تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

{ 30 - 32 } { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }

يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } أي : انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك{[651]} إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها . وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة ، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

وخص اللّه إقامة الوجه لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب ويترتب على الأمرين سَعْيُ البدن ولهذا قال : { حَنِيفًا } أي : مقبلا على اللّه في ذلك معرضا عما سواه .

وهذا الأمر الذي أمرناك به هو { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها ، فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم ، الميل إليها ، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة .

ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "

{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي : لا أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه ، { ذَلِكَ } الذي أمرنا به { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته ، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فلا يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه .


[651]:- كذا في ب، وفي أ: على.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لم يوحد كفار مكة ربهم، فوحد أنت ربك يا محمد، {فأقم وجهك للدين} يعني فأخلص دينك الإسلام لله عز وجل.

{حنيفا} يعني مخلصا {فطرت الله التي فطر الناس عليها} يعني ملة الإسلام التوحيد الذي خلقهم عليه، ثم أخذ الميثاق من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى ربنا، وأقروا له بالربوبية والمعرفة له تبارك وتعالى.

{لا تبديل لخلق الله}: لا تحويل لدين الله عز وجل الإسلام.

{ذلك الدين القيم} يعني التوحيد وهو الدين المستقيم.

{ولكن أكثر الناس} يعني كفار مكة {لا يعلمون} توحيد الله عز وجل...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته، وهي الدين، حنيفا يقول: مستقيما لدينه وطاعته، "فطرة الله التي فطر الناس عليها "يقول: صنعةَ الله التي خلق الناس عليها... قال ابن زيد، في قوله "فِطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها" قال: الإسلام مذ خلقهم الله من آدم جميعا، يقرّون بذلك، وقرأ: "وَإذْ أخَذَ رَبّكَ منْ بَنِي آدَمَ منْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ، وأشْهَدَهُمْ على أنْفُسِهمْ، ألَسْتُ برَبّكُمْ؟ قالُوا بَلَى شَهِدْنا" قال: فهذا قول الله: "كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً، فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ" بعد...

وقوله "لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ" يقول: لا تغيير لدين الله: أي لا يصلح ذلك، ولا ينبغي أن يفعل...

وقوله: "ذلكَ الدّينُ القَيّمُ" يقول تعالى ذكره: إن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدّل هو الدين القيم، يعني المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية، وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة.

وقد وجّه بعضهم معنى الدين في هذا الموضع إلى الحساب...

"وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الدين الذي أمرتك يا محمد به بقولي "فأَقمِ وَجْهَكَ للدّينِ حَنِيفا" هو الدين الحقّ دون سائر الأديان غيره.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فأقم وجهك للدين حنيفا} هو لكل أحد، ثم الإقامة تحتمل وجهين: أحدهما: أقم: أي داوم جهدك وقصدك. والثاني: أقم: أتمم، وأقم ما ذكرنا.

{للدين حنيفا} قال بعضهم: الحنيف من حَنَفِ القدم وميله؛ معناه: كن مائلا على الدين في كل حال وكل وقت.

ثم فسر ذلك فقال: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} هذا يحتمل وجوها:...

الثاني: فطرهم، وجبلهم ما لو تركوا وعقولهم لكانوا على [ما] جبلوا، وفطروا، إذ فطر كل منهم، وجعل في خلقة كل دلالة وحدانية الله وربوبيته. وكذلك قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) [البخاري 1385] أي على الخلقة التي تدل، وتشهد على وحدانية الله وربوبيته ما لو تركوا، وخلي بينهم وبين عقولهم لأدركوا.

الثالث: فطرهم على ما يحتملون الامتحان.

{لا تبديل لخلق الله} أي لما فيه دلالة وحدانية الله وشهادة ربوبيته كقوله: {ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت} [الملك: 3] أي لا تفاوت في ما فيه دلالة الوحدانية والشهادة له.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ومعنى الفطر: الشق ابتداء، يقولون: أنا فطرت هذا الشيء، أي أنا ابتدأته، والمعنى: خلق الله الخلق للتوحيد والاسلام...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

وردت الفطرة بمعنى السنة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ} فقوِّم وجهك له وعدِّله، غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً، وهو تمثيل لإقباله على الدين، واستقامته عليه، وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإنّ من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه، وسدّد إليه نظره، وقوّم له وجهه، مقبلاً به عليه.

{حَنِيفاً} حال من المأمور، أو من الدين.

{فِطْرَتَ الله} أي الزموا فطرة الله. أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ}...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه...

لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف فإن كل شريعة هي عقائدها...

{القيم} بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{فأقم وجهك للدين} أي أقبل بكلك على الدين عبر عن الذات بالوجه كما قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} أي ذاته بصفاته.

{حنيفا} أي مائلا عن كل ما عداه أي أقبل على الدين ومل عن كل شيء أي لا يكون في قلبك شيء آخر فتعود إليه.

{لا تبديل لخلق الله} فيه وجوه، قال بعض المفسرين هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال هم خلقوا للشقاوة ومن كتب شقيا لا يسعد، وقيل: {لا تبديل لخلق الله} أي الوحدانية مترسخة فيهم لا تغير لها حتى إن سألتهم من خلق السماوات والأرض يقولون الله، لكن الإيمان الفطري غير كاف.

ويحتمل أن يقال خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا لإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية، وهذا لبيان فساد قول من يقول العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، وقول المشركين: إن الناقص لا يصلح لعبادة الله، وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وقول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه وصار إلها فقال: {لا تبديل لخلق الله} بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

والفطرة: هي الحال التي خلق الله الناس عليها من القابلية للحق، والتهيئ لإدراكه...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي: انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة؛ ويتجه بالخطاب إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم] ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعا وأحزابا مع الأهواء والنزوات! (فأقم وجهك للدين حنيفا. فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيم. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون)..

هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده، وفي موضعه، بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده، وفي أغوار النفس وفطرتها.. يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله، كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل، ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح.. وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن. السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس.

(فأقم وجهك للدين حنيفا).. واتجه إليه مستقيما. فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق، ولا تستمد من علم، إنما تتبع الشهوات، والنزوات بغير ضابط ولا دليل.. أقم وجهك للدين حنيفا مائلا عن كل ما عداه، مستقيما على نهيه دون سواه.

(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله).. وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين؛ وكلاهما من صنع الله؛ و كلاهما موافق لناموس الوجود؛ وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف. وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. والفطرة ثابتة والدين ثابت (لا تبديل لخلق الله). فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة. فطرة البشر وفطرة الوجود. ذلك الدين القيم.

ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم. والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم، ولو أنه موجه إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلا أن المقصود به جميع المؤمنين...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الفاء فصيحة. والتقدير: إذا علمت أحوال المعرضين عن دلائل الحق فأقم وجهك للدين. والأمر مستعمل في طلب الدوام. والمقصود: أن لا تهتم بإعراضهم.

والتعريف في {الدين} للعهد وهو دينهم الذي هم عليه وهو دين الإسلام.

{حنيفاً} يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في فعل {أقم} فيكون حالاً للنبي صلى الله عليه وسلم كما كان وصفاً لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى {إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً} [النحل: 120]، وهذا هو الأظهر في تفسيره. ويجوز كونه حالاً من الدين على ما فسر به الزجاج فيكون استعارة بتشبيه الدين برجل حنيف في خلوّه من شوائب الشرك، فيكون الحنيف تمثيلية وفي إثباته للدين استعارة تصريحية. وحنيف: صيغة مبالغة في الاتصاف بالحَنَف وهو الميْل، وغلب استعمال هذا الوصف في الميل عن الباطل.

{فطرة الله} بدل من {حنيفاً} بدل اشتمال فهو في معنى الحال من {الدين} أيضاً وهو حال ثانية فإن الحال كالخبر تتعدد بدون عطف على التحقيق عند النحاة. وهذا أحسن لأنه أصرح في إفادة أن هذا الدين مختص بوصفين هما: التبرؤ من الإشراك، وموافقتُه الفطرة، فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه، ونظيره قوله تعالى {ولم يجعل له عِوجاً قيّماً} [الكهف: 1، 2] أي الدين الذي هو فطرة الله لأن التوحيد هو الفطرة، والإشراك تبديلٌ للفطرة.

الفطرة أصله اسم هيئة من الفَطْر وهو الخَلْق مثل الخِلقة كما بيّنه قوله {التي فَطَرَ الناس عليها} أي جَبَلَ الناسَ وخلقهم عليها، أي متمكنين منها. فحرف الاستعلاء مستعار لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكناً يشبه تمكن المعتلي على شيء، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5)، وحقيقة المعنى: التي فطر الناس بها. ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقَّن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته.

وإذ لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه: بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسداً وعقلاً، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية.

فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي: إما أمور فطرية أيضاً، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته. وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة.

وكونُ الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيَات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله {ذلك الدين القيّم.} فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحاً للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يُسْراً لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة.

وفي قوله {التي فطر الناس عليها} بيان لمعنى الإضافة في قوله {فطرة الله} وتصريح بأن الله خلق الناس سالمةٌ عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جرَّاء التلقي والتعود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصِّرانه أو يُمجسانه كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحِسُّون فيها من جَدعاء "أي كما تولد البهيمة من إبل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها، أي تُولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء، و (تُحسون) تدركون بالحس، أي حاسّة البصر. فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة، أي في تفاريعهما. وفي « صحيح مسلم» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: "وإني خلقت عبادي حُنفاء كلهم أي غير مشركين وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحلَلْتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً" الحديث.

وجملة {لا تبديل لخلق الله} مبيِّنة لمعنى {فطرة الله التي فطر الناس عليها} فهي جارية مجرى حال ثالثة من {الدّين} على تقدير رابط محذوف. والتقدير: لا تبديل لخلق الله فيه، أي في هذا الدين، فهو كقوله في حديث أم زرع في قول الرابعة: زوجي كلَيْل تهامة لا حرَّ ولا قُرَّ ولا مخافة ولا سآمة أي في ذلك الليل.

فمعنى {لا تبديل لخلق الله} أنه الدين الحنيف الذي ليس فيه تبديل لخلق الله خلاف دين أهل الشرك، قال تعالى عن الشيطان: {ولآمرنهم فَلُيغيِّرُنَّ خلقَ الله} [النساء: 119].

ويجوز أن تكون جملة {لا تبديل لخلق الله} معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة. فتكون {لا تبديل لخلق الله} خبراً مستعملاً في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله {لا تَقْتُلوا أنفسكم} [النساء: 29]. فنفي الجنس مراد به جنس من التبديل خاص بالوصف لا نفي وقوع جنس التبديل فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة.

واسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدين مع تعظيمه.

و القيِّم: وصف بوزن فَيْعِل مثل هيِّن وليِّن يفيد قوة الاتصاف بمصدره، أي البالغ قوة القيام مثل استقام الذي هو مبالغة في قام كاستجاب.

والقيام: حقيقته الانتصابُ ضد القعود والاضطجاع، ويطلق مجازاً على انتفاء الاعوجاج يقال: عود مستقيم وقيم، فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطإ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، كما في قوله تعالى: {ولم يجعل له عِوجاً قيماً} [الكهف: 1، 2] وقال تعالى: في سورة براءة (36). ويطلق أيضاً على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى {أفَمَنْ هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33]، إن هذا الكتاب معصوم عن الخطأ ومتكفل بمصالح الناس، وشاهد على الكتب السالفة تصحيحاً ونسخاً قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} وتقدم في طالع سورة المائدة (48)، وهذا الدين به قوام أمر الأمة. قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل: يا معاذ ما قِوام هذه الأمة؟ قال: الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت. يريد معاذٌ بالإخلاص التوحيد كقوله تعالى {مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5].

والاستدراك في قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} لدفع توهم واهِم يقول إذا كان هو دين الفطرة وهو القيِّم فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه، فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فإنهم جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل ولا يعلمون منه إلا ما لا يفيدهم مُهمهم لأنهم لم يسعوا في أن يَبلغهم على الوجه الصحيح؛ ففعل {لا يعلمون} غير متطلب مفعولاً بل هو منزل منزلة اللازم لأن المعنى لا علم عندهم على نحو ما قرر في نظيره في أول هذه السورة.

{أكثر الناس} المشركون إذ أعرضوا عن دعوة الإسلام، وأهلُ الكتاب إذ أبوا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أديانهم بعد إبطالها لانتهاء صلاحية تفاريعها بانقضاء الأحوال التي شرعت لها انقضاء لا مطمع بعده لأن تعود. ومقابل {أكثر الناس} هم المؤمنون، وشرذمة من علماء أهل الكتاب علموا أحقية الإسلام وبقُوا على أديانهم عناداً: فهم يعلمون ويكابرون، أو تحيُّراً: فهم في شك بين علم وجهل...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما دام الأمر كذلك، وما داموا قد اتبعوا أهواءهم وضلوا، وأصروا على ضلالهم، فدعك منهم ولا تتأثر بإعراضهم.

الحنيف: مائل الساقين فترى في رجله انحناء للداخل، يقال: في قدمه حنف أي ميل، فالمعنى: فأقم وجهك للدين مائلا عن هذا الفساد، ومائلا عن هذا الشرك، وهذه الوثنية التي جئت لهدمها والقضاء عليها.

(أقم) هنا بمعنى: أقيموا

{فطرت الله التي فطر الناس عليها} فنحن نرى البشر يتخذون الطعوم والأمصال للتحصين من الأمراض، كذلك الحق سبحانه- وله المثل الأعلى- جعل هذا المصل التطعيمي في كل نفس بشرية، حتى في التكوين المادي. ألا ترى قوله تعالى في تكوين الإنسان: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة} (الحج 5) فالمخلقة هي التي تكون الأعضاء، وغير المخلقة هي الرصيد المختزن في الجسم، وبه يعوض أي خلل في الأعضاء المخلقة، فهي التي تمده بما يصلحه، كذلك في القيم جاء دين الله فطرت الله التي فطر الناس عليها، فإذا تدخلت الأهواء وحدثت الغفلة جاءت المناعة، إما من ذات النفس، وإما من المجتمع، وإما برسول ومنهج جديد. وقد كرم الله أمة محمد بأن يكون رسولها خاتم الرسل، فهذه بشرى لنا بأن الخير باق فينا، ولا يزال إلى يوم القيامة، ولن يفسد مجتمع المسلمين أبدا بحيث يفقد كله هذه المناعة، فإذا فسدت فيه طائفة وجدت أخرى تقومها، وهذا واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزل طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". وقال صلى الله عليه وسلم: "الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة". وإلا لو عم الفساد هذه الأمة لاقتضى الأمر شيئا آخر.

وحين نقرأ الآية نجد أن كلمة {فطرت} منصوبة، ولم يتقدم عليها ما ينصبها، فلماذا نصبت؟ الأسلوب هنا يريد أن يلفتك لسبب النصب، وللفعل المحذوف هنا، لتبحث عنه بنفسك، فكأنه قال: فأقم وجهك للدين حنيفا والزم فطرت الله التي فطر الناس عليها. لذلك يسمى علماء النحو هذا الأسلوب أسلوب الإغراء، وهو أن أغريك بأمر محبوب وأحثك على فعله، كذلك الحق سبحانه يغرى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم بأن يقيم وجهه نحو الدين الخالص، وأن يلزم فطرت الله، وألا يلفت إلى هؤلاء المفسدين، أو المعوقين له.

والفطرة: يعني الخلقة كما قال سبحانه: {فاطر السماوات والأرض} (يوسف 101) يعني: خالقها، والفطرة المرادة هنا قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات 56) فالزم هذه الفطرة، واعلم أنك مخلوق للعبادة. أو: أن فطرت الله تعني: الطبيعة التي أودعها الله في تكوينك منذ خلق الله آدم، وخلق منه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف 172).

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

قوله تعالى : " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها " قال الزجاج : " فطرة " منصوب بمعنى اتبع فطرة الله . قال : لأن معنى " فأقم وجهك للدين " اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله . وقال الطبري : " فطرة الله " مصدر من معنى : " فأقم وجهك " لأن معنى ذلك : فطر الله الناس ذلك فطرة . وقيل : معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له ؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على " حنيفا " تاما . وعلى القولين الأولين يكون متصلا ، فلا يوقف على " حنيفا " . وسميت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له ، قال جل وعز : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " {[12476]} [ الذاريات : 56 ] . ويقال : " عليها " بمعنى لها ، كقوله تعالى : " وإن أسأتم فلها " {[12477]} [ الإسراء : 7 ] . والخطاب ب " أقم وجهك " للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم ، كما قال : " فأقم وجهك للدين القيم " {[12478]} [ الروم : 43 ] وهو دين الإسلام . وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين ، وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه . ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل . و " حنيفا " معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة .

في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء{[12479]} هل تحسون فيها من جدعاء ) ثم يقول أبو هريرة : واقرؤوا إن شئتم ، " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " ، وفي رواية : ( حتى تكونوا أنتم تجدعونها ) قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) . لفظ مسلم .

واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة : منها الإسلام . قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما ، قالوا : وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل ، واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة ، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما : ( ألا أحدثكم بما حدثني الله في كتابه ، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه ، فجعلوا مما أعطاهم الله حلالا وحراما . . ) الحديث . وبقوله صلى الله عليه وسلم : ( خمس من الفطرة . . . ) فذكر منها قص الشارب ، وهو من سنن الإسلام ، وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث : أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه ، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة ، أولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار . وقال آخرون : الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها ، أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء ، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ . قالوا : والفطرة في كلام العرب البداءة . والفاطر : المبتدئ ، واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال : لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها . قال المروزي : كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه . قال أبو عمر في كتاب التمهيد له : ما رسمه مالك في موطئه وذكر في باب القدر{[12480]} فيه من الآثار - يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا ، والله أعلم . ومما احتجوا به ما روي عن كعب القرظي في قول الله تعالى : " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " [ الأعراف : 30 ] قال : من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى ، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة ، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة ، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه ، قال : وكان من الكافرين .

قلت : قد مضى قول كعب هذا في " الأعراف " وجاء معناه مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار . فقلت : يا رسول الله ، طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه ، قال : ( أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم ) خرجه ابن ماجه في السنن . وخرج أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال : ( أتدرون ما هذان الكتابان ) ؟ فقلنا : لا يا رسول الله ، إلا أن تخبرنا ، فقال للذي في يده اليمنى : ( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا . ثم قال للذي في شماله - هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا . . . ) وذكر الحديث ، وقال فيه : حديث حسن . وقالت فرقة : ليس المراد بقوله تعالى : " فطر الناس عليها " ولا قوله عليه السلام : ( كل مولود يولد على الفطرة ) العموم ، وإنما المراد بالناس المؤمنون ؛ إذا لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد ، وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار ، كما قال تعالى : " ولقد ذرأنا لجهنم " {[12481]} [ الأعراف : 179 ] وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء . وقال في الغلام الذي قتله الخضر : طبع يوم طبع كافرا . وروى أبو سعيد الخدري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار{[12482]} ، وفيه : وكان فيما حفظنا أن قال : ( ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا ، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب ) . ذكره حماد بن زيد بن سلمة{[12483]} في مسند الطيالسي قال : حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد . قالوا : والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب ، ألا ترى إلى قوله عز وجل : " تدمر كل شيء " {[12484]} [ الأحقاف : 25 ] ولم تدمر السموات والأرض . وقوله : " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " {[12485]} [ الأنعام : 44 ] ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة .

وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي : تم الكلام عند قوله : " فأقم وجهك للدين حنيفا " ثم قال : " فطرة الله " أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار ، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) ولهذا قال : " لا تبديل لخلق الله " قال شيخنا أبو العباس : من قال هي سابقة السعادة والشقاوة ، فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن ؛ لأن الله تعالى قال : " لا تبديل لخلق الله " وأما في الحديث فلا ؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير . وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر : الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه ، فكأنه قال : كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته . واحتجوا على أن الفطرة الخلقة ، والفاطر الخالق ؛ لقول الله عز وجل : " الحمد لله فاطر السموات{[12486]} والأرض " [ فاطر : 1 ] يعني خالقهن ، وبقوله : " وما لي لا أعبد الذي فطرني " {[12487]} [ يس : 22 ] يعني خلقني ، وبقوله : " الذي فطرهن " {[12488]} [ الأنبياء : 56 ] يعني خلقهن . قالوا : فالفطرة الخلقة ، والفاطر الخالق ، وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قالوا : وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ، ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا . واحتجوا بقوله في الحديث : ( كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء ) يعني مقطوعة الأذن . فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها ، فيقال : هذه بحائر وهذه سوائب{[12489]} . يقول : فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان ، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة ، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم ، وعصم الله أقلهم . قالوا : ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا ، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون . قالوا : ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا ؛ لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا ، قال الله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " {[12490]} [ النحل : 78 ] فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان ، أو معرفة أو إنكار . قال أبو عمر بن عبد البر : هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها . ومن الحجة أيضا في هذا قوله تعالى : " إنما تجزون ما كنتم تعملون " {[12491]} [ الطور : 16 ] و " كل نفس بما كسبت رهينة " {[12492]} [ المدثر : 38 ] ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء . وقال : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " {[12493]} ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك . والله أعلم . ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلام ، كما قال ابن شهاب ؛ لأن الإسلام والإيمان : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، وهذا معدوم من الطفل ، لا يجهل ذلك ذو عقل . وأما قول الأوزاعي : سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجزي عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع ؟ قال نعم ؛ لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام ، فإنما أجزى عتقه عند من أجازه ؛ لأن حكمه حكم أبويه . وخالفهم آخرون فقالوا : لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى ، وليس في قوله تعالى : " كما بدأكم تعودون " {[12494]} [ الأعراف : 29 ] ولا في ( أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه ) : دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا ؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا ، والحديث الذي جاء فيه : ( أن الناس خلقوا على طبقات ) ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها ؛ لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان ، وقد كان شعبة{[12495]} يتكلم فيه . على أنه يحتمل قوله : ( يولد مؤمنا ) أي يولد ليكون مؤمنا ، ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه ، وليس في قوله في الحديث ( خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار ) أكثر من مراعاة ما يختم به لهم ، لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا ، أو يعقل كفرا أو إيمانا .

قلت : وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له ، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة ، وشيخنا أبو العباس . قال ابن عطية : والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة ؛ لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به ، فكأنه تعالى قال : أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف ، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرضهم العوارض ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه ) فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة . وقال شيخنا في عبارته : إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق ، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات ، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق . وقد دل على صحة هذا المعنى قوله : ( كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات ، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب ، لكن يتصرف فيه{[12496]} فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل ، وكذلك الإنسان ، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح .

قلت : وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى ، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا ، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة : من خلق السموات والأرض ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، واختلاف الليل والنهار ، فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية ، فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا ، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة ، أعني جميع الأطفال ، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم{[12497]} وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا{[12498]} " [ الأعراف : 172 ] . ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية ، وأنه الله لا إله غيره ، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على الكتاب الأول ، فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك ، ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيدا ، ومن مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة ، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم ؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق ، ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل ، وهو يجمع بين الأحاديث ، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) يعني لو بلغوا . ودل على هذا التأويل أيضا حديث البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا ، وفيه قول عليه السلام : ( وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة ) . قال فقيل : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وأولاد المشركين ) . وهذا نص يرفع الخلاف ، وهو أصح شيء روي في هذا الباب ، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء ، قاله أبو عمر بن عبد البر . وقد روي من حديث أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال : ( لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة ، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار ، فهم خدم لأهل الجنة ) ذكره يحيى بن سلام في التفسير له . وقد زدنا هذه المسألة بيانا في كتاب التذكرة ، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك ، والحمد لله . وذكر إسحاق بن راهويه قال : حدثنا يحيى بن آدم قال : أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال : سمعت ابن عباس يقول : لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا - أو كلمة تشبه هاتين - حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر . قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال : أيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت : فتأمر بالكلام ؟ قال فسكت . وقال أبو بكر الوراق : " فطرة الله التي فطر الناس عليها " هي الفقر والفاقة ، وهذا حسن ، فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج ، نعم ، وفي الآخرة .

قوله تعالى : " لا تبديل لخلق الله " أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق . ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه ، أي لا يشقى من خلقه سعيدا ، ولا يسعد من خلقه شقيا . وقال مجاهد : المعنى لا تبديل لدين الله ، وقاله قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي ، قالوا : هذا معناه في المعتقدات . وقال عكرمة : وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى : لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها ؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان . وقد مضى هذا في " النساء " {[12499]} . " ذلك الدين القيم " أي ذلك القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : ذلك الحساب البين . وقيل : " ذلك الدين القيم " أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم . " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا معبودا ، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه .


[12476]:راجع ج 17 ص 55.
[12477]:راجع ج 10 ص 217.
[12478]:راجع ص 42 من هذا الجزء.
[12479]:أي سليمة من العيوب مجتمعة الأعضاء كاملتها.
[12480]:في ج، ش، ك: أبواب.
[12481]:راجع ج 7 ص 324.
[12482]:أي والشمس عالية.
[12483]:لفظة "مسلمة" ساقط من ج، ش.
[12484]:راجع ج 16 ص 205.
[12485]:راجع ج 6 ص 425.
[12486]:راجع ج 14 ص 318 فما بعد.
[12487]:راجع ج 15 ص 17.
[12488]:راجع ج 11 ص 296.
[12489]:راجع ج 6 ص 335.
[12490]:راجع ج 10 ص 151.
[12491]:راجع ج 17 ص 62 فما بعد.
[12492]:راجع ج 19 ص 82 فما بعد.
[12493]:راجع ج 10 ص 231 فما بعد.
[12494]:راجع ج 7 ص 187 فما بعد.
[12495]:لفظة " شعبة" ساقطة من ج.
[12496]:لفظة " فيه" ساقطة من ج.
[12497]:قراءة نافع، وبها كان يقرأ المؤلف.
[12498]:راجع ج 7 ص 314 فما بعد.
[12499]:راجع ج 5 ص 389 فما بعد.