{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض ، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية ، فكانوا ملكا له وعبيدا ، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه ، وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه ، { فيغفر لمن يشاء } وهو لمن أتى بأسباب المغفرة ، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره { والله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء ، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه .
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة ، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما ، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت ، المجازي عليها ، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب ، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب !
( لله ما في السماوات وما في الأرض . وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله على كل شيء قدير ) .
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت ؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة ، بذلك الرباط الوثيق ، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء . فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية . . وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم . . وهي والتشريع في الإسلام متكاملان . فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها ؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له . صنعة إلهية متكاملة متناسقة . تربية وتشريع . وتقوى وسلطان . . ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان . فأنى تذهب شرائع الأرض ، وقوانين الأرض ، ومناهج الأرض ؟ أنى تذهب نظرة إنسان قاصر ، محدود العمر ، محدود المعرفة ، محدود الرؤية ، يتقلب هواه هنا وهناك ، فلا يستقر على حال ، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي ، ولا على رؤية ، ولا على إدراك ؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها . ربها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق ، والذي يعلم ما يصلح لخلقه ، في كل حالة وفي كل آن ؟
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه . الشقوة التي بدأت في الغرب هربا من الكنيسة الطاغية الباغية هناك ؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا ؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر . . فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس ، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها . ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال ، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه ! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله . . وكانت الشقوة وكان البلاء ! !
فأما نحن - نحن الذين نزعم الإسلام - فما بالنا ؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه ؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال ، ويحط عنا الأثقال ، ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح ؟ !
{ للّهِ ما فِي السّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { لِلّهِ مَا فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } لله ملك كل ما في السموات وما في الأرض من صغير وكبير ، وإليه تدبير جميعه ، وبيده صرفه وتقليبه ، لا يخفى عليه منه شيء ، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه . وإنما عنى بذلك جلّ ثناؤه : كتمان الشهود الشهادة ، يقول : لا تكتموا الشهادة أيها الشهود ، ومن يكتمها يفجر قلبه ، ولن يخفى عليّ كتمانه ، وذلك لأني بكل شيء عليم ، وبيدي صرف كل شيء في السموات والأرض وملكه ، أعلمه خفيّ ذلك وجلّيه ، فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة . وعيدا من الله بذلك من كتمها وتخويفا منه له به . ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم ، وبمن كان من نظرائهم ممن انطوى كشحا على معصية فأضمرها ، أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه من المحاسبة عليها ، فقال : { وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } يقول : وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حقّ ربّ المال الجحود والإنكار ، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم وغير ذلك من سيىء أعمالكم ، { يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } يعني بذلك : يحتسب به عليكم من أعماله ، فيجازي من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله ، وغافر منكم لمن شاء من المسيئين .
ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } فقال بعضهم بما قلنا من أنه عنى به الشهود في كتمانهم الشهادة ، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا أبو نفيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } يقول : يعنِي في الشهادة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } قال : في الشهادة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : سئل داود عن قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } فحدثنا عن عكرمة ، قال : هي الشهادة إذا كتمتها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو وأبي سعيد ، أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } قال : في الشهادة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن الشعبي في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } قال : في الشهادة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، أنه قال في هذه الآية : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } قال : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها .
حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن عكرمة في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } يعني كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية إعلاما من الله تبارك وتعالى عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه . ثم اختلف متأوّلو ذلك كذلك ، فقال بعضهم : ثم نسخ الله ذلك بقوله : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن مصعب بن ثابت ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت : { لِلّهِ مَا فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } اشتدّ ذلك على القوم ، فقالوا : يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا ؟ هلكنا ! فأنزل الله عزّ وجلّ : { لاَ يُكْلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } الآية ، إلى قوله : { رَبّنا لا تُوءَاخِذْنَا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنَا } قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله : نَعَمْ » . { رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } إلى آخر الآية ، قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله عزّ وجلّ نعم » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد ، قال : سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنَ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ } دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَمِعْنا وأطَعْنا وَسَلّمْنَا » . قال : فألقى الله عزّ وجلّ الإيمان في قلوبهم ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } . قال أبو كريب : فقرأ : { رَبّنَا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا } قال : فقال : «قد فعلت » . { رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال : «قد فعلت » . { رَبّنا ولا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : «قد فعلت » . { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكافِرِينَ } قال : «قد فعلت » .
حدثني أبو الرداد المصري عبد الله بن عبد السلام ، قال : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، عن حيوة بن شريح ، قال : سمعت يزيد بن أبي حبيب ، يقول : قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن مرجانة ، قال : جئت عبد الله بن عمر ، فتلا هذه الآية : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ } . ثم قال ابن عمر : لئن آخذنا بهذه الآية لنهلكنّ . ثم بكى ابن عمر حتى سالت دموعه . قال : ثم جئت عبد الله بن العباس ، فقلت : يا أبا عباس ، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } . . . الآية ، ثم قال : لئن واخذنا بهذه الآية لنهلكنّ ! ثم بكى حتى سالت دموعه . فقال ابن عباس : يغفر الله لعبد الله بن عمر لقد فرِق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فرق ابن عمر منها ، فأنزل الله : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } فنسخ الله الوسوسة ، وأثبت القول والفعل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن مرجانة يحدّث : أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية : { لِلّهِ مَا فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } . . . الآية ، فقال : والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكنّ ! ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه . فقال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس ، فذكرت له ما تلا ابن عمر ، وما فعل حين تلاها ، فقال عبد الله بن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر ، فأنزل الله بعدها : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } إلى آخر السورة . قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله عزّ وجلّ : أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : سمعت الزهري يقول في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } قال : قرأها ابن عمر ، فبكى وقال : إنا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا ! فبكى حتى سمع نشيجه ، فقام رجل من عنده ، فأتى ابن عباس ، فذكر ذلك له ، فقال : رحم الله ابن عمر لقد وجد المسلمون نحوا مما وجد ، حتى نزلت : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : كنت عند ابن عمر فقال : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفوهُ } . . . الآية . فبكى ! فدخلت على ابن عباس ، فذكرت له ذلك ، فضحك ابن عباس فقال : يرحم الله ابن عمر ، أو ما يدري فيم أنزلت ؟ إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا ، وقالوا : يا رسول الله هلكنا ! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قُولُوا سَمِعْنَا وأطَعْنا » ، فنسختها : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسلِهِ } إلى قوله : { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } فتجوّز لهم من حديث النفس ، وأخذوا بالأعمال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن سالم أن أباه قرأ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } فدمعت عينه . فبلغ صنيعه ابن عباس ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ! لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت ، فنسختها الآية التي بعدها : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } .
حدثنا محمد بن بشار ، قال أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : نسخت هذه الآية : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفوهُ } : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت هذه الآية : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } قالوا : أنؤاخذ بما حدثنا به أنفسنا ولم تعمل به جوارحنا ؟ قال : فنزلت هذه الآية : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُوءَاخَذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا } قال : ويقول : قد فعلت . قال : فأعطيت هذه الأمة خواتيم سورة البقرة ، لم تعطها الأمم قبلها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جرير بن نوح ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن عامر : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ } قال : فنسختها الآية بعدها قوله : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } قال : نسختها الآية التي بعدها : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } . وقوله : { وَإِنْ تُبْدُوا } قال : يحاسب بما أبدى من سرّ أو أخفى من سرّ ، فنسختها التي بعدها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا سيار ، عن الشعبي ، قال : لما نزلت هذه الآية : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ } قال : فكان فيها شدة حتى نزلت هذه الآية التي بعدها : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } قال : فنسخت ما كان قبلها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : ذكروا عند الشعبي : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } حتى بلغ : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } قال : فقال الشعبي : إلى هذا صار ، رجعت إلى آخر الآية .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } قال : قال ابن مسعود : كانت المحاسبة قبل أن تنزل : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، يذكر عن ابن مسعود ، نحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن الشعبي ، قال : نسخت : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب وسفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، وعن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قالوا : نسخت هذه الآية : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفوهُ } . . . الآية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة وعامر ، بمثله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد بن حميد ، عن الحسن في قوله : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ } إلى آخر الآية ، قال : محتها : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أنه قال : نسخت هذه الآية ، يعني قوله : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } . . . الآية التي كانت قبلها : { إنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } قال : نسختها قوله : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن زيد ، قال : لما نزلت هذه الآية : { إِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } . . . إلى آخر الآية ، اشتدّت على المسلمين ، وشقت مشقة شديدة ، فقالوا : يا رسول الله لو وقع في أنفسنا شيء لم نعمل به واخذنا الله به ؟ قال : «فَلَعَلّكُمْ تَقُولُونَ كَما قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنا » ، قالوا : بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله . قال : فنزل القرآن يفرجها عنهم : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } إلى قوله : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } قال : فصيره إلى الأعمال ، وترك ما يقع في القلوب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا هشيم ، عن سيار ، عن أبي الحكم ، عن الشعبي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } قال : نسخت هذه الآية التي بعدها : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { إِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } قال : يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وسوست به أنفسهم وما عملوا ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن عمل أحدنا وإن لم يعمل أُخذنا به ؟ والله ما نملك الوسوسة ! فنسخها الله بهذه الآية التي بعدها بقوله : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها } فكان حديث النفس مما لم تطيقوا .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : نسختها قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ } .
وقال آخرون ممن قال معنى ذلك : «الإعلام من الله عز وجل عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم ، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعلموه » . هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والله عز وجل محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادوه ، فيغفره للمؤمنين ، ويؤاخذ به أهل الكفر والنفاق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } فإنها لم تنسخ ، ولكن الله عزّ وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة ، يقول الله عزّ وجل : إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم ، وهو قوله : { يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } يقول : يخبركم . وأما أهل الشكّ والريب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله : { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ } وهو قوله : { وَلَكِنْ يُؤاخِذْكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } من الشكّ والنفاق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } فذلك سرّ عملكم وعلانيته ، يحاسبكم به الله ، فليس من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل به ، فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات ، وإن هو لم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن ، والله يرضى سرّ المؤمنين وعلانيتهم ، وإن كان سوءا حدّث به نفسه اطلع الله عليه وأخبره به يوم تبلى السرائر ، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به ، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه ، كما قال : { أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيّئَاتِهِمْ } .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ اللّهُ } . . . الآية . قال : قال ابن عباس : إن الله يقول يوم القيامة : إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذّب من شئت .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا عليّ بن عاصم ، قال : أخبرنا بيان ، عن بشر ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : إذا كان يوم القيامة ، قال الله عزّ وجلّ يُسمِع الخلائق : إنما كان كتابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم ، فأما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه ، ولا يعلمونه ، أنا الله أعلم بذلك كله منكم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذّب من شئت .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } كان ابن عباس يقول : إذا دعي الناس للحساب ، أخبرهم الله بما كانوا يسرّون في أنفسهم مما لم يعملوه ، فيقول : إنه كان لا يعزب عني شيء ، وإني مخبركم بما كنتم تسرّون من السوء ، ولم تكن حفظتكم عليكم مطلعين عليه . فهذه المحاسبة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمُ بِهِ اللّهُ } قال : هي محكمة لم ينسخها شيء ، يقول : يحاسبكم به الله ، يقول : يعرّفه الله يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا لا يؤاخذه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، قال : هي محكمة لم تنسخ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } قال : من الشكّ واليقين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } يقول : في اليقين والشك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه عليّ بن أبي طلحة : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ } من شيء من الأعمال ، فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم ، أو تخفوه فتسرّوه في أنفسكم ، فلم يطلع عليه أحد من خلقي ، أحاسبكم به ، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان ، وأعذّب أهل الشرك والنفاق في ديني .
وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه ، وعلى ما قاله الربيع بن أنس ، فإن تأويلها : إن تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي ، أو تضمروا إرادته في أنفسكم ، فتخفوه ، يُعلمْكم به الله يوم القيامة ، فيغفر لمن يشاء ، ويعذّب من يشاء .
وأما قول مجاهد فشبيه معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه عليّ بن أبي طلحة .
وقال آخرون ممن قال : «هذه الآية محكمة وهي غير منسوخة » ووافقوا الذين قالوا : «معنى ذلك أن الله عزّ وجلّ أعلم عباده ما هو فاعل بهم فيما أبدوا وأخفوا من أعمالهم » : معناها : أن الله محاسب جميع خلقه بجميع ما أبدوا من سيىء أعمالهم ، وجميع ما أسروه ، ومعاقبهم عليه ، غير أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب ، والأمور التي يحزنون عليها ويألمون منها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } . . . الآية ، قال : كانت عائشة رضي الله عنها تقول : من همّ بسيئة فلم يعملها أرسل الله عليه من الهمّ والحزن مثل الذي همّ به من السيئة فلم يعملها ، فكانت كفارته .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } قال : كانت عائشة تقول : كل عبد يهمّ بمعصية ، أَو يحدّث بها نفسه ، حاسبه الله بها في الدنيا ، يخاف ويحزن ويهتم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو تميلة ، عن عبيد ، عن الضحاك ، قال : قالت عائشة في ذلك : كل عبد همّ بسوء ومعصية ، وحدّث نفسه به ، حاسبه الله في الدنيا ، يخاف ويحزن ويشتدّ همه ، لا يناله من ذلك شيء ، كما همّ بالسوء ولم يعمل منه شيئا .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية : { إِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } ، { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } فقالت : ما سألني عنها أحد مذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «يا عائشة ، هذه مُتَابَعَةُ الله العبد بما يُصِيبُه من الحُمّى والنكْبَة والشّوْكَة ، حتى البضاعة يَضَعُها في كمّه فيفقدها فيفزع لها ، فيجدها في ضِبْنِهِ حتى إن المُوءْمِنَ لَيَخْرُجُ من ذنوبه كما يخرج التّبْرُ الأحمر من الكِيرِ » .
وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال : إنها محكمة وليست بمنسوخة ، وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا ينفيه بآخر له ناف من كل وجوهه ، وليس في قوله جلّ وعزّ : { لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ } نفي الحكم الذي أعلم عباده بقوله : { أوْ تُخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبة ، ولا مؤاخذة بما حوسب عليه العبد من ذنوبه ، وقد أخبر الله عزّ وجلّ عن المجرمين أنهم حين تُعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة ، يقولون : { يا وَيْلَتَنَا ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلاّ أحْصَاهَا } فأخبر أن كتبهم محصية عليهم صغائر أعمالهم وكبائرها ، فلم تكن الكتب وإن أحصت صغائر الذنوب وكبائرها بموجب إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله وأهل الطاعة له ، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين ، لأن الله عزّ وجلّ وعدهم العفو عن الصغائر باجتنابهم الكبائر ، فقال في تنزيله : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما } فدلّ أن محاسبة الله عباده المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم غير موجبة لهم منه عقوبة ، بل محاسبته إياهم إن شاء الله عليها ليعرّفهم تفضله عليهم بعفوه لهم عنها كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي :
حدثني به أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، عن ابن عمر ، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «يُدْنِي اللّهُ عَبْدَهُ المُوءْمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرّرُهُ بِسَيّئَاتِهِ يَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ ، فَيَقُولُ : سَتَرْتُها فِي الدّنْيَا وأغْفِرُها اليَوْمَ . ثُمّ يُظْهِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ ، فَيَقُولُ : هاومُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ » أو كما قال : «وأمّا الكَافِرُ ، فَإِنّهُ يُنَادَى بِهِ عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ وسعيد وهشام ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا هشام ، قالا جميعا في حديثهما ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف ، إذ عرض له رجل ، فقال : يا ابن عمر أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يَدْنُو المُوءْمِنُ مِنْ رَبّهِ حتّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرّرُهُ بِذُنُوبِهِ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : رَبّ اغْفِرْ مَرّتَيْنِ ، حتى إذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللّهُ أنْ يَبْلُغَ قَالَ : فَإِنّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدّنْيا ، وأنا أغْفِرُها لَكَ اليَوْمَ » ، قال : «فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ أوْ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ . وأمّا الكُفّارُ وَالمُنَافِقُونَ ، فَيُنَادَى بِهِمْ على رُءُوسِ الأشْهادِ : هَولاَءِ الّذِينَ كَذَبُوا على رَبِهِمْ ، ألا لَعْنَةُ اللّهِ على الظّالِمِينَ » .
إن الله يفعل بعبده المؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله حتى يعرّفه تفضله عليه بعفوه له عنها ، فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه ، وبما أخفاه من ذلك ، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرّمه عليه ، فيستره عليه ، وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين ، فقال : يغفر لمن يشاء .
فإن قال قائل : فإن قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } ينبىء عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب ، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير . قيل : إن ذلك كذلك ، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله ، أو ترك ما أمر بفعله .
فإن قال : فإذا كان ذلك كذلك ، فما معنى وعيد الله عزّ وجلّ إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله : { وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ } إن كان { لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا ، من همّ بذنب ، أو إرادة لمعصية ، لم تكتسبه جوارحنا ؟ قيل له : إن الله جلّ ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما همّ به أحدهم من المعاصي فلم يفعله ، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها ، وإنما الوعيد من الله عزّ وجلّ بقوله : { وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ } على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشكّ في الله ، والمرية في وحدانيته ، أو في نبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند الله ، أو في المعاد والبعث من المنافقين ، على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد ، ومن قال بمثل قولهما أن تأويل قوله : { أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } على الشكّ واليقين . غير أنا نقول إن المتوعد بقوله : { وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ } هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشكّ والمرية في الله ، وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا ، والموعود الغفران بقوله : { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ } هو الذي أخفى ، وما يخفيه الهمة بالتقدّم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداء تحليله وإباحته ، فحرّمه على خلقه جلّ ثناؤه ، أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله مما كان جائزا ابتداء إباحة تركه ، فأوجب فعله على خلقه . فإن الذي يهمّ بذلك من المؤمنين إذا هو لم يصحح همه بما يهمّ به ، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بالتقدم عليه لم يكن مأخوذا ، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «مَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ ، وَمَنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها لَمْ تُكْتُبْ عَلَيْهِ » ، فهذا الذي وصفنا ، هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ثم لا يعاقبهم عليه .
فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوّة أنبيائه ، فذلك هو الهالك المخلد في النار ، الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله : { وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ } .
فتأويل الآية إذا : { وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ } أيها الناس ، فتظهروه { أوْ تُخْفُوهُ } فتنطوي عليه نفوسكم ، { يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } فيعرّف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ، ومغفرته له ، فيغفره له ، ويعذّب منافقكم على الشكّ الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوّة أنبيائه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : والله عزّ وجلّ على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة ، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشكّ في توحيد الله عزّ وجلّ ، ونبوّة أنبيائه ، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه ، وعلى غير ذلك من الأمور قادرٌ .
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 284 )
المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك لله وطاعة( {[2841]} ) ، لأنه الموجد المخترع لا رب غيره ، وعبر ب { ما } وإن كان ثم من يعقل لأن الغالب إنما هو جماد ، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه ، إذ هي ثلاثة : ملائكة ، وإنس ، وجن ، وأجناس الغير كثيرة .
وقوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } معناه أن الأمر سواء ، لا تنفع فيه المواراة والكتم ، بل يعلمه ويحاسب عليه ، وقوله : { في أنفسكم } تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه( {[2842]} ) ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز .
واختلف الناس في معنى هذه الآية( {[2843]} ) ، فقال ابن عباس وعكرمة والشعبي هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب ، وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا ، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا ؟ ! بل قولوا سمعنا وأطعنا ، فقالوها ، فأنزل الله بعد ذلك { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] ، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك ، هذا معنى الحديث المروي ، لأنه تطرق من جهات ، واختلفت عباراته واستثبتت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة( {[2844]} ) . وقال سعيد بن مرجانة( {[2845]} ) جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية ، { إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } ثم قال : والله لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكن ، ثم بكى حتى سالت دموعه ، وسمع نشيجه ، قال ابن مرجانة فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، لقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } الآية فنسخت الوسوسة ، وثبت القول والفعل ، وقال الطبري وقال آخرون هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ثم أدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا المعنى ، وقال مجاهد الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين ، وقال الحسن الآية محكمة ليست بمنسوخة ، قال الطبري وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس ، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها ، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا المعنى ، ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، وذلك أن قوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم ، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه ، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم ، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها ، ونص على حكمه أنه { لايكلف نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] ، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع ، بل هو أمر غالب ، وليست مما يكسب ولا يكتسب ، وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم ، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها( {[2846]} ) .
ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم : «قولوا سمعنا وأطعنا » يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران ، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه ، وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين }( {[2847]} ) [ الأنفال : 65 ] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه : التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك .
وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين ، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فيغفرْ » ، و «ويعذبْ » ، جزماً ، وقرأ ابن عامر وعاصم «فيغفرُ » و «ويعذبُ » رفعاً ، فوجه الجزم أنه أتبعه منا قبله ولم يقطعه ، وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم( {[2848]} ) ، ووجه الرفع أنه قطعه من الأول ، وقطعه على أحد وجهين ، إما أن تجعل الفعل خبراً لمبتدأ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ ، وإما أن تعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها ، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة «فيغفرَ » و «يعذبَ » بالنصب على إضمار «أن » ، وهو معطوف على المعنى كما في قوله : { فيضاعفه }( {[2849]} ) [ البقرة : 11 ] وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف( {[2850]} ) يغفر بغير فاء ، وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود ، قال ابن جني هي على البدل من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة( {[2851]} ) ، وهذا كقول الشاعر : [ الطويل ]
رويداً بني شيبانَ بعضَ وعيدِكُمْ . . . تُلاقُوا غداً خيلي عَلى سَفَوَانِ
تلاقوا جياداً لا تحيدُ عن الوغَى . . . إذا ما غَدَتْ في المأزقِ المتدانِ( {[2852]} )
فهذا على البدل ، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من القول .
وقوله تعالى : { ويعذب من يشاء } يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد ، قال النقاش يغفر لمن يشاء ، أي لمن ينزع عنه ، { ويعذب من يشاء } أي من أقام عليه ، وقال سفيان الثوري يغفر لمن يشاء العظيم ويعذب من يشاء على الصغير .
قال القاضي أبو محمد : وتعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق ، وقال إن الله قد كلفهم أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير بين ، وإنما كان أمر الخواطر تأويلاً تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت تكليفاً إلا على الوجه الذي ذكرنا من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك .
ومسألة تكليف ما لا يطاق ، نتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى( {[2853]} ) .
ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء ، إذ ما ذكر جزء منها .
تعليل واستدلال على مضمون جملة { والله بما تعملون عليم } وعلى ما تقدم آنفاً من نحو : { الله بكل شيء عليم } [ آل عمران : 176 ] { واللَّه بما تعملون عليم واللَّه بما تعملون بصير } [ الممتحنة : 30 ] { واللَّه بما تعملون خبير } [ البقرة : 234 ] فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد ، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه ، فجملة { وإن تبدوا ما في أنفسكم } إلى آخرها هي محطُّ التصريح ، وهي المقصود بالكلام ، وهي معطوفة على جملة { ولا تكتموا الشهادة – إلى- والله بما تعملون عليم } [ البقرة : 283 ] وجملةُ { لله ما في السموات وما في الأرض } هي موقع الاستدلال ، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين ، أو علة لجملة { والله بما تعملون عليم } باعتبار إرادة الوعيد والوعد ، فالمعنى : إنّكم عبيد ه فلا يفوته عملَكُم والجزاء عليه . وعلى هذا الوجه تكون جملة « وإن تبدوا ما في أنفسكم » معطوفة على جملة { لله ما في السموات وما في الأرض } عطف جملة على جملة ، والمعنى : إنكم عبيدُه ، وهو محاسبكم ، ونظيرُها في المعنى قوله تعالى : { وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق } [ الملك : 13 ، 14 ] ولا يخالف بينهما إلاّ أسلوب نظم الكلام .
ومعنى الاستدلال هنا : إنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض ، وخالق الخلق ، فإذا كان في السموات والأرض لِلَّه ، مخلوقاً له ، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنَّه مكوِّن ضمائرِهم وخواطرهم ، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية ؛ لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه . ومالكيةُ الله تعالى أتَمّ أنواع الملك على الحَقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى ، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوبُ الوجود من صفات الكمال . فقوله : { لله ما في السموات وما في الأرض } تمهيد لقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية .
وعُطف قوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم } بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمَّنه مقصود بالذات ، وأنّ ما قبله كالتمهيد له . ويجوز أن يكون قوله : { وإن تبدوا } عطفاً على قوله : { والله بما تعملون عليم } [ البقرة : 283 ] ويكون قوله : { لله ما في السموات وما في الأرض } اعتراضاً بينهما .
وإبداء ما في النفس : إظهاره ، وهو إعلانه بالقول ، فيما سبيله القول ، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل ؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك ، وعطف { أو تخفوه } للترقّي في الحساب عليه ، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف ، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات . وما في النفي يعمّ الخير والشر .
والمحاسبة مشتقّة من الحُسبان وهو العدّ ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة : يعُدُّه عليكم ، إلاّ أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى : { [ الشعراء : 113 ] وشاع هذا في اصطلاح الشرع ، ويوضّحه هنا قوله : { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } .
وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة : ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء ، فلا يقصّروا في اتّباع الخيرات النفيسة والعملية ، إلاّ أنّه أثبت غفراناً وتعذيباً بوجه الإجمال على كلَ ممَّا نُبديه وما نخفيه . وللعلماء في معنى هذه الآية ، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم " مَنْ هَمّ بسيئة فلم يعملها كتُبت له حسنة " . وقوله : " إن الله تجاوز لأمَّتِي عمّا حدثتْها به أنفُسها " وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض ، في شرحيهما « لصحيح مسلم » : وهو مع زيادة بيان أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطرِ وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به ، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه ، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها ، وإن كان قد جاش في النفس عَزم ، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أوْ لا ، فإن كان من الخواطر التي لا تترتَّب عليها أفعال : مثل الإيمان ، والكفر ، والحسد ، فلا خلاف في المؤاخذة به ؛ لأنَّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه ، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج ، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق ، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه ، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث " من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنةً " وإن رجع لمانعٍ قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان . أي إنّ قوله تعالى : { يحاسبكم به الله } محمول على معنى يجازيكم وأنّه مُجمل تُبَيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة ، وإنّ من سمَّى ذلك نسخاً من السلف فإنّما جرى على تسميةٍ سبقتْ ضَبطَ المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث ، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة ، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى : { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } .
وفي « صحيح البخاري » عن ابن عباس « أنّ هذه الآية نُسِخت بالتي بعدها » أي بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] كما سيأتي هنالك .
وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المُبْدَى والمُحْفَى ، كما هو بيّن .
وقرأ الجمهور : فيَغفرْ ويعذّب بالجزم ، عطفاً على يحاسِبْكم ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : بالرفع على الاستئناف بتقدير فهو يغفر ، وهم وجهان فصيحان ، ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ .
وقوله : { والله على كل شيء قدير } تذييل لما دلّ على عموم العلم ، بما يدلّ على عموم القدرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لِلّهِ مَا فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ}: لله ملك كل ما في السموات وما في الأرض من صغير وكبير، وإليه تدبير جميعه، وبيده صرفه وتقليبه، لا يخفى عليه منه شيء، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه. وإنما عنى بذلك جلّ ثناؤه: كتمان الشهود الشهادة، يقول: لا تكتموا الشهادة أيها الشهود، ومن يكتمها يفجر قلبه، ولن يخفى عليّ كتمانه، وذلك لأني بكل شيء عليم، وبيدي صرف كل شيء في السموات والأرض وملكه، أعلمه خفيّ ذلك وجلّيه، فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة. وعيدا من الله بذلك من كتمها وتخويفا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم، وبمن كان من نظرائهم ممن انطوى كشحا على معصية فأضمرها، أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه من المحاسبة عليها، فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ}: وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حقّ ربّ المال الجحود والإنكار، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم وغير ذلك من سيئ أعمالكم، {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}: يحتسب به عليكم من أعماله، فيجازي من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله، وغافر منكم لمن شاء من المسيئين.
ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}؛ فقال بعضهم بما قلنا من أنه عنى به الشهود في كتمانهم الشهادة، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية إعلاما من الله تبارك وتعالى عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه. ثم اختلف متأوّلو ذلك كذلك؛ فقال بعضهم: ثم نسخ الله ذلك بقوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}؛
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنَ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ} دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَمِعْنا وأطَعْنا وَسَلّمْنَا». قال: فألقى الله عزّ وجلّ الإيمان في قلوبهم، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: {آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ}. قال أبو كريب: فقرأ: {رَبّنَا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا} قال: فقال: «قد فعلت». {رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: «قد فعلت». {رَبّنا ولا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: «قد فعلت». {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: «قد فعلت».
وقال آخرون ممن قال معنى ذلك: «الإعلام من الله عز وجل عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعلموه». هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله عز وجل محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادوه، فيغفره للمؤمنين ويؤاخذ به أهل الكفر والنفاق... فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ} من شيء من الأعمال، فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تخفوه فتسرّوه في أنفسكم، فلم يطلع عليه أحد من خلقي، أحاسبكم به، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان، وأعذّب أهل الشرك والنفاق في ديني.
وأما على الرواية [الأخرى]، فإن تأويلها: إن تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي، أو تضمروا إرادته في أنفسكم، فتخفوه، يُعلمْكم به الله يوم القيامة، فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء.
وقال آخرون ممن قال: «هذه الآية محكمة وهي غير منسوخة» ووافقوا الذين قالوا: «معنى ذلك أن الله عزّ وجلّ أعلم عباده ما هو فاعل بهم فيما أبدوا وأخفوا من أعمالهم»: معناها: أن الله محاسب جميع خلقه بجميع ما أبدوا من سيئ أعمالهم، وجميع ما أسروه، ومعاقبهم عليه، غير أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب، والأمور التي يحزنون عليها ويألمون منها. وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: إنها محكمة وليست بمنسوخة، وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا ينفيه بآخر له ناف من كل وجوهه، وليس في قوله جلّ وعزّ: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} نفي الحكم الذي أعلم عباده بقوله: {أوْ تُخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبة، ولا مؤاخذة بما حوسب عليه العبد من ذنوبه، وقد أخبر الله عزّ وجلّ عن المجرمين أنهم حين تُعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة، يقولون: {يا وَيْلَتَنَا ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلاّ أحْصَاهَا} فأخبر أن كتبهم محصية عليهم صغائر أعمالهم وكبائرها، فلم تكن الكتب وإن أحصت صغائر الذنوب وكبائرها بموجب إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين، لأن الله عزّ وجلّ وعدهم العفو عن الصغائر باجتنابهم الكبائر، فقال في تنزيله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما} فدلّ أن محاسبة الله عباده المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم غير موجبة لهم منه عقوبة، بل محاسبته إياهم إن شاء الله عليها ليعرّفهم تفضله عليهم بعفوه لهم عنها كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي:
حدثني به أحمد بن المقدام، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن ابن عمر، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُدْنِي اللّهُ عَبْدَهُ المُؤمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرّرُهُ بِسَيّئَاتِهِ يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَقُولُ: سَتَرْتُها فِي الدّنْيَا وأغْفِرُها اليَوْمَ. ثُمّ يُظْهِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ، فَيَقُولُ: هاؤمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ» أو كما قال: «وأمّا الكَافِرُ، فَإِنّهُ يُنَادَى بِهِ عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ».
إن الله يفعل بعبده المؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله حتى يعرّفه تفضله عليه بعفوه له عنها، فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه، وبما أخفاه من ذلك، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرّمه عليه، فيستره عليه، وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين، فقال: يغفر لمن يشاء.
فإن قال قائل: فإن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير. قيل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله.
فإن قال: فإذا كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد الله عزّ وجلّ إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} إن كان {لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا، من همّ بذنب، أو إرادة لمعصية، لم تكتسبه جوارحنا؟ قيل له: إن الله جلّ ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما همّ به أحدهم من المعاصي فلم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها، وإنما الوعيد من الله عزّ وجلّ بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشكّ في الله، والمرية في وحدانيته، أو في نبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله، أو في المعاد والبعث من المنافقين، على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد، ومن قال بمثل قولهما أن تأويل قوله: {أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} على الشكّ واليقين. غير أنا نقول إن المتوعد بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشكّ والمرية في الله، وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا، والموعود الغفران بقوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ} هو الذي أخفى، وما يخفيه الهمة بالتقدّم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداء تحليله وإباحته، فحرّمه على خلقه جلّ ثناؤه، أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله مما كان جائزا ابتداء إباحة تركه، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي يهمّ بذلك من المؤمنين إذا هو لم يصحح همه بما يهمّ به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بالتقدم عليه لم يكن مأخوذا، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها لَمْ تُكْتُبْ عَلَيْهِ»، فهذا الذي وصفنا، هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ثم لا يعاقبهم عليه.
فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوّة أنبيائه، فذلك هو الهالك المخلد في النار، الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ}.
فتأويل الآية إذا: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ} أيها الناس، فتظهروه {أوْ تُخْفُوهُ} فتنطوي عليه نفوسكم، {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فيعرّف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه، ومغفرته له، فيغفره له، ويعذّب منافقكم على الشكّ الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوّة أنبيائه.
{وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: والله عزّ وجلّ على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشكّ في توحيد الله عزّ وجلّ، ونبوّة أنبيائه، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه، وعلى غير ذلك من الأمور قادرٌ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} من استدل على نسخها [استدل] بقوله {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} لكنه لا يحتمل [لأن الآية في] وعد وخبر بالمحاسبة، والوعد لا يحتمل النسخ لأنه خلف وبداء، وذلك ممن يجهل بالعواقب. تعالى الله عز وجلا عن ذلك علوا كبيرا... ويحتمل أن يكون على التقديم والتأخير: إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يحاسبكم به الله، ويحتمل أيضا: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} وعزمتم عليه، واعتقدتم، لا على الخطر فيه أو حديث النفس أو ما روي: (من هم بحسنة) فله كذا، (ومن هم بسيئة) [مسلم 128] [فله كذا] ليس على ما يخطر فيه أو حديث النفس على ما روي، وتحدث النفس به، ولكن على العزم والاعتقاد، وكذلك قوله: {ولقد همت به وهم بها} [يوسف: 24]؛ همت هي به، هم: عزم، وهو هم بها؛ هم: خطر، والمرء غير مؤاخذ بما يخطر في القلب، وتحدث النفس به، إنما يؤاخذ على ما عزم، واعتقد...
{فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فيه دليل لما قلنا: إنه على العزم والاعتقاد عليه لما ذكرنا من العفو والعقوبة عليه
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
معنى الآية أن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه، ويعاقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها، وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال:"يا عائشة، هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة، حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه، فيفقدها، فيروع لها، حتى يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير"...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} يعني من السوء يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمره {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ} ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان: الوساوس وحديث النفس، لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه تلاها فقال: لئن آخذنا الله بهذا لنهلكنّ، ثم بكى حتى سمع نشيجه فذكر لابن عباس فقال: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد، فنزل {لاَ يُكَلّفُ الله...}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} معناه أن الأمر سواء، لا تنفع فيه المواراة والكتم، بل يعلمه ويحاسب عليه، وقوله: {في أنفسكم} تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز... والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هو أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب...
ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى، أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء، إذ ما ذكر جزء منها.
في كيفية النظم وجوه الأول: قال الأصم: إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول، وهو دليل التوحيد والنبوة، وأشياء كثيرة من علم الأصول ببيان الشرائع والتكاليف، وهي في الصلاة، والزكاة، والقصاص، والصوم، والحج، والجهاد، والحيض، والطلاق، والعدة، والصداق، والخلع، والإيلاء، والرضاع، والبيع، والربا، وكيفية المداينة ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآية على سبيل التهديد...
وأقول إنه قد ثبت أن الصفات التي هي كمالات حقيقية ليست إلا القدرة والعلم، فعبر سبحانه عن كمال القدرة بقوله {لله ما في السماوات وما في الأرض} ملكا وملكا، وعبر عن كمال العلم المحيط بالكليات والجزئيات بقوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} وإذا حصل كمال القدرة والعلم، فكان كل من في السماوات والأرض عبيدا مربوبين وجدوا بتخليقه وتكوينه كان ذلك غاية الوعد للمطيعين، ونهاية الوعيد للمذنبين، فلهذا السبب ختم الله هذه السورة بهذه الآية...
والوجه الثاني: في كيفية النظم، قال أبو مسلم: إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة {والله بما تعملون عليم} [البقرة: 283] ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال: {لله ما في السماوات وما في الأرض} ومعنى هذا الملك أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه ومن كان فاعلا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد وأن يكون عالما بها إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به، فكان الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض مع ما فيهما من وجوه الإحكام والإتقان على كونه تعالى عالما بها محيطا بأجزائها وجزئياتها...
الوجه الثالث: في كيفية النظم، قال القاضي: إنه تعالى لما أمر بهذه الوثائق أعني الكتبة والإشهاد والرهن، فكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال، والاحتياط في حفظها بين الله تعالى أنه إنما المقصود لمنفعة ترجع إلى الخلق لا لمنفعة تعود إليه سبحانه منها فإنه له ملك السماوات والأرض...
الوجه الرابع: قال الشعبي وعكرمة ومجاهد: إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه بين أنه له ملك السماوات والأرض فيجازي على الكتمان والإظهار...
{فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب، والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب، وقوله {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} رفع للقطع واحد من الأمرين، فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيبا للمؤمن يرثه المذنب بأعماله. ثم قال: {والله على كل شيء قدير} وقد بين بقوله {لله ما في السماوات وما في الأرض} أنه كامل الملك والملكوت، وبين بقوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} أنه كامل العلم والإحاطة، ثم بين بقوله {والله على كل شيء قدير} أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبدا منقادا له، خاضعا لأوامره ونواهيه محترزا عن سخطه ونواهيه، وبالله التوفيق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر عن سعة علمه دل عليه بسعة ملكه المستلزم لسعة قدرته ليدل ذلك على جميع الكمال لأنه قد ثبت كما قال الأصبهاني إن الصفات التي هي كمالات حقيقة ليست إلا القدرة والعلم المحيط فقال واعداً للمطيع متوعداً للعاصي مصرحاً بأن أفعال العباد وغيرها مخلوق له.
وقال الحرالي: ولما كان أول السورة إظهار كتاب التقدير في الذكر الأول كان ختمها إبداء أثر ذلك الكتاب الأول في الأعمال والجزاء التي هي الغاية في ابتداء أمر التقدير فوقع الختم بأنه سلب الخلق ما في أيديهم مما أبدوه وما أخفوه من أهل السماوات و الأرض... فقال: {لله} أي الملك الأعظم. ولما كانت ما ترد لمن يغفل وكان أغلب الموجودات والجمادات عبر بها فقال: {ما في السماوات} أي كله على علوها واتساعها من ملك وغيره {وما في الأرض} مما تنفقونه وغيره من عاقل وغيره، يأمر فيهما ومنهما بما يشاء وينهى عما يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويضاعف لمن يشاء...
قال الحرالي: وفي ضمن هذا الخطاب لأولي الفهم إنباء بأن الله سبحانه وتعالى إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل حيث لم يكن فيحاسبكم مثلاً فقد أعظم اللطف به، لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حيث يكفر عنه بالشوكة يُشاكها حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من ذنوبه وفراغ من حسابه كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف فلا يتسخ ولا يدرن ولا يزال نظيفاً...
ولما أخبر سبحانه وتعالى بهذا أنه مطلق التصرف ختم الكلام دلالة على ذلك بقوله مصرحاً بما لزم تمام علمه من كمال قدرته: {والله} أي الذي لا أمر لأحد معه {على كل شيء قدير} أي ليس هو كملوك الدنيا يحال بينهم وبين بعض ما يريدون بالشفاعة وغيرها. قال الحرالي: فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
جعل بعض المفسرين قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} بمثابة الدليل على ما قبله. وقال الأستاذ الإمام: الآية متصلة بقوله تعالى: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم} ويصح أن تكون متممة لها لأن مقتضى كونه عليما بكل شيء أن له كل شيء. فهذا كالدليل على كونه عالما بكل شيء أي أنه عليم به. لأنه له وهو خالقه، فهو كقوله: {ألا يعلم من خلق}. وبهذا الاستدلال يتقرر النهي عن كتم الشهادة وكونه إثما يعاقب عليه وأكده بقوله: {وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} لدخول كتمان الشهادة في عموم ما في النفس...
قال: والمراد بقوله "ما في أنفسكم "الأشياء الثابتة في أنفسكم وتصدر عنها أعمالكم كالحقد والحسد وألفة المنكرات التي يترتب عليها ترك النهي عن المنكر، فإن السكوت عن النهي أمر كبير يحل الله عقوبته في الأمة بسببه وليس هو مجرد اتفاق السكوت، وإنما هو اعتبار سببه في النفس، وهو ألفة المنكر والأنس به. وللإنسان عمل اختياري في نفسه هو الذي يحاسب عليه. نعم إن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون له فيها تعمّل، ولكنه إذا مضى معها واسترسل تحسب عليه عملا يجازى عليه لأنه سايرها مختارا وكان يقدر على مطاردتها وجهادها. وسواء [أكانت] هذه الخواطر والهواجس صادرة عن ملكة في النفس تثيرها [أم] عن شيء لا يدخل في حيز الملكة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، فكانوا ملكا له وعبيدا، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه، {فيغفر لمن يشاء} وهو لمن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره {والله على كل شيء قدير} لا يعجزه شيء، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت، المجازي عليها، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب! {لله ما في السماوات وما في الأرض. وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير}. وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة، بذلك الرباط الوثيق، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء. فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية.. وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم.. وهي والتشريع في الإسلام متكاملان. فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له. صنعة إلهية متكاملة متناسقة. تربية وتشريع. وتقوى وسلطان.. ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان. فأنى تذهب شرائع الأرض، وقوانين الأرض، ومناهج الأرض؟ أنى تذهب نظرة إنسان قاصر، محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، يتقلب هواه هنا وهناك، فلا يستقر على حال، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي، ولا على رؤية، ولا على إدراك؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها. ربها الذي خلق، والذي يعلم من خلق، والذي يعلم ما يصلح لخلقه، في كل حالة وفي كل آن؟ ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه. الشقوة التي بدأت في الغرب هربا من الكنيسة الطاغية الباغية هناك؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر.. فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها. ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله.. وكانت الشقوة وكان البلاء!! فأما نحن -نحن الذين نزعم الإسلام- فما بالنا؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال، ويحط عنا الأثقال، ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تعليل واستدلال على مضمون جملة {والله بما تعملون عليم} وعلى ما تقدم آنفاً من نحو: {الله بكل شيء عليم} [آل عمران: 176] {واللَّه بما تعملون عليم واللَّه بما تعملون بصير} [الممتحنة: 30] {واللَّه بما تعملون خبير} [البقرة: 234] فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه، فجملة {وإن تبدوا ما في أنفسكم} إلى آخرها هي محطُّ التصريح، وهي المقصود بالكلام، وهي معطوفة على جملة {ولا تكتموا الشهادة – إلى- والله بما تعملون عليم} [البقرة: 283] وجملةُ {لله ما في السموات وما في الأرض} هي موقع الاستدلال، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين، أو علة لجملة {والله بما تعملون عليم} باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى: إنّكم عبيده فلا يفوته عملَكُم والجزاء عليه.
وعلى هذا الوجه تكون جملة « وإن تبدوا ما في أنفسكم» معطوفة على جملة {لله ما في السموات وما في الأرض} عطف جملة على جملة، والمعنى: إنكم عبيدُه، وهو محاسبكم، ونظيرُها في المعنى قوله تعالى: {وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق} [الملك: 13، 14] ولا يخالف بينهما إلاّ أسلوب نظم الكلام.
ومعنى الاستدلال هنا: إنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض، وخالق الخلق، فإذا كان في السموات والأرض لِلَّه، مخلوقاً له، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنَّه مكوِّن ضمائرِهم وخواطرهم، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية؛ لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه. ومالكيةُ الله تعالى أتَمّ أنواع الملك على الحَقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوبُ الوجود من صفات الكمال. فقوله: {لله ما في السموات وما في الأرض} تمهيد لقوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية.
وعُطف قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمَّنه مقصود بالذات، وأنّ ما قبله كالتمهيد له. ويجوز أن يكون قوله: {وإن تبدوا} عطفاً على قوله: {والله بما تعملون عليم} [البقرة: 283] ويكون قوله: {لله ما في السموات وما في الأرض} اعتراضاً بينهما.
وإبداء ما في النفس: إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف {أو تخفوه} للترقّي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات. وما في النفي يعمّ الخير والشر.
والمحاسبة مشتقّة من الحُسبان وهو العدّ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة: يعُدُّه عليكم، إلاّ أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى: { [الشعراء: 113] وشاع هذا في اصطلاح الشرع، ويوضّحه هنا قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}. وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة: ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء، فلا يقصّروا في اتّباع الخيرات النفيسة والعملية، إلاّ أنّه أثبت غفراناً وتعذيباً بوجه الإجمال على كلَ ممَّا نُبديه وما نخفيه. وللعلماء في معنى هذه الآية، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ هَمّ بسيئة فلم يعملها كتُبت له حسنة". وقوله: "إن الله تجاوز لأمَّتِي عمّا حدثتْها به أنفُسها "وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما « لصحيح مسلم»: وهو مع زيادة بيان أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطرِ وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عَزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أوْ لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتَّب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأنَّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث" من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنةً "وإن رجع لمانعٍ قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان. أي إنّ قوله تعالى: {يحاسبكم به الله} محمول على معنى يجازيكم وأنّه مُجمل تُبَيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة، وإنّ من سمَّى ذلك نسخاً من السلف فإنّما جرى على تسميةٍ سبقتْ ضَبطَ المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}.
وفي « صحيح البخاري» عن ابن عباس « أنّ هذه الآية نُسِخت بالتي بعدها» أي بقوله: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]...
وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المُبْدَى والمُخفَى، كما هو بيّن...
{والله على كل شيء قدير} تذييل لما دلّ على عموم العلم، بما يدلّ على عموم القدرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذه الجملة السامية بيان لشمول ملك الله سبحانه وتعالى، وفي ذكر هذا الشمول بعد الآيات التي بينت أحكام الأموال ببيان مصارف البر، ومواضع التحريم، وطرق التعامل، وما يوجد الثقة، إشارة إلى معان عامة وخاصة: أما العامة فهي بيان أن ما في يد الإنسان عارية مستردة، وأن المالك في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فلا يغتر ذو مال بماله، ولا تذهب به النهمة إلى طلبه من غير حلال، فإن يده زائلة عنه لا محالة، وعليه أن يجمل في الطلب، وأن ينتهز فرصة وجود المال بين يديه ليكثر من البر وفعل الخير، فهو الباقي والدائم، وأنه سبحانه وتعالى المسيطر على كل شيء المعطي الوهاب، فهو الذي أعطى ذا المال وبسط له الرزق، وهو الذي قدر رزق الفقير، فليس لغني أن يعتز بغناه، ولا ذي فقر أن يذل لفقره، فالعزة لله وحده، والخضوع له وحده؛ وإنه سبحانه إذا كان المالك لكل ما في السماوات والأرض، فله وحده العقاب والثواب، وليس لأحد من عباده إلا ما ينعم به عليه من نعم...
قال سبحانه: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} في هذا النص الكريم يبين سبحانه أنه يعلم السر والعلن، ما ظهر وما بطن، وأنه يعلم حركات النفس وما تصر عليه وما تعزمه من فعل، سواء أعلنته أم لم تعلنه، وإن هذا النص كما يفيد علم الله بما ظهر وما بطن من أعمال النفوس، يفيد بصريحه أنه يحاسب الإنسان على النيات وما تكسبه القلوب، سواء أأخفاه الشخص أم أظهره، فما تكسبه القلوب موضع مؤاخذة بهذا النص، وقد قال تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم... 225} (البقرة) ولكن قد اعترض على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به"...
{والله على كل شيء قدير} هذا ختام الآية الكريمة، وهو في بيان شمول قدرة الله تعالى وعموم إرادته سبحانه، فهو القادر على الثواب والعقاب، وهو القاهر فوق عباده، ولا سلطان فوق سلطانه، وهو الذي يلهم التوفيق لمن كتب له التوفيق، وهو الذي يترك من يقع في غواية الشيطان، وهو الذي يسهل التوبة لمن يتوب، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، فالإنسان وما يملك، وخواطره، وهواجسه، وأحاسيسه، ونياته، واعتزاماته؛ كل ذلك تحت سلطان القادر وقوة القاهر...
استهلت الآية بتقديم (لله) على ما في السماوات والأرض، والحق سبحانه يقول: (لله ما في السماوات وما في الأرض) ذلك هو الظرف الكائنة فيه المخلوقات، السماوات والأرض لم يدع أحد أنها له، لكن قد يوجد في السماوات أو في الأرض أشياء يدّعي ملكيتها المخلوقون، فإذا ما نظرنا إلى خيرات الأرض فإننا نجدها مملوكة في بعض الأحيان لأناس بما ملكهم الله، والبشر الذين صعدوا إلى السماء وأداروا في جوها ما أداروا من أقمار صناعية ومراكب فضائية فمن الممكن أن يعلنوا ملكيتهم لهذه الأقمار وتلك المراكب. ويلفتنا الحق سبحانه هنا بقوله: (لله ما في السماوات وما في الأرض) وهو يوضح لنا: إنه إن كان في ظاهر الأمر أن الله قد أعطى ملكية السببية لخلقه فهو لم يعط هذه الملكية إلا عرَضاً يؤخذ منهم، فإما أن يزولوا عنه فيموتوا، وإما أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن بيع أو هبة أو غصب أو نهب...
وكلمة (لله) تفيد الاختصاص، وتفيد القصر، فكل ما في الوجود أمره إلى الله، ولا يدّعي أحد بسببية ما آتاه الله أنه يملك شيئا لماذا؟ لأن المالك من البشر لا يملك نفسه أن يدوم...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: محاسبة العبد بما يخفي في نفسه من الشك والشرك والنفاق وغير ذلك من بغض أولياء الله وحب لأعدائه، ومؤاخذته بذلك، والعفو عن الهمّ بالخطيئة والذنب دون الشك والشرك والحب والبغض من المؤمن الصادق الإيمان للحديث الصحيح الذي أخرجه الستة:"إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل"...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه في الحقيقة تكملة للجملة الأخيرة في الآية السابقة وتقول: {لله ما في السموات وما في الأرض}
ولهذا السبب فهو يعلم جميع أفعال الإنسان الظاهريّة منها والباطنيّة {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}. يعني لا ينبغي لكم أن تتصوروا أعمالكم الباطنيّة مثل كتمان الشهادة والذنوب القلبيّة الأخرى سوف تخفى على الله تعالى الحاكم على الكون بأجمعه والمالك للسموات والأرض، فإنّه لا يخفى عليه شيء، فلا عجب إذا قيل أنّ الله تعالى يحاسبكم على ذنوبكم القلبيّة ويجازيكم عليها {فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء}. ويحتمل أيضاً أنّ الآية أعلاه تشير إلى جميع الأحكام المذكورة في الآيات السابقة من قبيل الإنفاق الخالص والإنفاق المشوب بالرياء أو المنّة والأذى وكذلك الصلاة والصوم وسائر الأحكام الشرعيّة والعقائد القلبيّة.
في ختام الآية تقول.: {والله على كلّ شيء قدير} فهو عالمٌ بكل شيء يجري في هذا العالم، وقادرٌ أيضاً على تشخيص اللّياقات والملكات، وقادرٌ أيضاً على مجازات المتخلّفين...