تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

{ 62 - 63 } { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وأَنَّهُم مُفْرَطُونَ * تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم }

يخبر تعالى أن المشركين : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، من البنات ، ومن الأوصاف القبيحة ، وهو الشرك بصرف شيء من العبادات إلى بعض المخلوقات ، التي هي عبيد لله ، فكما أنهم يكرهون ، ولا يرضون أن يكون عبيدهم -وهم مخلوقون من جنسهم- شركاء لهم فيما رزقهم الله ، فكيف يجعلون له شركاء من عبيده ؟ "

{ وَ } هم مع هذه الإساءة العظيمة ، { تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، أي : أن لهم الحالة الحسنة في الدنيا والآخرة ، رد عليهم بقوله : { لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } ، مقدمون إليها ، ماكثون فيها ، غير خارجين منها أبدا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

51

وأعجب ما في الأمر أن المشركين ، يجعلون لله ما يكرهون من البنات وغير البنات ، ثم يزعمون كاذبين أن سينالهم الخير والإحسان جزاء على ما يجعلون ويزعمون ! والقرآن يقرر ما ينتظرهم وهو غير ما يزعمون :

( ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى . لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) .

والتعبير يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته ، أو كأنها صورة له ، تحكيه وتصفه بذاتها . كما تقول قوامه يصف الرشاقة وعينه تصف الحور . لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة مفصح عنها ، ولأن هذه العين بذاتها تعبير عن الحور مفصح عنه . كذلك قال : تصف ألسنتهم الكذب ، فهي بذاتها تعبير عن الكذب مفصح عنه مصور له ، لطول ما قالت الكذب وعبرت عنه حتى صارت رمزا عليه ودلالة له ! .

وقولهم : أن لهم الحسنى ، وهم يجعلون لله ما يكرهون هو ذلك الكذب الذي تصفه ألسنتهم أما الحقيقة التي يجبههم بها النص قبل أن تكمل الآية ، فهي أن لهم النار دون شك ولا ريب ، وعن استحقاق وجدارة :

( لا جرم أن لهم النار ) وأنهم معجلون إليها غير مؤخرين عنها : ( وأنهم مفرطون ) والفرط هو ما يسبق ، والمفرط ما يقدم ليسبق فلا يؤجل .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

وقوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، أي : من البنات ، ومن الشركاء ، الذين هم [ من ]{[16505]} عبيده ، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله .

وقوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا ، وإن كان ثمَّ معاد ففيه أيضا لهم الحسنى ، وإخبار عن قيل من قال منهم ، كقوله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 9 ، 10 ] ، وكقوله{[16506]} : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ فصلت : 50 ] ، وقوله : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ{[16507]} بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا [ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ] } [ مريم : 77 ، 78 ]{[16508]} وقال إخبارا عن أحد الرجلين : أنه { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ{[16509]} مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [ الكهف : 35 ، 36 ] - فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل ، بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل ، كما ذكر ابن إسحاق : أنه وُجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حِكَم ومواعظ ، فمن{[16510]} ذلك : تعملون السيئات{[16511]} ويجزون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى{[16512]} من الشوك العنب{[16513]} .

وقال مجاهد ، وقتادة : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، أي :{[16514]} الغلمان .

وقال ابن جرير : { أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، أي : يوم القيامة ، كما قدمنا بيانه ، وهو الصواب ، ولله الحمد .

ولهذا قال الله تعالى رادا عليهم في تمنيهم [ ذلك ] ، {[16515]} { لا جَرَمَ } ، أي : حقا لا بد منه ، { أَنَّ لَهُمُ النَّارَ } ، أي : يوم القيامة ، { وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } .

قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون .

وهذا كقوله تعالى : { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [ الأعراف : 51 ] . {[16516]}

وعن قتادة أيضا : { مُفْرَطُونَ } ، أي : معجلون إلى النار ، من الفَرَط ، وهو : السابق إلى الوِرْد ، ولا منافاة ؛ لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار ، وينسون فيها ، أي : يخلدون .


[16505]:زيادة من "ت".
[16506]:في أ: "وقال".
[16507]:في ت: "الذين كفروا" وهو خطأ.
[16508]:زيادة من ف، أ.
[16509]:في ت، ف، أ: "فقال".
[16510]:في ت: "في".
[16511]:في ف: "السوء"
[16512]:في ف، أ: "يجني".
[16513]:انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/196).
[16514]:في أ: "إلي".
[16515]:زيادة من ت، ف، أ.
[16516]:في ت، ف، أ: "ننساكم كما نسيتم" وهو خطأ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

{ ويجعلون لله ما يكرهون } ، أي : ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ، والشركاء في الرياسة ، والاستخفاف بالرسل ، وأراذل الأموال . { وتصف ألسنتهم الكذب } ، مع ذلك وهو : { أن لهم الحسنى } ، أي : عند الله كقوله : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } ، وقرئ : { الكذب } ، جمع كذوب ، صفة للألسنة . { لا جرم أن لهم النار } ، رد لكلامهم ، وإثبات لضده . { وأنهم مُفرَطون } ، مقدمون إلى النار ، من أفرطته في طلب الماء ، إذا قدمته . وقرأ نافع بكسر الراء على أنه من الإفراط في المعاصي . وقرئ بالتشديد مفتوحا ، من فرطته في طلب الماء ، ومكسورا من التفريط في الطاعات .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

وقوله : { ما يكرهون } ، يريد البنات ، و { ما } في هذا الموضع ، تقع لمن يعقل من حيث هو صنف . وقرأ الحسن : «ألسنتهم الكذب » ، بسكون النون ، كراهية توالي الحركات ، وقرأ الجمهور : «الكذِب » ، بكسر الذال ، ف { أن } بدل منه ، وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام : «الكُذُب » بضم الكاف والذال والباء على صفة الألسنة ، و { أن لهم } ، مفعول ب { تصف } ، و { الحسنى } ، قال مجاهد وقتادة : الذكور من الأولاد ، وهو الأسبق من معنى الآية ، وقالت فرقة : يريد الجنة .

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا ، قوله { لا جرم أن لهم النار } ، ومعنى الآية على هذا التأويل : يجعلون لله المكروه ، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة ، كما تقول لرجل أنت تعصي الله ، وتقول مع ذلك أنت تنجو ، أي : هذا بعيد مع هذا ، ثم حكم عليهم بعد ذلك بالنار ، وقد تقدم القول في { لا جرم } ، وقرأ الجمهور «أن لهم » بفتح الهمزة ، وإعرابها بحسب تقدير { جرم } ، فمن قدرها بكسب فعلهم فهو نصب ، ومن قدرها بوجب فهو رفع ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمران : «إن لهم » ، بكسر الهمزة . وقرأ السبعة سوى نافع : «مفرَطون » ، بفتح الراء وخفتها ، ومعناه : مقدمون إلى النار والعذاب ، وهي قراءة الحسن والأعرج ، وأصحاب ابن عباس ، وقد رويت عن نافع ، وهو مأخوذ من فرط الماء ، وهم القوم الذين يتقدمون إلى المياه لإصلاح الدلاء والأرشية ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أنا فرطكم على الحوض »{[7353]} ، ومنه قول القطامي :

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا . . . كما تعجل فرّاطٌ لورّاد{[7354]}

وقالت فرقة : { مفرطون } ، معناه مخلفون ، متركون في النار منسيون فيها ، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي هند ، وقال آخرون { مفرطون } ، معناه : مبعدون في النار ، وهذا قريب من الذي قبله ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «مُفَرِّطون » ، بكسر الراء وتشديدها وفتح الفاء ، ومعناه : مقصرون في طاعة الله تعالى ، وقد روي عنه فتح الراء مع شدها ، وقرأ نافع وحده : «مُفرِطون » ، بكسر الراء وخفتها ، وهي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي رجاء ، وشيبة بن نصاح ، وأكثر أهل المدينة ، أي : يتجاوزون الحد في معاصي الله عز وجل .


[7353]:أخرجه البخاري في الرقاق والفتن، ومسلم في الطهارة والإمارة، وابن ماجه في الزهد، وأحمد في مسنده (1 ـ 257، 384، 402)، ولفظه كما في البخاري ـ كتاب الرقاق ـ (عن عتبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
[7354]:رواية الديوان "فاستعجلونا" بالفاء، ومعناها: أعجلونا، يريد أنهم تقدمونا، والفراط: الذين يتقدمون الوراد فيصلحون الحبال والدلاء، وقد ذكره في اللسان، قال: والدلاء ومدر الحياض والسقي فيها، ثم ذكر البيت. والرواية فيه (تقدم) بدلا من (تعجل)، وفي الصحاح (تعجل).