{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر{[85]} أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك ، وأن الله مستخلفه في الأرض .
فقالت الملائكة عليهم السلام : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [ و ]هذا تخصيص بعد تعميم ، لبيان [ شدة ] مفسدة القتل ، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك ، فنزهوا الباري عن ذلك ، وعظموه ، وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي : ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك ، { وَنُقَدِّسُ لَكَ } يحتمل أن معناها : ونقدسك ، فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص ، ويحتمل أن يكون : ونقدس لك أنفسنا ، أي : نطهرها بالأخلاق الجميلة ، كمحبة الله وخشيته وتعظيمه ، ونطهرها من الأخلاق الرذيلة .
قال الله تعالى للملائكة : { إِنِّي أَعْلَمُ } من هذا الخليفة { مَا لَا تَعْلَمُونَ } ، لأن كلامكم بحسب ما ظننتم ، وأنا عالم بالظواهر والسرائر ، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة ، أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك ، إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين ، والشهداء والصالحين ، ولتظهر آياته للخلق ، ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة ، كالجهاد وغيره ، وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم{[86]} من الخير والشر بالامتحان ، وليتبين عدوه من وليه ، وحزبه من حربه ، وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه ، واتصف به ، فهذه حكم عظيمة ، يكفي بعضها في ذلك .
فلننظر الآن في قصة آدم - كما جاءت هنا - في ضوء هذه الإيضاحات . .
إن السياق - فيما سبق - يستعرض موكب الحياة ، بل موكب الوجود كله . ثم يتحدث عن الأرض - في معرض آلاء الله على الناس - فيقرر أن الله خلق كل ما فيها لهم . . فهنا في هذا الجو تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض ، ومنحه مقاليدها ، على عهد من الله وشرط ، وإعطائه المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة . كما أنها تمهد للحديث عن استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهد من الله ؛ ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة الوافية بعهد الله [ كما سيجيء ] فتتسق القصة مع الجو الذي تساق فيه كل الاتساق .
فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من إيحاءات أصيلة :
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ؛ وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى :
( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . .
وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض ، وتطلق فيها يده ، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين ، والتحليل والتركيب ، والتحوير والتبديل ؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة ، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته ، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة !
وإذن فهي منزلة عظيمة ، منزلة هذا الإنسان ، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم .
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) . . حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة ، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض !
( قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ ) . .
ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال ، أو من تجارب سابقة في الأرض ، أو من إلهام البصيرة ، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ، أو من مقتضيات حياته على الأرض ؛ وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض ، وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق ، وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية المطلقة للوجود ، وهو وحده العلة الأولى للخلق . . وهو متحقق بوجودهم هم ، يسبحون بحمد الله ويقدسون له ، ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته !
لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا ، في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها ، على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو الدائم ، والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة البانية . خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا يقف ، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير .
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء ، والخبير بمصائر الأمور :
{ وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم ، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له ، إنعام يعم ذريته . وإذا ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى ، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى ، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان ، وبنيتا تشبيها لهما بالموصولات ، واستعملتا للتعليل والمجازاة ، ومحلهما النصب أبدا بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه ، وأما قوله تعالى : { واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف } ونحوه ، فعلى تأويل : اذكر الحادث إذا كان كذا فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه ، وعامله في الآية قالوا ، أو اذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولا له صريحا في القرآن كثيرا ، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة ، مثل وبدأ خلقكم إذ قال ، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة . وعن معمر أنه مزيد . والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل ، والتاء لتأنيث الجمع ، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي : الرسالة ، لأنهم وسائط بين الله تعالى ، وبين الناس ، فهم رسل الله . أو كالرسل إليهم . واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها . فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك . وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان . وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وهم العليون والملائكة المقربون . وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وهم المدبرات أمرا ، فمنهم سماوية ، ومنهم أرضية ، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع .
والمقول لهم : الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل ملائكة الأرض ، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن ، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولا فأفسدوا فيها ، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال . وجاعل : من جعل الذي له مفعولان وهما في { الأرض خليفة } أعمل فيهما ، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه . ويجوز أن يكون بمعنى خالق . والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه ، وتلقي أمره بغير وسط ، ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال الله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم ، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمه بلا واسطة ، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات ، ومحمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد ، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك . أو خليفة من سكن الأرض قبله ، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم ، أو يخلف بعضهم بعضا . وإفراد اللفظ : إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم : مضر وهاشم . أو على تأويل من يخلفكم ، أو خلفا يخلفكم . وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة ، تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشر عز وجل بوجود سكان ملكوته ، ولقبه بالخليفة قبل خلقه ، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم ، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك .
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها ، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره ، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو تلق من اللوح ، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم ، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر . والسفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب ، فالسفك يقال في الدم والدمع ، والسبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصب من أعلى ، والشن في الصب من فم القربة ونحوها ، وكذلك السن ، وقرئ { يسفك } على البناء للمفعول ، فيكون الراجع إلى { من } ، سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا ، أي : يسفك الدماء فيهم .
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } حال مقررة لجهة الإشكال كقولك أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم . والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه ، الاستفسار عما رجحهم ومع ما هو متوقع منهم ، على الملائكة المعصومين في الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر . وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء ، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة . ونظروا إليها مفردة وقالوا ما الحكمة في استخلافه ، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه ، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليما عن معارضة تلك المفاسد . وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل ، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف . ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف ، وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله :
{ قال إني أعلم ما لا تعلمون } والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس ، من سبح في الأرض والماء ، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ، ويقال قدس إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار . و{ بحمدك } في موضع الحال ، أي متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك ، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح ، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل : نقدسك واللام مزيدة .