب العربي ، وكتب العبرانية من الإنجيل - ما شاء الله أن يكتب - وكان شيخا كبيرا قد عمي . فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ، ما ترى ? فأخبره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بما رأى . فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى . ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " أو مخرجي هم ? " فقال ورقة : نعم . لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي . . . الخ " . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري . .

وروى الطبري - بإسناده - عن عبد الله بن الزبير . قال :

" قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال : اقرأ . فقلت : ما اقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ماذا أقرأ ? وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي . قال : اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم قال : فقرأته . ثم انتهى ، ثم انصرف عني . وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا . قال : ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون . كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت : إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن ! قال : فخرجت أريد ذلك . حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد . أنت رسول الله وأنا جبريل . قال فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه ، وشغلني ذلك عما أردت ، فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في أفاق السماء ، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ، ولا أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني . . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي . . . " . .

وقد رواه ابن إسحاق مطولا عن وهب بن كيسان عن عبيد أيضا . .

وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه !

إنه حادث ضخم . ضخم جدا . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا !

إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .

ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ?

حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرم هذه الخلقية باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .

وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان - قدر طاقته - حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية . ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية . ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني ؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور ؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال . . وهو يتصور كلمات الله ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة !

وما دلالة هذا الحادث ?

دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .

ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا . . هذه . . أن يذكره الله ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال .

فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى . بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني . . منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه . . إنها ليست الأرض وليس الهوى . . إنما هي السماء والوحي الإلهي .

ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة . . في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة . عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم . كبيره وصغيره . يحسون ويتحركون تحت عين الله . ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة . تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب . . وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك !

ولقد كانت فترة عجيبة حقا . فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى . فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها . وأحسوها . وشهدوا بدأها ونهايتها . وذاقوا حلاوة هذا الاتصال . وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق . ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا . . وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض . مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم ! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء . بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي بين الجاهلية والإسلام . بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام !

وكانوا يعرفون مذاقها . ويدركون حلاوتها . ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا .

عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي الله عنها - نزورها كما كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يزورها . فلما أتيا إليها بكت . فقالا لها : ما يبكيك ? أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قالت : بلى ، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء . فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها . . . [ أخرجه مسلم ] . . .

ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض ، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .

لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط ، وكما لم يتحول من بعد أيضا . وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق . وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان ، ولا تطمسها الأحداث . وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة ، ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا ، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية . ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض ! وتبينت خطوطه ومعالمه . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . . لا غموض ولا إبهام . إنما هو الضلال عن علم ، والانحراف عن عمد ، والالتواء عن قصد !

إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة . الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد . والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل . والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به ، وسجله الضمير الإنساني . وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها . وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان . . .

ذلك شأن المقطع الأول من السورة . فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد . فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة ، بعد تكليف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إبلاغ الدعوة ، والجهر بالعبادة ، وقيام المشركين بالمعارضة . وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ? ) . . . الخ

ولكن هناك تناسقا كاملا بين أجزاء السورة ، وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم . يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة . .

( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . .

إنها السورة الأولى من هذا القرآن ، فهي تبدأ باسم الله . وتوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أول ما توجه ، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى ، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها . . توجهه إلى أن يقرأ باسم الله : ( اقرأ باسم ربك ) . .

وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء : ( الذي خلق ) .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة العلق

أهداف سورة العلق

( سورة العلق مكية ، وهي أول ما نزل من القرآن الكريم ، وعدد آياتها 19 آية )

مع آيات السورة

1-5- ورد في كتب الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في غار حراء ، فجاءه الملك فضمّه ضمّا شديدا حتى بلغ منه الجهد ثلاث مرات ، ثم قال :

اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم* علّم الإنسان ما لم يعلم .

اقرأ باسم الله وقدرته ، الذي أحكم الخلق ، وهو بديع السماوات والأرض ، خلق الإنسان من دم متجمد ، يعلق بجدار الرحم ، فسواه من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام ، فكسا العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين .

اقرأ وربك الأكرم الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم ، ينعم على عباده بالنعم ، ويحلم عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة .

ومن الله يستمد الإنسان كل ما علم وكل ما يعلم ، والله هو الذي خلق وهو الذي علّم فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة .

وقد كان صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله ، وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه ، وفي مشيه وركوبه ، وسيره ونزوله ، وسفره وإقامته ، ولقد كان واجب كل إنسان أن يعرف ربه ويشكره ، ولكن الذي حدث غير هذا .

6-8- كلا إن الإنسان ليتجاوز الحد في التعدي ، أن رأى نفسه مستغنيا ، إن إلى ربك الرجوع والحساب ، فليس هناك مرجع سواه ، إليه يرجع الغني والفقير ، والصالح والشرير ، ومنه النشأة وإليه المصير .

وكان أبو جهل يقول : أو رأيت محمدا ساجدا لوطئت عنقه ، فأنزل الله عز وجل :

9-14- أرأيت الذي ينهى* عبدا إذا صلى . أي : أرأيت أبا جهل ينهى محمدا عن الصلاة ؟ أرأيت إن كان هذا الذي يصلي على الهدى أو أمر بالتقوى ، ثم ينهاه من ينهاه مع أنه على الهدى وآمر بالتقوى ؟

أرأيت إن كان ذلك الناهي مكذبا بالحق متوليا عنه : ألم يعلم بأن الله يرى . ويطلع على أحواله ، ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى ، وسيؤاخذه على ذلك ، وقد وردت روايات صحيحة ، تفيد أن أبا جهل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، فأغلظ له الرسول القول ، فقال أبو جهل : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ، أي مجلسا يجتمع فيه القوم والأعوان .

15-19- وأمام مشهد الطغيان يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير : كلا لئن لم يرجع عما هو فيه ، لنقبضن على ناصيته ، ولنجذبنها جذبا شديدا عنيفا ، فهي ناصية كذّبت الحق وأخطأت الطريق ، فليدع أهل ناديه لينتصروا له وليمنعوه منا ، ندع الزبانية الشداد الغلاظ ، كلا لا تطع هذا الطاغي ، واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة ، فهو الحصن والملجأ ، وهو نعم المولى ونعم النصير .

مقاصد سورة العلق

تشتمل سورة العلق على المقاصد الآتية :

1- حكمة الله في خلق الإنسان من قطعة لحم بجدار الرحم ، ثم تكوينه خلقا كاملا ، يبسط سلطانه على كثير من الكائنات .

2- من كرم الله وإنعامه أن علّم الإنسان البيان ، وأفاض عليه الكثير من النعم ، مما جعل له القدرة على غيره مما في الأرض .

3- لقد غفل الإنسان عن هذه النعم ، فإذا رأى نفسه غنيا صلف وتجبر واستكبر .

***

تمهيد من السنة المطهرة

عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه –وهو التعبد- الليالي دوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه ، فقال : اقرأ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فقلت : ما أنا بقارئ- قال- فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطّني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق- حتى بلغ- ما لم يعلم ) .

قال : فرجع بها ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة فقال : ( زمّلوني زمّلوني ) ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : ( يا خديجة ، ما لي ) ؟ ! وأخبرها الخبر ، وقال : ( قد خشيت على نفسي ) . فقالت له : كلاّ ، أبشر فوالله لا يخزيك أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ ، وتقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمى ، فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ليتني فيه جذعا ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أو مخرجيّ هم ) ؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي )i .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ اقرأ باسم ربك الذي خلق 1 خلق الإنسان من علق 2 اقرأ وربك الأكرم 3 الذي علّم بالقلم 4 علّم الإنسان ما لم يعلم 5 كلاّ إنّ الإنسان ليطغى 6 أن رآه استغنى 7 إنّ إلى ربك الرجعى 8 أرأيت الذي ينهى 9 عبدا إذا صلى 10 أرأيت إن كان على الهدى 11 أو أمر بالتقوى 12 أرأيت إن كذّب وتولّى 13 ألم يعلم بأن الله يرى 14 كلاّ لئن لم ينته لنسفعا بالناصية 15 ناصية كاذبة خاطئة 16 فليدع ناديه 17 سندع الزّبانية 18 كلاّ لا تطعه واسجد واقترب 19 }

المفردات :

اقرأ : أي ما يوحى إليك ويتلى .

باسم ربك : مبتدئا ومستعينا باسمه تعالى .

التفسير :

1 ، 2- اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق .

هذه الآيات هي أول آيات نزلت من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء ، إنها أول آيات من وحي السماء ، إنها تمثل نقلة كبيرة في حياة الإنسان ، حيث يتفضل الإله العلي الكبير ، القادر الفعّال لما يريد ، فينزل وحي السماء ، ويربط الإنسان المخلوق بوحي الله الخالق ، وينزل الوحي يحمل الهدى والتشريع ، والقصص وأخبار القيامة ، ويلفت النظر إلى الكون وما فيه ، ويرشد الإنسان إلى صفات الله وكمالاته ، ويرشده إلى المأمورات والمنهيات والأخلاقيات ، والرسالات والنبوات والغيبيات ، إنه كلام الله العلي القدير ، ورسالات السماء ، وفضائل الله على عباده ، حيث يختار رسولا من البشر فيوحي إلى عباده ما يشاء ، ويرسل جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم فينقل إليه القرآن الكريم خلال ثلاثة وعشرين عاما ، كان الصحابة سعداء أن الوحي ينزل على نبيهم صباح مساء ، يعلّمهم ويرشدهم ، ويهذبهم ويشرّع لهم ، ويأخذ بأيديهم إلى طريق الهدى والرشاد ، لقد كان القرآن روحا وحياة ، وبعثا ورحمة وهداية .

قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . ( الشورى : 52 ) .

إن هذا الوحي هو الذي طهّر هذه الأمّة ، وألهمها رشدها ، وأخرجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام .

عود إلى التفسير

اقرأ باسم ربك الذي خلق

كن قارئا للوحي يا محمد ، لا بحولك ولا بقوتك ولكن بقدرة الله الخالق ، فابدأ القراءة ، باسم ربك . أي باسم الله الرحمان الرحيم ، فهي بداية مباركة لأجلّ كلام ، للوحي الإلهي .

الذي خلق .

فهو سبحانه الخالق الذي خلق فسوّى ، هو الخالق الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، هو الخالق الذي خلق كل شيء ، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين . ( السجدة : 7 ) .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي تسع عشرة آية .

{ اقرأ باسم ربك } يعني اقرأ القرآن باسم ربك ، وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة { الذي خلق } الأشياء والمخلوقات .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية بإجماع ، وهي أول ما نزل من القرآن ، وفي قول أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما . وهي تسع عشرة آية .

قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق }

هذه السورة أول ما نزل من القرآن في قول معظم المفسرين . نزل بها جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو قائم على حراء ، فعلمه خمس آيات من هذه السورة . وقيل : إن أول ما نزل " يا أيها المدثر " [ المدثر : 1 ] ، قاله جابر بن عبد الله ، وقد تقدم{[16197]} . وقيل : فاتحة الكتاب أول ما نزل . قاله أبو ميسرة الهمداني . وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : أول ما نزل من القرآن " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم{[16198]} " [ الأنعام : 151 ] والصحيح الأول . قالت عائشة : أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصادقة{[16199]} ، فجاءه الملك فقال : " اقرأ باسم ربك الذي خلف خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم " . خرجه البخاري .

وفي الصحيحين عنها قالت : أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، يتحنث{[16200]} فيه الليالي ذوات العدد ، قبل أن يرجع إلى أهله{[16201]} ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : [ اقرأ ] : فقال : ( ما أنا بقارئ - قال - فأخذني فغطني{[16202]} ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ) فقال : [ أقرأ ] فقلت : [ ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : " اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ] الحديث بكامله . وقال أبو رجاء العطاردي : وكان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد : مسجد البصرة ، فيقعدنا حلقا ، فيقرئنا القرآن ، فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين ، وعنه أخذت هذه السورة : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " . وكانت أول سورة أنزلها اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم . وروت عائشة رضي اللّه عنها أنها أول سورة أنزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم بعدها " ن والقلم " ، ثم بعدها " يا أيها المدثر " ثم بعدها " والضحى " ذكره الماوردي . وعن الزهري : أول ما نزل سورة : " اقرأ باسم ربك - إلى قوله - ما لم يعلم " ، فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجعل يعلو شواهق الجبال ، فأتاه جبريل فقال له : [ إنك نبي اللّه ] فرجع إلى خديجة وقال : [ دثروني ، وصبوا عليّ ماء باردا ] فنزل " يا أيها المدثر " [ المدثر : 1 ] . ومعنى " اقرأ باسم ربك " أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك ، وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة . فمحل الباء من " باسم ربك " النصب على الحال . وقيل : الباء بمعنى على ، أي اقرأ على اسم ربك . يقال : فعل كذا باسم اللّه ، وعلى اسم اللّه . وعلى هذا فالمقروء محذوف ، أي اقرأ القرآن ، وافتتحه باسم اللّه . وقال قوم : اسم ربك هو القرآن ، فهو يقول : " اقرأ باسم ربك " أي اسم ربك ، والباء زائدة ، كقوله تعالى " تنبت بالدهن " [ المؤمنون : 20 ] ، وكما قال :

سُود المحاجر لا يقرأْنَ بالسُّوَرِ{[16203]}

أراد : لا يقرأن السور . وقيل : معنى " اقرأ باسم ربك " أي اذكر اسمه . أمره أن يبتدئ القراءة باسم اللّه .


[16197]:راجع جـ 19 ص 58 من الطبعة الأولي وجـ 19 ص 59 من الطبعة الثانية.
[16198]:آية 151 سورة الأنعام.
[16199]:كذا في الأصول ومسلم. وفي البخاري: "الصالحة".
[16200]:يتحنث: أي يتبعد. يقال: فلان يتحنث، أي يفعل فعلا يخرج به من الإثم والحرج.
[16201]:زيادة عن الصحيحين.
[16202]:الغط: العصر الشديد والكبس.
[16203]:هذا عجز بيت للراعي، وصدره: * هن الحرائر لا ربات أخمرة *
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

لما أمره سبحانه وتعالى في الضحى بالتحديث بنعمته ، وذكره بمجامعها في { ألم نشرح } فأنتج ذلك إفراده بما أمره به في ختمها من تخصيصه بالرغبة إليه ، فدل في الزيتون على أنه أهل لذلك لتمام قدرته الذي يلزم منه أنه لا قدرة لغيره إلا به ، فأنتج ذلك تمام الحكمة فأثمر قطعاً البعث للجزاء ، فتشوف السامع إلى ما يوجب حسن الجزاء في ذلك اليوم ، وبأيّ وسيلة يقف بين يدي الملك الأعلى في يوم الجمع الأكبر من خصال الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فأرشد إلى ذلك في هذه السورة ، فقال بادئاً بالتعريف بالعلم الأصلي ، ذاكراً أصل من خلقه سبحانه وتعالى في أحسن تقويم وبعض أطواره الحسنة والقبيحة تعجيباً من تمام قدرته سبحانه وتعالى وتنبيهاً على تعرفها وإنعام النظر فيها ، وقدم الفعل العامل في الجار والمجرور هنا لأنه أوقع في النفس لكونها أول ما نزل فكان الأمر بالقراءة أهم : { اقرأ } وحذف مفعوله إشارة إلى أنه لا قراءة إلا بما أمره به ، وهي الجمع الأعظم ، فالمعنى : أوجد القراءة لما لا مقروء غيره ، وهو القرآن الجامع لكل خير ، وأفصح له بأنه لا يقدر على ذلك إلا بمعونة الله الذي أدبه فأحسن تأديبه ، ورباه فأحسن تربيته ، فقال ما أرشد المعنى إلى أن تقديره : حال كونك مفتتحاً القراءة { باسم ربك } أي بأن تبسمل ، أو مستعيناً بالمحسن إليك لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى بما خصك به في { ألم نشرح } أو بذكر اسمه ، والمراد على هذا بالاسم الصفات العلى ، وعبر به لأنه يلزم من حسن الاسم حسن مدلوله ، ومن تعظيم الاسم تعظيم المسمى وجميع ما يتصف به وينسب إليه ، قالوا : وهذا يدل على أن القراءة لا تكون تامة إلا بالتسمية ، ولكونه في سياق الأمر بالطاعة الداعي إليها تذكر النعم لم يذكر الاسم الأعظم الجامع ، وذكر صفة الإحسان بالتربية الجامع لما عداه وتأنيساً له صلى الله عليه وسلم لكونه أول ما نزل حين حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بنفسه يتعبد بربه في غار حراء ، فجاءه جبرائيل عليه الصلاة والسلام بخمس آيات من أول هذه السورة إلى قوله " ما لم يعلم " ولهذا السر ساقه مساق البسملة بعبارة هي أكثر تأنيساً في أول الأمر وأبسط منها ، فأشار إلى الاسم الأعظم بما في مجموع الكلام من صفات الكمال ، وأشار إلى عموم منة الرحمن بصفة الخلق المشار إلى تعميمها بحذف المفعول ، وإلى خصوص صفة الرحيم بالأكرمية التي من شأنها بلوغ النهاية ، وذلك لا يكون بدون إفاضة العمل بما يرضي ، فيكون سبباً للكرامة الدائمة ، وبالتعليم الذي من شأنه أن يهدي إلى الرضوان ، وأشار إلى الاستعاذة بالأمر بالقرآن لما أفهمه قوله سبحانه وتعالى :

وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة }[ الإسراء :45 ] - أي من شياطين الإنس والجن-

{ حجاباً مستوراً }[ الإسراء : 45 ] وقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }[ النحل : 98 ] .

ولما خصه تشريفاً بإضافة هذا الوصف الشريف إليه ، وصفه على جهة العموم بالخلق والأمر إعلاماً بأن له التدبير والتأثير ، وبدأ بالخلق لأنه محسوس بالعين ، فهو أعلق بالفهم ، وأقرب إلى التصور ، وأدل على الوجود وعظيم القدرة وكمال الحكمة ، فكانت البداءة به في هذه السورة التي هي أول ما نزل أنسب الأمور ؛ لأن أول الواجبات معرفة الله ، وهي بالنظر إلى أفعاله في غاية الوضوح فقال : { الذي خلق * } وحذف مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقدير الآن وفيما كان وفيما يكون ، فكل شيء يدخل في الوجود فهو من صنعه ومتردد بين إذنه ومنعه وضره ونفعه .