تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ 68 - 69 } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها ،وهدايته لها ، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ ، مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة . فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لطفه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة ، أي : سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها ، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة ، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل ، فتبني الشمع من أجنحتها ، وتقيء العسل من فيها{[16530]} ، وتبيض الفراخ من دبرها ، ثم تصبح إلى مراعيها .

وقال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا } ، أي : مطيعة . فجعلاه حالا من السالكة . قال ابن زيد : وهو كقول الله تعالى : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ] ، قال : ألا ترى أنهم ينقلون النحل{[16531]} من بيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم .

والقول الأول أظهر ، وهو أنه حال من الطريق ، أي : فاسلكيها مذلَّلةً لك ، نص عليه مجاهد . وقال ابن جرير : كلا القولين صحيح{[16532]} .

وقد قال أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان بن فَرُّوخ ، حدثنا سُكَيْن{[16533]} بن عبد العزيز ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عُمْرُ الذباب أربعون يوما ، والذباب كله في النار إلا النحل " {[16534]} .

وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، أي : ما بين أبيض وأصفر وأحمر ، وغير ذلك من الألوان الحسنة ، على اختلاف مراعيها ومأكلها منها{[16535]} .

وقوله : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } ، أي : في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم . قال بعض من تكلم على الطب النبوي : لو قال فيه : " الشفاء للناس " ، لكان دواء لكل داء ، ولكن قال : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } ، أي : يصلح لكل أحد من أدواء باردة ، فإنه حار ، والشيء يداوى بضده .

وقال مجاهد بن جَبْر{[16536]} في قوله : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } ، يعني : القرآن .

وهذا قول صحيح في نفسه ، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية ؛ فإن الآية إنما ذكر فيها العسل ، ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا ، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } الآية [ الإسراء : 82 ] . وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] .

والدليل على أن المراد بقوله تعالى : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } ، هو : العسل - الحديثُ الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما{[16537]} من رواية قتادة ، عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استَطْلَق بطنُه . فقال : " اسقه عسلا " . فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا ! قال : " اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، ما زاده إلا استطلاقا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله ، وكذب بطن أخيك ! اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه فبرئ{[16538]} .

قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات ، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت ، فأسرعت في الاندفاع ، فزاد إسهاله ، فاعتقد{[16539]} الأعرابي أن هذا يضره ، وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام{[16540]} .

وفي الصحيحين ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل . هذا{[16541]} لفظ البخاري{[16542]} .

وفي صحيح البخاري : من حديث سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشفاء في ثلاثة : في شَرْطةِ مِحْجَم ، أو شربة عسل ، أو كيَّةٍ بنار ، وأنهى أمتي عن الكي " {[16543]} .

وقال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، سمعت جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن كان في شيء من أدويتكم ، أو يكونُ في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة مِحْجَم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي " .

ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة ، عن جابر ، به{[16544]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أنبأنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر الجُهَني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث إن كان في شيء شفاء : فشَرْطة مِحْجَم ، أو شربة عسل ، أو كيَّة تصيب ألما ، وأنا أكره الكي ولا أحبه " {[16545]} .

ورواه الطبراني عن هارون بن مَلّول{[16546]} المصري ، عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، [ عن حيوة بن شريح ]{[16547]} عن عبد الله بن الوليد ، به . ولفظه : " إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم " . . . وذكره{[16548]} وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه .

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد{[16549]} بن ماجه القزويني في سننه : حدثنا علي بن سلمة - هو اللبقي - حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن " {[16550]} .

وهذا إسناد جيد ، تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعًا ، وقد رواه ابن جرير ، عن سفيان بن وَكِيع ، عن أبيه ، عن سفيان - هو الثوري - به موقوفا{[16551]} ، وَلَهو{[16552]} أشبه .

وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : إذا أراد أحدكم الشفاء ، فليكتب آية من كتاب الله في صَحْفَة ، وليغسلها بماء السماء ، وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها ، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك ، فإنه شفاء{[16553]} . أي : من وجوه ، قال الله : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ } [ الإسراء : 82 ] وقال : { وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } [ ق : 9 ] ، وقال : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [ النساء : 4 ] ، وقال في العسل : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } . وقال ابن ماجه أيضًا : حدثنا محمود بن خِدَاش ، حدثنا سعيد بن زكريا القرشي ، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي ، عن عبد الحميد بن سالم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لَعِق العسل ثلاث غَدَوَاتٍ في كل شهر ، لم يصبه عظيم من البلاء " {[16554]} .

الزبير بن سعيد متروك .

وقال ابن ماجه أيضًا : حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سَرْح الفريابي ، حدثنا عمرو بن بكر{[16555]} السَّكْسَكي ، حدثنا إبراهيم بن أبي عبَلة . سمعت أبا أبي ابن أم حَرَام - وكان قد صلى القبلتين - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عليكم بالسَّنَى والسَّنُّوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام " . قيل : يا رسول الله ، وما السام ؟ قال : " الموت " .

قال عمرو : قال ابن أبي عبلة : " السَّنُّوت " : الشِّبْتُ . وقال آخرون : بل هو العسل الذي [ يكون ]{[16556]} في زِقَاق السمن ، وهو قول الشاعر :

هُمُ السَّمْنُ بالسَّنُّوت لا ألْسَ فيهم *** وَهُمْ يَمنَعُونَ الجارَ أنْ يُقَرَّدا

كذا رواه ابن ماجه{[16557]} . وقوله : " لا ألْسَ فيهم " أي : لا خلط . وقوله : " يمنعون الجار أن يقَرَّدا " ، [ أي يضطهد ويظلم ]{[16558]} .

وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، أي : إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه ، والاجتناء من سائر الثمار ، ثم جمعها للشمع والعسل ، وهو من أطيب الأشياء ، { لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها ، فيستدلون بذلك على أنه [ الفاعل ]{[16559]} القادر ، الحكيم العليم ، الكريم الرحيم .


[16530]:في ت: "فمها".
[16531]:في ت، ف، أ: "ينتقلون بالنحل".
[16532]:في ت، ف: "متجه".
[16533]:في ت، ف: "مسكين".
[16534]:مسند أبي يعلى (7/231) وحسنه البوصيري كما في حاشية المطالب العالية (2/ 296).
[16535]:في أ: "منه".
[16536]:في أ: "جبير".
[16537]:في ف: "صحيحيهما".
[16538]:صحيح البخاري برقم (5716) وصحيح مسلم برقم (2217).
[16539]:في ف: "واعتقد".
[16540]:انظر: زاد المعاد لابن القيم (4/33 - 36) وفتح الباري لابن حجر (10/169، 170).
[16541]:في ف: "وهذا".
[16542]:صحيح البخاري برقم (5682) وصحيح مسلم برقم (1474).
[16543]:صحيح البخاري برقم (5680، 5681).
[16544]:صحيح البخاري برقم (5683) وصحيح مسلم برقم (2205).
[16545]:المسند (4/146).
[16546]:في هـ، ف: "مملول" وفي أ: "سلول" والمثبت من المعجم للطبراني.
[16547]:زيادة من المعجم الكبير للطبراني.
[16548]:المعجم الكبير (17/188) والمعجم الأوسط برقم (9335) ومجمع البحرين برقم (4165).تنبيه: وقع في المعجم الأوسط عن أبي عبد الرحمن المقري، عن سعيد بن أبي أيوب، عن عبد الله بن الوليد به، وقال: "لم يروه عن عبد الله بن الوليد إلا سعيد" وقد رايته في المعجم الكبير رواه عنه شريح، فلا أدري هل هو خطأ أم لا؟ والله أعلم.
[16549]:في ت، ف: "يزيد".
[16550]:سنن ابن ماجه رقم (3452).
[16551]:تفسير الطبري (14/ 94) وقال الدارقطني في العلل: "الموقوف أصح".
[16552]:في ت، ف: "وهو".
[16553]:قال ابن حجر في الفتح (10/ 170): "أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن".
[16554]:سنن ابن ماجة برقم (3450) وهو منقطع أيضًا، عبد الحميد بن سالم لم يسمعه من أبي هريرة.
[16555]:في ف: "بكير".
[16556]:زيادة من ت، ف، أ، وسنن ابن ماجة.
[16557]:سنن ابن ماجه برقم (3457) وقال البوصيري في الزوائد (3/123): "إسناده ضعيف" ثم أعله بعمرو السكسكي.
[16558]:زيادة من ت، ف، أ.
[16559]:زيادة من ف، أ.