{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }
يقول تعالى مخاطبًا لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } أي : أردتم طلاقهن { ف } التمسوا لطلاقهن الأمر المشروع ، ولا تبادروا بالطلاق من حين يوجد سببه ، من غير مراعاة لأمر الله .
بل { طَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي : لأجل عدتهن ، بأن يطلقها زوجها وهي طاهر ، في طهر لم يجامعها فيه ، فهذا الطلاق هو الذي تكون العدة فيه واضحة بينة ، بخلاف ما لو طلقها وهي حائض ، فإنها لا تحتسب تلك الحيضة ، التي وقع فيها الطلاق ، وتطول عليها العدة بسبب ذلك ، وكذلك لو طلقها في طهر وطئ فيه ، فإنه لا يؤمن حملها ، فلا يتبين و [ لا ] يتضح بأي عدة تعتد ، وأمر تعالى بإحصاء العدة ، أي : ضبطها بالحيض إن كانت تحيض ، أو بالأشهر إن لم تكن تحيض ، وليست حاملاً ، فإن في إحصائها أداء لحق الله ، وحق الزوج المطلق ، وحق من سيتزوجها بعد ، [ وحقها في النفقة ونحوها ] فإذا ضبطت عدتها ، علمت حالها على بصيرة ، وعلم ما يترتب عليها من الحقوق ، وما لها منها ، وهذا الأمر بإحصاء العدة ، يتوجه [ للزوج ]{[1132]} وللمرأة ، إن كانت مكلفة ، وإلا فلوليها ، وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } أي : في جميع أموركم ، وخافوه في حق الزوجات المطلقات ، ف { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } مدة العدة ، بل يلزمن بيوتهن{[1133]} الذي طلقها زوجها وهي فيها .
{ وَلَا يَخْرُجْنَ } أي : لا يجوز لهن الخروج منها ، أما النهي عن إخراجها ، فلأن{[1134]} المسكن ، يجب على الزوج للزوجة{[1135]} ، لتكمل فيه عدتها التي هي حق من حقوقه .
وأما النهي عن خروجها ، فلما في خروجها ، من إضاعة حق الزوج وعدم صونه .
ويستمر هذا النهي عن الخروج من البيوت ، والإخراج إلى تمام العدة .
{ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } أي : بأمر قبيح واضح ، موجب لإخراجها ، بحيث يدخل على أهل البيت الضرر من عدم إخراجها ، كالأذى بالأقوال والأفعال الفاحشة ، ففي هذه الحال يجوز لهم إخراجها ، لأنها هي التي تسببت لإخراج نفسها ، والإسكان فيه جبر لخاطرها ، ورفق بها ، فهي التي أدخلت الضرر على نفسها{[1136]} ، وهذا في المعتدة الرجعية ، وأما البائن ، فليس لها سكنى واجبة ، لأن السكن تبع للنفقة ، والنفقة تجب للرجعية دون البائن ، { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } [ أي : ] التي حددها لعباده وشرعها لهم ، وأمرهم بلزومها ، والوقوف معها ، { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ } بأن لم يقف معها ، بل تجاوزها ، أو قصر عنها ، { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي : بخسها حظها ، وأضاع نصيبه من اتباع حدود الله التي هي الصلاح في الدنيا والآخرة . { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } أي : شرع الله العدة ، وحدد الطلاق بها ، لحكم عظيمة : فمنها : أنه لعل الله يحدث في قلب المطلق الرحمة والمودة ، فيراجع من طلقها ، ويستأنف عشرتها ، فيتمكن من ذلك مدة العدة ، أولعله يطلقها لسبب منها ، فيزول ذلك السبب في مدة العدة ، فيراجعها لانتفاء سبب الطلاق .
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } إن قيل : لم نودي النبي صلى الله عليه وسلم وحده ثم جاء بعد ذلك خطاب الجماعة ؟ فالجواب : أنه لما كان حكم الطلاق يشترك فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، قيل : إذا طلقتم خطابا له ولهم وخص هو عليه الصلاة والسلام بالنداء تعظيما له ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان افعلوا أي : افعل أنت وقومك ، ولأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ لأمته ، فكأنه قال : يا أيها النبي إذا طلقت أنت وأمتك وقيل : تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم وهذا ضعيف لأنه يقتضي أن هذا الحكم مختص بأمته دونه ، وقيل : إنه خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بطلقتم تعظيما له ، كما تقول للرجل المعظم أنتم فعلتم ، وهذا أيضا ضعيف ، لأنه يقتضي اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالحكم دون أمته ، ومعنى { إذا طلقتم } هنا : إذا أردتم الطلاق ، واختلف في الطلاق هل هو مباح أو مكروه ، فأما إذا كان على غير وجه السنة فهو ممنوع ولكن يلزم ، وأما اليمين بالطلاق فممنوع .
{ فطلقوهن لعدتهن } تقديره طلقوهن مستقبلات لعدتهن ، ولذلك قرأ عثمان وابن عباس وأبي بن كعب فطلقوهن في قبل عدتهن وقرأ ابن عمر لقبل عدتهن ورويت القراءتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى ذلك كله لا يطلقها وهي حائض ، فهو منهي عنه بإجماع لأنه إذا فعل ذلك لم يقع طلاقه في الحال التي أمر الله بها وهو استقبال العدة .
واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض هل هو معلل بتطويل العدة ، أو هو تعبد ؟ والصحيح أنه معلل بذلك .
وينبني على هذا الخلاف فروع منها : هل يجوز إذا رضيت به المرأة أم لا ؟ ومنها هل يجوز طلاقها في الحيض وهي حامل أم لا ؟ ومنها هل يجوز طلاقها قبل الدخول وهي حائض أم لا ؟ فالتعليل بتطويل العدة يقتضي جواز هذه الفروع ، والتعبد يقتضي المنع ، ومن طلق في الحيض لزمه الطلاق ، ثم يؤمر بالرجعة على وجه الإجبار عند مالك وبدون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك ، حسبما ورد في حديث ابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك " واشترط مالك أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه ليعتد بذلك الطهر فإنه إن طلقها في طهر بعد أن جامعها فيه فلا تدري هل تعتد بالوضع أو بالأقراء فليس طلاقها لعدتها كما أمر الله .
{ وأحصوا العدة } أمر بذلك لما ينبني عليها من الأحكام في الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك .
{ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } نهى الله سبحانه وتعالى أن يخرج الرجل المرأة المطلقة من المسكن الذي طلقها فيه ونهاها هي أن تخرج باختيارها ، فلا يجوز لها المبيت خارجا عن بيتها ولا أن تغيب عنه نهارا إلا لضرورة التصرف ، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة ، فإن كان المسكن ملكا للزوج ، أو مكترى عنده ، لزمه إسكانها فيه ، وإن كان المسكن لها فعليه كراؤه مدة العدة وإن كانت قد أمتعته فيه مدة الزوجية ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب والصحيح لزومه لأن الامتناع قد انقطع بالطلاق .
{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } اختلف في هذه الفاحشة التي أباحت خروج المعتدة ما هي ؟ على خمسة أقوال :
الأول : أنها الزنا فتخرج لإقامة الحد قاله الليث بن سعد والشعبي .
الثاني : أنه سوء الكلام مع الأصهار فتخرج ويسقط حقها من السكنى ، ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب ، قاله ابن عباس ويؤيده قراءة أبي بن كعب ، إلا أن يفحشن عليكم . الثالث : أنه جميع المعاصي من القذف والزنا والسرقة وغير ذلك ، فمتى فعلت شيئا من ذلك سقط حقها في السكنى ، قاله ابن عباس أيضا وإليه مال الطبري .
الرابع : أنه الخروج عن بيتها خروج انتقال فمتى فعلت ذلك سقط حقها في السكنى قاله ابن الفرس : وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في العدة .
الخامس : أنه النشوز قبل الطلاق ، فإذا طلقها بسبب نشوزها فلا يكون عليه سكنى قاله قتادة .
{ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } المراد به الرجعة عند الجمهور أي : أحصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به لعل الله يحدث الرجعة لنسائكم ، وقيل : إن سبب الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة بنت عمر فأمره الله بمراجعتها .