{ 30 - 32 } { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } أي : انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك{[651]} إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها . وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة ، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
وخص اللّه إقامة الوجه لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب ويترتب على الأمرين سَعْيُ البدن ولهذا قال : { حَنِيفًا } أي : مقبلا على اللّه في ذلك معرضا عما سواه .
وهذا الأمر الذي أمرناك به هو { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها ، فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم ، الميل إليها ، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة .
ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "
{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي : لا أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه ، { ذَلِكَ } الذي أمرنا به { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته ، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فلا يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه .
يقول تعالى : فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك ، من الحنيفية ملة إبراهيم ، الذي هداك الله لها ، وكملها لك غاية الكمال ، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة ، التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه تعالى فطر خلقه على [ معرفته وتوحيده ، وأنه لا إله غيره ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [ الأعراف : 172 ] ، وفي الحديث : " إني خلقت عبادي حُنَفاء ، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على ]{[22817]} الإسلام ، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية أو النصرانية أو المجوسية{[22818]} .
وقوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } قال بعضهم : معناه لا تبدلوا خلق الله ، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها . فيكون خبرا بمعنى الطلب ، كقوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 97 ] ، وهذا معنى حسن صحيح .
وقال آخرون : هو خبر على بابه ، ومعناه : أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة ، لا يولد أحد إلا على ذلك ، ولا تفاوت بين الناس في ذلك ؛ ولهذا قال ابن عباس ، وإبراهيم النَّخَعي ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد {[22819]} في قوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي : لدين الله .
وقال البخاري : قوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } : لدين الله ، خَلْقُ الأولين : [ دين الأولين ] ، {[22820]} والدين والفطرة : الإسلام .
حدثنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن {[22821]} أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدَانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجسانه ، كما تَنْتِج البهيمة بهيمة جَمْعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء " ؟ ثم يقول : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } .
ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيْلي ، عن الزهري ، به{[22822]} . وأخرجاه - أيضا - من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[22823]} .
وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة ، فمنهم الأسودُ بن سَرِيع التميمي . قال{[22824]} الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل ، حدثنا يونس ، عن الحسن{[22825]} عن الأسود بن سَرِيع [ التميمي ]{[22826]} قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه ، فأصبت ظهرا {[22827]} ، فقتل الناس يومئذ ، حتى قتلوا الولدان . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟ " . فقال رجل : يا رسول الله ، أما هم أبناء المشركين ؟ فقال : " ألا إنما خياركم أبناء المشركين " . ثم قال : " لا تقتلوا ذرية ، لا تقتلوا ذرية " . وقال : " كل نسمة تولد على الفطرة ، حتى يُعرب عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو ينصرانها " .
ورواه النسائي في كتاب السير ، عن زياد بن أيوب ، عن هُشَيْم ، عن يونس - وهو ابن عبيد - عن الحسن البصري ، به{[22828]} {[22829]} .
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال الإمام أحمد :
حدثنا هاشم ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، عن جابر عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يُعرب عنه لسانه ، فإذا عبر{[22830]} عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورا " {[22831]} .
ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير{[22832]} ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن أولاد المشركين ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم " . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليَشْكُرِي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا بذلك{[22833]} .
وقد قال{[22834]} أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - أنبأنا عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس قال : أتى عليَّ زمان وأنا أقول : أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين ، وأولاد المشركين مع المشركين . حتى حدثني فلان عن{[22835]} فلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل{[22836]} عنهم فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " . قال : فلقيت الرجل فأخبرني . فأمسكت عن قولي{[22837]} .
ومنهم عياض بن حِمار المجاشعي ، قال{[22838]} الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن مُطَرّف ، عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : " إن ربي ، عز وجل ، أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا ، كل مال نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله ، عز وجل ، نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان .
ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا ، فقلت : يا رب إذًا يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خبُزَةً . قال{[22839]} : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نَغْزُك ، وأنفق عليهم فسننفق عليك . وابعث جيشا نبعث خمسة مثله ، وقاتل بِمَنْ أطاعك مَنْ عصاك " . قال : " وأهل الجنة : ثلاثة ذو سلطان مُقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف فقير متصدق . وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زَبْرَ له ، الذين هم فيكم تَبَعًا ، لا يبتغون أهلا ولا مالا . والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه . ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن{[22840]} أهلك ومالك " وذكر البخيل ، أو الكذاب ، والشنظير : الفحاش{[22841]} .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طرق عن قتادة ، به{[22842]} .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : التمسك بالشريعة{[22843]} والفطرة السليمة هو الدين القويم المستقيم ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي : فلهذا لا يعرفه أكثر الناس ، فهم عنه ناكبون ، كما قال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [ الأنعام : 116 ] .
ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه للدين المستقيم وهو دين الإسلام ، وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين ، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه{[9310]} ، و { حنيفاً } ، معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة ، وقوله { فطرةَ الله } نصب على المصدر ، كقوله { صبغة الله }{[9311]} [ البقرة : 138 ] وقيل هو نصب بفعل مضمر تقديره اتبع والتزم { فطرة الله } ، واختلف الناس في «الفطرة » ها هنا ، فذكر مكي وغيره في ذلك جميع ما يمكن أن تصرف هذه اللفظة عليه وفي بعض ذلك قلق ، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به ، فكأنه قال { فأقم وجهك للدين } الذي هو الحنيف وهو { فطرة الله } الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه » الحديث{[9312]} ، فذكر الأبوين : إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة وقوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } يحتمل تأويلين : أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة أي اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق ، ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه ، والآخران أن يكون قوله { لا تبديل لخلق الله } إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي إنهم لا يفلحون ، وقال مجاهد : المعنى لا تبديل لدين الله ، وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا معناه لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف فإن كل شريعة هي عقائدها ، وذهب بعض المفسرين في هذه الآية إلى تأويلات منها عكرمة ، وقد روي عن ابن عباس { لا تبديل لخلق الله } معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان ، ومنها قول بعضهم في الفطرة الملة على أنه قد قيل في الفطرة الدين وتأول قوله { فطر الناس } على الخصوص أي المؤمنين ، وقيل «الفطرة » هو العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره ، ونحوه حديث معاذ بن جبل حين مر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال يا معاذ ما قوام هذه الأمة ؟ قال : الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والصلاة وهي الدين والطاعة وهي العصمة فقال عمر : صدقت{[9313]} ، و { القيم } بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة .
الفاء فصيحة . والتقدير : إذا علمت أحوال المعرضين عن دلائل الحق فأقم وجهك للدين . والأمر مستعمل في طلب الدوام . والمقصود : أن لا تهتم بإعراضهم ، كقوله تعالى { فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله ومن اتبعن } [ آل عمران : 20 ] وقوله { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } [ هود : 112 ] ( أي من آمن ) وقوله { أدْعوا إلى الله على بصيرة أنا ومَن اتّبعن } [ يوسف : 108 ] .
فالمعنى : فأقم وجهك للدين والمؤمنون معك ، كما يؤذن به قوله بعده { منيبين إليه واتقوه } [ الروم : 31 ] بصيغة الجمع .
وإقامة الوجه : تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يميناً ولا شمالاً . وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً ، وهذا كقوله تعالى { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادْعُوه مخلصين } [ الأعراف : 29 ] وقوله حكاية عن إبراهيم { إني وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] وقوله تعالى { فقل أسلمتُ وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] ، أي أعطيته لله ، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وأن لا يلتفت إلى معبود غيره .
والتعريف في { الدين } للعهد وهو دينهم الذي هم عليه وهو دين الإسلام . و { حنيفاً } يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في فعل { أقم } فيكون حالاً للنبي صلى الله عليه وسلم كما كان وصفاً لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى { إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً } [ النحل : 120 ] ، وهذا هو الأظهر في تفسيره . ويجوز كونه حالاً من الدين على ما فسر به الزجاج فيكون استعارة بتشبيه الدين برجل حنيف في خلوّه من شوائب الشرك ، فيكون الحنيف تمثيلية وفي إثباته للدين استعارة تصريحية .
وحنيف : صيغة مبالغة في الاتصاف بالحَنَف وهو الميْل ، وغلب استعمال هذا الوصف في الميل عن الباطل ، أي العدول عنه بالتوجه إلى الحق ، أي عادلاً ومنقطعاً عن الشرك كقوله تعالى { قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } وقد مضى في سورة البقرة ( 135 ) .
و{ فطرة الله } بدل من { حنيفاً } بدل اشتمال فهو في معنى الحال من { الدين } أيضاً وهو حال ثانية فإن الحال كالخبر تتعدد بدون عطف على التحقيق عند النحاة . وهذا أحسن لأنه أصرح في إفادة أن هذا الدين مختص بوصفين هما : التبرؤ من الإشراك ، وموافقتُه الفطرة ، فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه . ونظيره قوله تعالى { ولم يجعل له عِوجاً قيّماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] أي الدين الذي هو فطرة الله لأن التوحيد هو الفطرة ، والإشراك تبديلٌ للفطرة . والفطرة أصله اسم هيئة من الفَطْر وهو الخَلْق مثل الخِلقة كما بيّنه قوله { التي فَطَرَ الناس عليها } أي جَبَلَ الناسَ وخلقهم عليها ، أي متمكنين منها . فحرف الاستعلاء مستعار لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكناً يشبه تمكن المعتلي على شيء ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } في سورة البقرة ( 5 ) ، وحقيقة المعنى : التي فطر الناس بها .
ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها ، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقَّن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته . قال ابن عطية : والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي الفطرة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي مُعِدَّة ومُهَيِّئَة لأن يميز بها مصنوعات الله ، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه . اهـ .
وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه : بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق ، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسداً وعقلاً ، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية ، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية ، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع ، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية ، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية .
وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتابه { النجاة } فقال : « ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأياً ولم يعتقد مذهباً ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة ، ولكنه شاهَدَ المحسوسات وأخذ منها الحالات ، ثم يَعرضَ على ذهنه شيئاً ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة ، وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلاً ، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة ، وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات بل هي مبادىء للمحسوسات . فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديقَ بها : إما شهادة الكل مثل : أنَّ العدل جميل ، وإما شهادة الأكثر ؛ وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم . وليست الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأوَّلي عقلي ولا وهَمِيّ فإنها غير فطرية ، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبا وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان{[314]} ، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس{[315]} أو الاستقراءُ الكثير ، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقاً صِرفاً فلا يُفْطَن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق ، اه . فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية ، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي : إما أمور فطرية أيضاً ، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به ، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته .
وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة . وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى « مقاصد الشريعة الإسلامية » . واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية ، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا ، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها ، وسبروا أحوال البشر ، وتعرضت أفهامهم زماناً لتصاريف الشريعة ، وتوسموا مراميها ، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء .
إن المجتَمع الإنساني قد مُني عصوراً طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل ، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها ، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته ، فتلك يخاف منها أن تُتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحَق ، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كلَّ سبيل ، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خيرَ دليل . وكونُ الإسلام هو الفطرة ، وملازمة أحكامه لمقتضيَات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه ، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية ، وهذا ما أفاده قوله { ذلك الدين القيّم . } فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم ، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحاً للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يُسْراً لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة .
وفي قوله { التي فطر الناس عليها } بيان لمعنى الإضافة في قوله { فطرة الله } وتصريح بأن الله خلق الناس سالمةٌ عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة ، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جرَّاء التلقي والتعود ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصِّرانه أو يُمجسانه كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحِسُّون فيها من جَدعاء " أي كما تولد البهيمة من إبل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها ، أي تُولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء ، و ( تُحسون ) تدركون بالحس ، أي حاسّة البصر . فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة ، أي في تفاريعهما . وفي « صحيح مسلم » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه : " وإني خلقت عبادي حُنفاء كلهم أي غير مشركين وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحلَلْتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً " الحديث . {[316]}
وجملة { لا تبديل لخلق الله } مبيِّنة لمعنى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } فهي جارية مجرى حال ثالثة من { الدّين } على تقدير رابط محذوف . والتقدير : لا تبديل لخلق الله فيه ، أي في هذا الدين ، فهو كقوله في حديث أم زرع في قول الرابعة : زوجي كلَيْل تهامة لا حرَّ ولا قُرَّ ولا مخافة ولا سآمة أي في ذلك الليل .
فمعنى { لا تبديل لخلق الله } أنه الدين الحنيف الذي ليس فيه تبديل لخلق الله خلاف دين أهل الشرك ، قال تعالى عن الشيطان : { ولآمرنهم فَلُيغيِّرُنَّ خلقَ الله } [ النساء : 119 ] . ويجوز أن تكون جملة { لا تبديل لخلق الله } معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة . فتكون { لا تبديل لخلق الله } خبراً مستعملاً في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله { لا تَقْتُلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] . فنفي الجنس مراد به جنس من التبديل خاص بالوصف لا نفي وقوع جنس التبديل فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة . واسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدين مع تعظيمه .
و القيِّم : وصف بوزن فَيْعِل مثل هيِّن وليِّن يفيد قوة الاتصاف بمصدره ، أي البالغ قوة القيام مثل استقام الذي هو مبالغة في قام كاستجاب .
والقيام : حقيقته الانتصابُ ضد القعود والاضطجاع ، ويطلق مجازاً على انتفاء الاعوجاج يقال : عود مستقيم وقيم ، فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطإ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، كما في قوله تعالى : { ولم يجعل له عِوجاً قيماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] وقال تعالى : في سورة براءة ( 36 ) .
ويطلق أيضاً على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى { أفَمَنْ هو قائم على كل نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] ، ومنه قلنا لراعي التلامذة ومراقب أحوالهم : قَيِّم . ويطلق القيم على المهيمن والحافظ . والمعاني كلها صالحة للحمل عليها هنا ، فإن هذا الكتاب معصوم عن الخطأ ومتكفل بمصالح الناس ، وشاهد على الكتب السالفة تصحيحاً ونسخاً قال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } وتقدم في طالع سورة المائدة ( 48 ) . فهذا الدين به قوام أمر الأمة . قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل : يا معاذ ما قِوام هذه الأمة ؟ قال : الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والصلاة وهي الدين ، والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر : صدقت . يريد معاذٌ بالإخلاص التوحيد كقوله تعالى { مخلصين له الدين حنفاء } [ البينة : 5 ] .
والاستدراك في قوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } لدفع توهم واهِم يقول إذا كان هو دين الفطرة وهو القيِّم فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه ، فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فإنهم جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل ولا يعلمون منه إلا ما لا يفيدهم مُهمهم لأنهم لم يسعوا في أن يَبلغهم على الوجه الصحيح ؛ ففعل { لا يعلمون } غير متطلب مفعولاً بل هو منزل منزلة اللازم لأن المعنى لا علم عندهم على نحو ما قرر في نظيره في أول هذه السورة .
والمراد ب { أكثر الناس } المشركون إذ أعرضوا عن دعوة الإسلام ، وأهلُ الكتاب إذ أبوا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أديانهم بعد إبطالها لانتهاء صلاحية تفاريعها بانقضاء الأحوال التي شرعت لها انقضاء لا مطمع بعده لأن تعود .
ومقابل { أكثر الناس } هم المؤمنون ، وشرذمة من علماء أهل الكتاب علموا أحقية الإسلام وبقُوا على أديانهم عناداً : فهم يعلمون ويكابرون ، أو تحيُّراً : فهم في شك بين علم وجهل .