تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ 68 - 69 } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها ،وهدايته لها ، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ ، مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة . فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لطفه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ ثم كُلي من كل الثمرات } ، من كل ثمرة تشتهينها مرها وحلوها . { فاسلُكي } ، ما أكلت . { سُبل ربك } ، في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ، أو { فاسلكي } الطرق التي ألهمك في عمل العسل ، أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك { سبل ربك } ، لا تتوعر عليك ولا تلتبس . { ذُللاً } ، جمع ذلول ، وهي حال من السبل ، أي : مذللة ، ذللها الله تعالى وسهلها لك ، أو من الضمير في اسلكي ، أي : وأنت ذلل منقادة لما أمرت به . { يخرج من بطونها } ، كأنه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس ؛ لأنه محل الإنعام عليهم ، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم . { شراب } ، يعني : العسل ؛ لأنه مما يشرب ، واحتج به من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في بطنها عسلا ، ثم تقيء ادخارا للشتاء ، ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاء طلية حلوة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار ، وتضعها في بيوتها ادخارا ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل ، فسر البطون بالأفواه . { مختلف ألوانه } ، أبيض وأصفر وأحمر وأسود ، بحسب اختلاف سن النحل والفصل . { فيه شفاء للناس } ، إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره كما في سائر الأمراض ؛ إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه ، مع أن التنكير فيه مشعر بالتبعيض ، ويجوز أن يكون للتعظيم . وعن قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال : " اسقه العسل " ، فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع فقال : " اذهب واسقه عسلا ، فقد صدق الله وكذب بطن أخيك " . فسقاه فشفاه الله تعالى فبرأ فكأنما أنشط من عقال . وقيل : الضمير للقرآن ، أو لما بين الله من أحوال النحل . { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } ، فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر ، علم قطعا أنه لا بد له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ ثم } للترتيب الرتبي ، لأن إلهام النحل للأكل من الثمرات يترتّب عليه تكوّن العسل في بطونها ، وذلك أعلى رتبة من اتخاذها البيوت لاختصاصها بالعسل دون غيرها من الحشرات التي تبني البيوت ، ولأنه أعظم فائدة للإنسان ، ولأن منه قوتها الذي به بقاؤها . وسُمّي امتصاصها أكلاً لأنها تقتاته فليس هو بشرب .

و { الثمرات } : جمع ثمرة . وأصل الثمرة ما تخرجه الشجرة من غلّة ، مثل التّمْر والعنب ؛ والنحلُ يمتصّ من الأزهار قبل أن تصير ثمرات ، فأطلق { الثمرات } في الآية على الأزهار على سبيل المجاز المرسل بعلاقة الأول .

وعطفت جملة { فاسلكي } بفاء التفريع للإشارة إلى أن الله أودع في طبع النحل عند الرعي التنقّل من زهرة إلى زهرة ومن روضة إلى روضة ، وإذا لم تجد زهرة أبعدت الانتجاع ثم إذا شبعت قصدت المبادرة بالطيران عقب الشبع لترجع إلى بيوتها فتقذف من بطونها العسل الذي يفضل عن قوتها ، فذلك السلوك مفرع على طبيعة أكلها .

وبيان ذلك أن للأزهار وللثمار غدداً دقيقة تفرز سائلاً سكرياً تمتصّه النحل وتملأ به ما هو كالحواصل في بطونها وهو يزداد حلاوة في بطون النحل باختلاطه بمواد كيميائية مودعة في بطون النحل ، فإذا راحت من مرعاها إلى بيوتها أخرجت من أفواهها ما حصل في بطونها بعد أن أخذ منه جسمها ما يحتاجه لقوته ، وذلك يشبه اجترار الحيوان المجترّ . فذلك هو العسل .

والعسل حين القذف به في خلايا الشَهد يكون مائعاً رقيقاً ، ثم يأخذ في جفاف ما فيه من رطوبة مياه الأزهار بسبب حرارة الشمع المركّب منه الشهد وحرارة بيت النحل حتى يصير خاثراً ، ويكون أبيض في الربيع وأسمر في الصيف .

والسلوك : المرور وسط الشيء من طريق ونحوه . وتقدم عند قوله تعالى : { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } في سورة الحجر ( 12 ) .

ويستعمل في الأكثر متعدّياً كما في آية الحِجر بمعنى أسلكه ، وقاصراً بمعنى مَرّ كما هنا ، لأن السّبل لا تصلح لأن تكون مفعول ( سلك ) المتعدي ، فانتصاب { سبل } هنا على نزع الخافض توسعاً .

وإضافة السبل إلى { ربك } للإشارة إلى أن النحل مسخّرة لسلوك تلك السبل لا يَعدلها عنها شيء ، لأنها لَوْ لَمْ تسلكها لاختلّ نظام إفراز العسل منها .

و { ذللاً } جمع ذلول ، أي مذلّلة مسخّرة لذلك السلوك . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ذلول تثير الأرض } في سورة البقرة ( 71 ) .

وجملة { يخرج من بطونها شراب } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن ما تقدم من الخبر عن إلهام النحل تلك الأعمال يثير في نفس السامع أن يسأل عن الغاية من هذا التكوين العجيب ، فيكون مضمون جملة { يخرج من بطونها شراب } بياناً لما سأل عنه . وهو أيضاً موضع المنّة كما كان تمام العبرة .

وجيء بالفعل المضارع للدّلالة على تجدّد الخروج وتكرّره .

وعبّر عن العسل باسم الشراب دون العسل لما يومىء إليه اسم الجنس من معنى الانتفاع به وهو محل المنّة ، وليرتب عليه جملة { فيه شفاء للناس } . وسمّي شراباً لأنه مائع يشرب شرباً ولا يمضغ . وقد تقدم ذكر الشراب في قوله تعالى : { لكم منه شراب } في أوائل هذه السورة [ النحل : 10 ] .

ووصفه ب { مختلف ألوانه } لأن له مدخلاً في العبرة ، كقوله تعالى : { تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } [ سورة الرعد : 4 ] ، فذلك من الآيات على عظيم القدرة ودقيق الحكمة .

وفي العسل خواص كثيرة المنافع مبيّنة في علم الطب .

وجعل الشّفاء مظروفاً في العسل على وجه الظرفية المجازية . وهي الملابسة للدلالة على تمكّن ملابسة الشفاء إياه ، وإيماء إلى أنه لا يقتضي أن يطّرد الشفاء به في كل حالة من أحوال الأمزجة ، أو قد تعرض للأمزجة عوارض تصير غير ملائم لها شرب العسل .

فالظرفية تصلح للدّلالة على تخلّف المظروف عن بعض أجزاء الظرف ، لأن الظرف يكون أوسع من المظروف غالباً . شبه تخلّف المقارنة في بعض الأحوال بقلّة كمية المظروف عن سعة الظرف في بعض أحوال الظروف ومظروفاتها ، وبذلك يبقى تعريف الناس على عمومه ، وإنما التخلّف في بعض الأحوال العارضة ، ولولا العارض لكانت الأمزجة كلها صالحة للاستشفاء بالعسل .

وتنكير { شفاء } في سياق الإثبات لا يقتضي العموم فلا يقتضي أنه شفاء من كل داء ، كما أن مفاد ( في ) من الظرفية المجازية لا يقتضي عموم الأحوال .

وعمومُ التعريف في قوله تعالى : { للناس } لا يقتضي العموم الشمولي لكل فرد فرد بل لفظ ( الناس ) عمومه بَدَلي . والشفاء ثابت للعسل في أفراد الناس بحسب اختلاف حاجات الأمزجة إلى الاستشفاء . وعلى هذا الاعتبار محمل ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري : أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ أخي استُطلق بطْنه ، فقال : اسقه عسلاً . فذهب فسقاه عسلاً . ثم جاء ، فقال : يا رسول الله سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً ؛ قال : اذهب فاسقه عسلاً ، فذهب فسقاه عسلاً ثم جاء ، فقال : يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقاً . فقال رسول الله : " صدَق الله وكذبَ بطْن أخيك ؛ فذهب فسقاه عسلاً فبرىء " . إذ المعنى أن الشفاء الذي أخبر الله عنه بوجوده في العسل ثابت ، وأن مزاج أخي السائل لم يحْصل فيه معارض ذلك ، كما دلّ عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه أن يسقيه العسل ، فإن خبره يتضمّن أن العسل بالنسبة إليه باقٍ على ما جعل الله فيه من الشفاء .

ومن لطيف النّوادر ما في « الكشاف » : أن من تأويلات الروافض أن المراد بالنحل في الآية عليّ وآله . وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم ، فقال له رجل : جعَل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم ، فضحك المهدي وحدّث به المنصور فاتّخذوه أضحوكة من أضاحيكهم .

قلت : الرجل الذي أجاب الرافضي هو بَشّار بن برد . وهذه القصّة مذكورة في أخبار بشّار .

وجملة { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } مثل الجملتين المماثلتين لها . وهو تكرير لتعداد الاستدلال ، واختير وصف التفكّر هنا لأن الاعتبار بتفصيل ما أجملته الآية في نظام النحل محتاج إلى إعمال فكر دقيق ، ونظر عميق .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي}، يقول: فادخلي،

{سبل ربك}، في الجبال وخلل الشجر،

{ذللا}؛ لأن الله تعالى ذلل لها طرفها حيثما توجهت،

{يخرج من بطونها شراب}، يعني: عسلا،

{مختلف ألوانه}، أبيض، وأصفر، وأحمر...

{فيه شفاء للناس}، يعني العسل شفاء لبعض الأوجاع،

{إن في ذلك لآية}، يعني: فيما ذكر من أمر النحل وما يخرج من بطونها لعبرة،

{لقوم يتفكرون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ثم كلي أيتها النحل من الثمرات، "فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ"، يقول: فاسلكي طرق ربك "ذُلُلاً"، يقول: مُذَلّلَةً لك، والذّلُل: جمع ذَلُول...

عن مجاهد، في قول الله تعالى: "فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً"، قال: لا يتوعّر عليها مكان سلكته...

وعلى هذا التأويل الذي تأوّله مجاهد، الذلل من نعت السبل.

والتأويل على قوله: فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً، الذّلُل لك: لا يتوعر عليكِ سبيل سلكتيه...

وقال آخرون في ذلك:... عن قتادة، قوله: "فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً": أي مطيعة... قال ابن زيد، في قوله: "فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً "قال: الذلول: الذي يُقاد ويُذهب به حيث أراد صاحبه، قال: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها، ويذهبون وهي تتبعهم. وقرأ: "أوَلمْ يَرَوْا أنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعاما فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ وَذلّلْناها لَهُمْ.."

فعلى هذا القول، الذّلُل من نعت النحل، وكلا القولين غير بعيد من الصواب في الصحة وجهان مخرجان، غير أنا اخترنا أن يكون نعتا للسّبل؛ لأنها إليها أقرب.

وقوله: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ"، يقول تعالى ذكره: يخرج من بطون النحل شراب، وهو العسل، مختلف ألوانه؛ لأن فيها أبيض وأحمر وأسحر وغير ذلك من الألوان...

وقوله: "فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ"، اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله: "فِيهِ"؛

فقال بعضهم: عادت على القرآن، وهو المراد بها...

وقال آخرون: بل أريد بها العسل...

وهذا القول... أولى بتأويل الآية؛ لأن قوله: "فِيهِ"، في سياق الخبر عن العسل، فأن تكون الهاء من ذكر العسل، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره.

وقوله: "إنّ فِي ذلكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ"، يقول تعالى ذكره: إن في إخراج الله من بطون هذه النحل الشراب المختلف، الذي هو شفاء للناس، لدلالة وحجة واضحة على من سخّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكل، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك ولا تصحّ الألوهة إلا له.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وفيه دلالة علمه وتدبيره وحكمته؛ لأن إنشاء ذلك اللبن في البطن على غير جوهر ما تناولت، ومن خلاف لونه في تلك الظلمات، دل أن علمه غير مقدم بعلم الخلق، وأن حكمته غير مُقَدّرَة بحكمة الخلق، وكذلك قدرته غير مُقَدرة بقدرة الخلق... وفيه أن ما يحدث، ويكون من اللبن بالعلف الذي يؤكل، أو الطعام الذي يتناول، أو الفواكه والثمار التي تخرج، ليس تكون بنفس الماء، أو بنفس الطعام والعلف، ولكن باللطف ممن الله تعالى؛ لأنه قد يسقي ذلك الماء الشجر والنخل في حال، ثم لا يكون فيه الثمر، وكذلك الدواب تعلف في حال لا يكون ذلك منه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مِن كُلّ الثمرات}، إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل وتعتاد أكلها، أي ابني البيوت، ثم كلي من كل ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها، {فاسلكي سُبُلَ رَبّكِ}، أي: الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك، أي: في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا، من أجوافك ومنافذ مآكلك. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها، فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. أو أراد بقوله: {ثُمَّ كُلِي}: ثم اقصدي أكل الثمرات، فاسلكي في طلبها في مظانها سبل ربك {ذُلُلاً}، جمع ذلول، وهي حال من السبل؛ لأنّ الله ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15]، أو من الضمير في {فاسلكي}، أي: وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة. {شَرَابٌ}، يريد العسل؛ لأنه مما يشرب. {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر. {فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ}؛ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض، كما أن كل دواء كذلك. وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

وَسَمَّاهُ شَرَابًا وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْأَشْرِبَةِ أَكْثَرَ من تَصْرِيفِهِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ، وَذَلِكَ بِالشَّرَابِيَّةِ أَخَصُّ كَمَا أَنَّ الْجَامِدَ أَخَصُّ بِالطَّعَامِيَّةِ...

{مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}: يُرِيدُ أَنْوَاعَهُ من الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ، وَالْجَامِدِ وَالسَّائِلِ؛ وَالْأُمُّ وَاحِدَةٌ، وَالْأَوْلَادُ مُخْتَلِفُونَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوَّعَتْهُ بِحَسَبِ تَنْوِيعِ الْغِذَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ عَلَى صِفَتِهِ، وَلَا يَجِيءُ إلَّا من جِنْسِهِ، وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ بَعْضُ التَّأْثِيرِ فِيهِ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ؛ وَيُغَيِّرُهُ اللَّهُ، لِتَتَبَيَّنَ قُدْرَتُهُ فِي التَّصْرِيفِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}...

{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ من أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةِ نَارٍ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ (رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ. فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: فَعَلْت، فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك، اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ فَبَرِئَ). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشْكُو قُرْحَةً وَلَا شَيْئًا إلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ عَسَلًا حَتَّى الدُّمَّلَ إذَا خَرَجَ عَلَيْهِ طَلَاهُ بِعَسَلٍ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}.

وَرُوِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ مَرِضَ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا نُعَالِجُك، قَالَ: ائْتُونِي بِمَاءِ سَمَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهُ يَقُولُ: {وَنَزَّلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا}، وَأْتُونِي بِعَسَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}. وَأْتُونِي بِزَيْتٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ}، فَجَاءُوهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَخَلَطَهُ جَمِيعًا ثُمَّ شَرِبَهُ فَبَرِئَ...

قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: اُخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ... وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ لَفْظٍ عَامٍّ حُمِلَ عَلَى مَقْصِدٍ خَاصٍّ؛ فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ، وَلُغَةُ الْعَرَبِ يَأْتِي فِيهَا الْعَامُّ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْخَاصِّ، وَالْخَاصُّ بِمَعْنَى الْعَامِّ... وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى نِيَّةِ كُلِّ أَحَدٍ، فَمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ، وَصَحَّ يَقِينُهُ فَفَعَلَ فِعْلَ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَدَهُ كَذَلِكَ، وَمَنْ ضَعُفَتْ نِيَّتُهُ وَغَلَبَتْهُ عَلَى الدِّينِ عَادَتُهُ، أَخَذَهُ مَفْهُومًا عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، وَالْكُلُّ من حُكْمِ الْفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه:

الأول: اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها.

والثاني: اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق. والثالث: خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة، والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من همّ المقيل الأكل، ثنى به، ولما كان عاماً في كل ثمر، ذكره بحرف التراخي، إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها، فقال تعالى: {ثم كلي}، وأشار إلى كثرة الرزق بقوله تعالى: {من كل الثمرات}، قالوا: من أجزاء لطيفة تقع على أوراق الأشجار من الظل، وقال بعضهم: من نفس الأزهار والأوراق.

ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أن تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه، نبه على خرقه للعادة في تيسيره لها فقال تعالى: {فاسلكي}، أي: فتسبب عن الإذن في الأكل الإذن في السير إليه. {سبل ربك}، أي: المحسن إليك بهذه التربية العظيمة، لأجل الأكل ذاهبة إليه وراجعة إلى بيوتك حال كون السبل {ذللاً}، أي موطأة للسلوك مسهلة كما قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً} [الملك: 15]. وأشار باسم الرب إلى أنه لولا عظيم إحسانه في تربيتها لما اهتدت إلى ذلك، ثم أتبعه نتيجة ذلك جواباً لمن، كأنه قال: ماذا يكون عن هذا كله؟ فقال تعالى: -{يخرج من بطونها}- بلفت الكلام لعدم قصدها إلى هذه النتيجة. {شراب}، أيّ شراب! وهو العسل؛ لأنه مع كونه من أجلّ المآكل، هو "مما يشرب"، {مختلف ألوانه}، من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك، اختلافاً دالاً على أن فاعله مع تمام قدرته مختار، ثم أوضح ذلك بقوله تعالى: {فيه}، أي: مع كونه من الثمار النافعة والضارة، {شفاء للناس}. قال الإمام الرازي في اللوامع: إذ المعجونات كلها بالعسل، وقال إمام الأولياء محمد بن علي الترمذي: إنما كان ذلك؛ لأنها ذلت لله مطيعة، وأكلت من كل الثمرات: حلوها ومرها، محبوبها ومكروهها، تاركة لشهواتها، فلما ذلت لأمر الله، صار هذا الأكل لله، فصار ذلك شفاء للأسقام، فكذلك إذا ذل العبد لله مطيعاً، وترك هواه، صار كلامه شفاء للقلوب السقيمة -انتهى.

وكونه شفاء- مع ما ذكر -أدل على القدرة والاختيار من اختلاف الألوان، لا جرم وصل به قوله تعالى: {إن في ذلك}، أي: الأمر العظيم من أمرها كله {لآية}. وكما أشار في ابتداء الآية إلى غريب الصنع في أمرها، أشار إلى مثل ذلك في الختم بقوله تعالى: {لقوم يتفكرون}، أي: في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة واللطائف الخفية بالبيوت المسدسة، والاهتداء إلى تلك الأجزاء اللطيفة من أطراف الأشجار والأوراق- وغير ذلك من الغرائب، حيث ناطه بالفكر المبالغ فيه من الأقوياء، تأكيداً لفخامته وتعظيماً لدقته وغرابته في دلالته على تمام العلم وكمال القدرة، وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين، تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوطها تارة بالعقل وتارة بالفكر، وتارة بالذكر وتارة بغيرها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب. شرحا فنيا... ويروعنا في هذا الأثر يقين الرسول [صلى الله عليه وسلم] أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه. وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية. وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله. مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها. فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري، الذي ينثني في النهاية ليصدقها...

ونقف هنا أمام ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم: إنزال الماء من السماء. وإخراج اللبن من بين فرث ودم. واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب. والعسل من بطون النحل.. إنها كلها أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها. ولما كان الجو جو أشربة فقد عرض من الأنعام لبنها وحده في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ثم} للترتيب الرتبي، لأن إلهام النحل للأكل من الثمرات يترتّب عليه تكوّن العسل في بطونها، وذلك أعلى رتبة من اتخاذها البيوت لاختصاصها بالعسل دون غيرها من الحشرات التي تبني البيوت، ولأنه أعظم فائدة للإنسان، ولأن منه قوتها الذي به بقاؤها...

وسُمّي امتصاصها أكلاً لأنها تقتاته فليس هو بشرب...

و {الثمرات}: جمع ثمرة. وأصل الثمرة ما تخرجه الشجرة من غلّة، مثل التّمْر والعنب؛ والنحلُ يمتصّ من الأزهار قبل أن تصير ثمرات، فأطلق {الثمرات} في الآية على الأزهار على سبيل المجاز المرسل بعلاقة الأول...

وعطفت جملة {فاسلكي} بفاء التفريع للإشارة إلى أن الله أودع في طبع النحل عند الرعي التنقّل من زهرة إلى زهرة ومن روضة إلى روضة، وإذا لم تجد زهرة أبعدت الانتجاع ثم إذا شبعت قصدت المبادرة بالطيران عقب الشبع لترجع إلى بيوتها فتقذف من بطونها العسل الذي يفضل عن قوتها، فذلك السلوك مفرع على طبيعة أكلها...

وبيان ذلك أن للأزهار وللثمار غدداً دقيقة تفرز سائلاً سكرياً تمتصّه النحل وتملأ به ما هو كالحواصل في بطونها وهو يزداد حلاوة في بطون النحل باختلاطه بمواد كيميائية مودعة في بطون النحل، فإذا راحت من مرعاها إلى بيوتها أخرجت من أفواهها ما حصل في بطونها بعد أن أخذ منه جسمها ما يحتاجه لقوته، وذلك يشبه اجترار الحيوان المجترّ. فذلك هو العسل... والسلوك: المرور وسط الشيء من طريق ونحوه... وإضافة السبل إلى {ربك} للإشارة إلى أن النحل مسخّرة لسلوك تلك السبل لا يَعدلها عنها شيء، لأنها لَوْ لَمْ تسلكها لاختلّ نظام إفراز العسل منها... وجملة {يخرج من بطونها شراب} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن ما تقدم من الخبر عن إلهام النحل تلك الأعمال يثير في نفس السامع أن يسأل عن الغاية من هذا التكوين العجيب، فيكون مضمون جملة {يخرج من بطونها شراب} بياناً لما سأل عنه. وهو أيضاً موضع المنّة كما كان تمام العبرة... وجيء بالفعل المضارع للدّلالة على تجدّد الخروج وتكرّره...

وعبّر عن العسل باسم الشراب دون العسل لما يومئ إليه اسم الجنس من معنى الانتفاع به وهو محل المنّة، وليرتب عليه جملة {فيه شفاء للناس}...

وسمّي شراباً لأنه مائع يشرب شرباً ولا يمضغ. وقد تقدم ذكر الشراب في قوله تعالى: {لكم منه شراب} في أوائل هذه السورة [النحل: 10]... ووصفه ب {مختلف ألوانه} لأن له مدخلاً في العبرة، كقوله تعالى: {تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} [سورة الرعد: 4]، فذلك من الآيات على عظيم القدرة ودقيق الحكمة... وفي العسل خواص كثيرة المنافع مبيّنة في علم الطب. وجعل الشّفاء مظروفاً في العسل على وجه الظرفية المجازية. وهي الملابسة للدلالة على تمكّن ملابسة الشفاء إياه، وإيماء إلى أنه لا يقتضي أن يطّرد الشفاء به في كل حالة من أحوال الأمزجة، أو قد تعرض للأمزجة عوارض تصير غير ملائم لها شرب العسل...

فالظرفية تصلح للدّلالة على تخلّف المظروف عن بعض أجزاء الظرف، لأن الظرف يكون أوسع من المظروف غالباً...

شبه تخلّف المقارنة في بعض الأحوال بقلّة كمية المظروف عن سعة الظرف في بعض أحوال الظروف ومظروفاتها... وبذلك يبقى تعريف الناس على عمومه، وإنما التخلّف في بعض الأحوال العارضة، ولولا العارض لكانت الأمزجة كلها صالحة للاستشفاء بالعسل...

كما أن مفاد (في) من الظرفية المجازية لا يقتضي عموم الأحوال...

وعمومُ التعريف في قوله تعالى: {للناس} لا يقتضي العموم الشمولي لكل فرد فرد بل لفظ (الناس) عمومه بَدَلي... والشفاء ثابت للعسل في أفراد الناس بحسب اختلاف حاجات الأمزجة إلى الاستشفاء. وعلى هذا الاعتبار محمل ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري... وجملة {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} مثل الجملتين المماثلتين لها. وهو تكرير لتعداد الاستدلال، واختير وصف التفكّر هنا لأن الاعتبار بتفصيل ما أجملته الآية في نظام النحل محتاج إلى إعمال فكر دقيق، ونظر عميق...