{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ }
يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق ، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة ، وقوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : لا يحصل منهم المراد المحبوب لله ، إلا بإرادة من الله ومعونة ، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم .
سورة إبراهيم مكية وآياتها ثنتان وخمسون .
هذه السورة - سورة إبراهيم - مكية ، موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكية الغالب : العقيدة في أصولها الكبيرة : الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء .
ولكن السياق في السورة يسلك نهجا خاصا بها في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصيلة . نهجا مفردا يميزها - كالشأن في كل سورة قرآنية - عن السور غيرها . يميزها بجوها وطريقة أدائها ، والأضواء والظلال الخاصة التي تعرض فيها حقائقها الكبرى . ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى ؛ ولكنها تعرض من زاوية خاصة ، في أضواء خاصة فتوحي إيحاءات خاصة . كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوها ، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا ، فيحسها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد في " اللقطات الفنية " . ونحن نستعمل هذا التعبير " اللقطات الفنية " لأنه يلاحظ في صورته المعجزة في طريقة الأداء القرآنية !
ويبدو أنه كان لجو السورة من اسمها نصيب . . إبراهيم . . أبو الأنبياء . . المبارك ، الشاكر الأواه المنيب . وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جو السورة ، وفي الحقائق التي تبرزها ، وفي طريقة الأداء ، وفي التعبير والإيقاع .
ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية في العقيدة . ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها . وهما الحقيقتان المتناسقتان مع ظل إبراهيم في جو السورة : حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمان . وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ؛ ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران . .
وبروز هاتين الحقيقتين ، أو هذين الظلين . لا ينفي أن هناك حقائق أخرى في سياق السورة . ولكن هاتين الحقيقتين تظللان جو السورة . وهذا ما أردنا الإشارة إليه :
تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب . . فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله :
( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) .
وتختم بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة . حقيقة التوحيد :
( هذا بلاغ للناس ولينذروا به ، وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولو الألباب ) .
وفي أثنائها يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد [ ص ] ولمثل ما أرسل به ، حتى في ألفاظ التعبير :
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) . .
ويذكر كذلك أن وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان :
( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) . . .
وتتضمن إلى جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية ، وهي التي تحدد وظيفته . فهو مبلغ ومنذر وناصح ومبين . ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن الله ، وحين يشاء الله ، لا حين يشاء هو أو قومه ؛ ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم ، فالهدى والضلال متعلقان بسنة الله التي اقتضتها مشيئته المطلقة .
ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم ، والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين :
( قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين ) .
( قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده . وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله . وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) .
ويتضمن السياق كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم ( بإذن ربهم ) . . وكل رسول يبين لقومه ( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ، وهو العزيز الحكيم ) .
وبهذا وذلك تتحدد حقيقة الرسول ، فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة ، ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم ، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها . وكذلك يتجرد توحيد الله بلا ظل من مماثلة أو مشابهة .
كذلك تتضمن السورة تحقق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا . تحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف ، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين .
يصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا :
( وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد . . واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . . ) .
ويصورها في مشاهد القيامة في الآخرة :
( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ) . .
( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) . .
ويصورها في الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء :
( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ؛ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثتمن فوق الأرض ما لها من قرار . يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ويضل الله الظالمين ، ويفعل الله ما يشاء ) . .
( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، لا يقدرون مما كسبوا على شيء . ذلك هو الضلال البعيد ) . .
فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة ، وتتسقان مع ظل إبراهيم : أبي الأنبياء . الشكور الأواه المنيب ، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة . وحقيقة نعمة الله على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة . . فنفردهما هنا بالحديث .
فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء . لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول ، فيقول كلمته لقومه ويمضي ، ثم يجيء رسول ورسول . كلهم يقولون الكلمة ذاتها ، ويلقون الرد ذاته ، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا ، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب . ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد ، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى . وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود .
فأما سورة إبراهيم - أبي الأنبياء - فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف . وتجري المعركة بينهم في الأرض ، ثم لا تنتهي هنا ، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب !
ونبصر فنشهد أمة الرسل ، وأمة الجاهلية ، في صعيد واحد ، على تباعد الزمان والمكان . فالزمان والمكان عرضان زائلان ، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون - حقيقة الإيمان والكفر - فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان :
ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود . والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله . جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب . قالت رسلهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى ؟ قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا ، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين . قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرن على ما آذيتمونا . وعلى الله فليتوكل المتوكلون . وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا . فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .
( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ، يتجرعه ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الموت من كل مكان ، وما هو بميت ، ومن ورائه عذاب غليظ ) . .
فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ؛ ويتلاشى الزمان والمكان ؛ وتبرز الحقيقة الكبرى : حقيقة الرسالة وهي واحدة . واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة . وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة . وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة . وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة . وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة . . وذلك إلى التماثل بين قول الله لمحمد [ ص ] :
( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) .
وحكاية قوله لموسى - عليه السلام - :
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) .
ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة . فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة . وهذه نماذج منها :
( وبرزوا لله جميعا ، فقال الضعفاء للذين استكبروا : إنا كنا لكم تبعا ، فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ؟ قالوا : لو هدانا الله لهديناكم ، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص . وقال الشيطان لما قضي الأمر : إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان ، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ، إني كفرت بما أشركتمون من قبل ، إن الظالمين لهم عذاب أليم . . وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم ، تحيتهم فيها سلام ) . .
( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ) . .
( وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله . إن الله عزيز ذو انتقام . يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، وبرزوا لله الواحد القهار ، وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد . سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) . . .
وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال .
وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين ، ونتائجها الأخيرة : مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة : شجرة النبوة ، وشجرة الإيمان ، وشجرة الخير . والكلمة الخبيثة : كالشجرة الخبيثة : شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان .
وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله ، وتتناثر في سياقها .
يعدد الله نعمه على البشر كافة ، مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، برهم وفاجرهم ، طائعهم وعاصيهم . وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمة في هذه الأرض ، كالمؤمن والبار والطائع : لعلهم يشكرون . ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها ، ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة :
( الله الذي خلق السماوات والأرض ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ؛ وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لكم الأنهار . وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ، وسخر لكم الليل والنهار . وآتاكم من كل ما سألتموه ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . إن الإنسان لظلوم كفار ) . .
وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها :
( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) . .
والنور أجل نعم الله في الوجود . والنور هنا هو النور الأكبر . النور الذي يشرق به كيان الإنسان ، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه . . وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه . ووظيفة الرسل كما بينتها السورة .
( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) . .
والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور ، وهي منه قريب . .
وفي جو الحديث عن النعمة يذكر موسى قومه بأنعم الله عليهم :
( وإذ قال موسى لقومه : اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .
وفي هذا الجو يذكر وعد الله للرسل :
( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) . .
وهي نعمة من نعم الله الكثار الكبار .
ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر :
( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) . .
مع بيان أن الله غني عن الشكر وعن الشاكرين :
( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) .
ويقرر السياق أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر :
( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) . .
ولكن الذين يتدبرون آيات الله ، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء :
( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) .
ويمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع ، وفي دعاء واجف ، عند بيت الله الحرام ، كله حمد وشكر وصبر ودعاء .
( وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ، فمن تبعني فإنه مني ، ومن عصاني فإنك غفور رحيم . ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم . ربنا ليقيموا الصلاة ، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء . الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء . رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ، ربنا وتقبل دعاء ، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) . .
ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها تطبع جو السورة تجيء التعبيرات والتعليقات فيها متناسقة مع هذا الجو :
( وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) . .
( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) . .
( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) . .
( اذكروا نعمة الله عليكم ) . .
( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) . .
وفي رد الأنبياء على اعتراض المكذبين بأنهم بشر يجيء :
( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) . .
فيبرز منة الله تنسيقا للرد مع جو السورة كله . جو النعمة والمنة والشكر والكفران . .
وهكذا يتساوق التعبير اللفظي مع ظلال الجو العام في السورة كلها على طريقة التناسق الفني في القرآن . .
وتنقسم السورة إلى مقطعين متماسكي الحلقات :
المقطع الأول يتضمن بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول . ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا وفي الآخرة ، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة .
والمقطع الثاني يتحدث عن نعم الله على البشر ، والذين كفروا بهذه النعمة وبطروا . والذين آمنوا بها وشكروا ونموذجهم الأول هو إبراهيم . ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها ، وأحفلها بالحركة والحياة . . ليختم السورة ختاما يتسق مع مطلعها :
هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولو الألباب . .
فلنأخذ في السير مع المقطع الأول في السياق :
( ألر . كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد . الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وويل للكافرين من عذاب شديد . الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، أولئك في ضلال بعيد . وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فيضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وهو العزيز الحكيم ) . .
ألف لام . را . . ( كتاب أنزلناه إليك ) . .
هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف كتاب أنزلناه إليك . لم تنشئه أنت . أنزلناه إليك لغاية :
( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) . .
لتخرج هذه البشرية من الظلمات . ظلمات الوهم والخرافة . وظلمات الأوضاع والتقاليد . وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة ، وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين . . لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور . النور الذي يكشف هذه الظلمات . يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير . ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد .
والإيمان بالله نور يشرق في القلب ، فيشرق به هذا الكيان البشري ، المركب من الطينة الغليظة ومن نفخة روح الله . فإذا ما خلا من إشراق هذه النفخة ، وإذا ما طمست فيه هذه الإشراقة استحال طينة معتمة . طينة من لحم ودم كالبهيمة ، فاللحم والدم وحدهما من جنس طينة الأرض ومادتها . لولا تلك الإشراقة التي تنتفض فيه من روح الله ، يرقرقها الإيمان ويجلوها ، ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم ، ويشف بها هذا الكيان المعتم .
والإيمان بالله نور تشرق به النفس ، فترى الطريق . ترى الطريق واضحة إلى الله ، لا يشوبها غبش ولا يحجبها ضباب . غبش الأوهام وضباب الخرافات . أو غبش الشهوات وضباب الأطماع . ومتى رأت الطريق سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب ولا تتردد ولا تحتار .
والإيمان بالله نور تشرق به الحياة . فإذا الناس كلهم عباد متساوون . تربط بينهم آصرتهم في الله وتتمحض دينونتهم له دون سواه ، فلا ينقسمون إلى عبيد وطغاة . وتربطهم بالكون كله رابطة المعرفة . معرفة الناموس المسير لهذا الكون وما فيه ومن فيه . فإذا هم في سلام مع الكون وما فيه ومن فيه .
والإيمان بالله نور . نور العدل . ونور الحرية . ونور المعرفة . ونور الأنس بجوار الله ، والاطمئنان إلى عدله ورحمته وحكمته في السراء والضراء . ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في الضراء والشكر في السراء على نور من إدراك الحكمة في البلاء .
والإيمان بالله وحده إلها وربا ، منهج حياة كامل لا مجرد عقيدة تغمر الضمير وتسكب فيه النور . . منهج حياة يقوم على قاعدة العبودية لله وحده ، والدينونة لربوبيته وحده ، والتخلص من ربوبيات العبيد ، والاستعلاء على حاكمية العبيد . .
وفي هذا المنهج من المواءمة مع الفطرة البشرية ، ومع الحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ، ما يملأ الحياة سعادة ونور وطمأنينة وراحة . كما أن فيه من الاستقرار والثبات عاصما من التقلبات والتخبطات التي تتعرض لها المجتمعات التي تخضع لربوبية العبيد ، وحاكمية العبيد ، ومناهج العبيد في السياسة والحكم وفي الاقتصاد والاجتماع ، وفي الخلق والسلوك ، وفي العادات والتقاليد . . وذلك فوق صيانة هذا المنهج للطاقة البشرية أن تبذل في تأليه العبيد ، والطبل والزمر للطواغيت ! ! !
وإن وراء هذا التعبير القصير : ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . )لآفاقا بعيدة لحقائق ضخمة عميقة في عالم العقل والقلب . وفي عالم الحياة والواقع ، لا يبلغها التعبير البشري ولكنه يشير !
( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . بإذن ربهم ) . .
فليس في قدرة الرسول إلا البلاغ ، وليس من وظيفته إلا البيان . أما إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فإنما يتحقق بإذن الله ، وفق سنته التي ارتضتها مشيئته ، وما الرسول إلا رسول !
( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ) . . ( إلى صراط العزيز الحميد ) . .
فالصراط بدل من النور . وصراط الله : طريقه ، وسنته ، وناموسه الذي يحكم الوجود وشريعته التي تحكم الحياة . والنور يهدي إلى هذا الصراط ، أو النور هو الصراط . وهو أقوى في المعنى . فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون . هو السنة . هو الناموس . هو الشريعة . والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطيء الإدراك ولا تخطيء التصور ولا تخطيء السلوك . فهي على صراط مستقيم . . ( صراط العزيز الحميد ) . . مالك القوة القاهر المسيطر المحمود المشكور .
والقوة تبرز هنا لتهديد من يكفرون ، والحمد يبرز لتذكير من يشكرون .
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى : { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
قال أبو جعفر الطبري : قد تقدم منا البيان عن معنى قوله : الر فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ فإن معناه : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد يعني القرآن ، لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ يقول : لتهديهم به من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه ، وتبصّر به أهل الجهل والعمّى سبل الرشاد والهُدى .
وقوله : بإذْنِ رَبّهِمْ يعني : بتوفيق ربهم لهم بذلك ولطفه بهم . إلى صراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ يعني : إلى طريق الله المستقيم ، وهو دينه الذي ارتضاه وشرعه لخلقه . والحميد : فعيل ، صُرف من مفعول إلى فعيل ، ومعناه : المحمود بآلائه ، وأضاف تعالى ذكره إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم لهم بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو الهادي خلقه والموفّق من أحبّ منهم للإيمان ، إذ كان منه دعاؤهم إليه ، وتعريفهم ما لهم فيه وعليهم ، فبين بذلك صحة قول أهل الإثبات الذين أضافوا أفعال العباد إليهم كسبا ، وإلى الله جلّ ثناؤه إنشاءً وتدبيرا ، وفساد قول أهل القدر الذين أنكروا أن يكون لله في ذلك صنع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ : أي من الضلالة إلى الهُدى .
{ آلر كتاب } أي هو كتاب . { أنزلناه إليك لتُخرج الناس } بدعائك إياهم إلى ما تضمنه . { من الظلمات } من أنواع الضلال . { إلى النور } إلى الهدى . { بإذن ربهم } بتوفيقه وتسهيله مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وهو صلة { لتخرج } أو حال من فاعله أو مفعوله . { إلى صراط العزيز الحميد } بدل من قوله : { إلى النور } بتكرير العامل أو استئناف على أنه جواب لمن يسأل عنه ، وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له وتخصيص الوصفين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه ولا يخيب سابله .
هذه السورة مكية إلا آيتين{[1]} ، وهي{[2]} قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا } إلى آخر الآيتين ، ذكره مكي ، والنقاش .
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور والاختلاف في ذلك .
و { كتاب } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب ، وهذا على أكثر الأقوال في الحروف المقطعة ، وأما من قال فيها ، إنها كناية عن حروف المعجم ، ف { كتاب } مرتفع بقوله : { الر } أي هذه الحروف كتاب أنزلناه إليك{[6994]} وقوله : { أنزلناه } في موضع الصفة للكتاب .
قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما : إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه السلام من الكلام .
وقوله : { لتخرج } أسند الإخراج إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث له فيه المشاركة بالدعاء والإنذار ، وحقيقته إنما هي لله تعالى بالاختراع والهداية . وفي هذه اللفظة تشريف للنبي عليه السلام .
وعم { الناس } إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق ، ثبت ذلك بآيات القرآن التي اقترن بها ما نقل تواتراً من دعوته العالم كله ، ومن بعثته إلى الأحمر والأسود علم الصحابة ذلك مشاهدة ، ونقل عنهم تواتراً ، فعلم قطعاً والحمد لله .
واستعير { الظلمات } للكفر ، و { النور } للإيمان ، تشبيهاً .
وقوله : { بإذن ربهم } ، أي بعلمه وقضائه به وتمكينه لهم . .
و { إلى } في قوله : { إلى صراط } بدل من الأولى في قوله : { إلى النور }{[6995]} أي إلى المحجة المؤدية إلى طاعة الله وللإيمان به ورحمته ، فأضافها إلى الله بهذه التعلقات .
و { العزيز الحميد } صفتان لائقتان بهذا الموضع ، فالعزة من حيث الإنزال للكتاب ، وما في ضمن ذلك من القدرة ، واستيجاب الحمد من جهة بث هذه النعم على العالم في نصب هدايتهم .
أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم عليه السلام فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره . ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول .
ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم عليه السلام جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات { ألر } . وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء عليهم السلام التي جاءت قصصهم فيها ، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر ، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء .
وهي مكية كلها عند الجمهور . وعن قتادة إلا آيتي { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } إلى قوله { وبئس القرار } ، وقيل : إلى قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . نزل ذلك في المشركين في قضية بدر ، وليس ذلك إلا توهما كما ستعرفه .
نزلت هذه السور بعد سورة الشورى وقبل سورة الأنبياء . وقد عدت السبعين في ترتيب السور في النزول .
وعدت آياتها أربعا وخمسين عند المدنين وخمسين عند أهل الشام ، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة . واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة .
واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن ، وبالتنويه بشأنه ، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة . والامتنان بأن جعله بلسان العرب . وتمجيد الله تعالى الذي أنزله .
ووعيد الذين كفروا به بمن أنزل عليه .
وإيقاظ المعاندين بأن محمد صلى الله عليه وسلم ما كان بدعا من الرسل . وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل . وضرب له مثلا برسالة موسى عليه السلام إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل .
وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها .
وموعظته إياهم بما حل بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب .
وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته .
وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان .
ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ .
وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر .
ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك .
والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين .
وعد بعض نعمة على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا .
ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم عليه السلام ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيم عليه السلام ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام .
وإنذارهم أن يحل بالذين ظلموا من قبل .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بوعد النصر .
وختمت بكلمات جامعة من قوله { هذا بلاغ للناس } إلى آخرها .
{ ألر } تقدم الكلام على الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس .
تقدم الكلام عى الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس .
{ كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد }
الكلام على تركيب { الر كتاب أنزلته إليك } كالكلام على قوله تعالى : { ألمص كتاب أنزل إليك } [ سورة الأعراف : 1 2 ] عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي ، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف ، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز ؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله : لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } ، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله : { بإذن ربهم } ، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبيء عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب ، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز .
أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه ، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة ، كما دل عليه قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } ، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبيء صلى الله عليه وسلم .
ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله : { بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } بعد أن كان المقام للإضمار تبعاً لقوله : { أنزلناه } .
وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر ، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه ، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة . وإذ قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه عُلِم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل ، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية .
وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس ، وأنه لم يتركهم في ضلالهم ، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد ، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض .
والإخراج : مستعار للنقل من حال إلى حال . شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج .
و { الظلماتُ والنور } استعارة للكفر والإيمان ، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك ، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل . وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة ، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكانٍ نيّر .
وجمع { الظلمات } وإفراد { النور } تقدم في أول سورة الأنعام ( 1 ) .
والباء في { بإذن ربهم } للسببية ، والإذنُ : الأمر بفعل يتوقف على رضَى الآمر به ، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس ، كقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } . ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الربّ المضاف إلى ضمير الناس ، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم .
وقوله : { إلى صراط العزيز الحميد } [ سورة إبراهيم : 1 ] بدل من { النور } بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماماً به ، وتأكيد للعامل كقوله تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } في سورة الأعراف ( 88 ) .
ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق ، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل ، ظاهرة .
واختيار وصف { العزيز الحميد } من بين الصفات العُلى لمزيد مناسبتها للمقام ، لأن العزيز الذي لا يُغلب . وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيمٌ الحجة عليهم .
والحميد : بمعنى المحمود ، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه ، وبذلك استوعبَ الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة إبراهيم عليه السلام مكية كلها، غير قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} [آية:28،29] الآيتين مدنيتين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
مقصود السورة التوحيد، وبيان أن هذا الكتاب غاية البلاغ إلى الله، لأنه كافل ببيان الصراط الدال عليه المؤدى إليه... وأدل ما فيها على هذا المرام قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أما التوحيد فواضح، وأما أمر الكتاب فلأنه من جملة دعائه لذريته الذين أسكنهم عند البيت المحرم من ذرية إسماعيل عليه السلام {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}. ولما ختم الرعد بأنه لا شهادة تكافئ شهادة من عنده علم الكتاب إشارة إلى أن الكتاب هو الشاهد بإعجازه ببلاغته وما حوى من فنون العلوم، وأتى به في ذاك السياق معرفا لما تقدم من ذكره في البقرة وغيرها ثم تكرر وصفه في سورة يونس وهود ويوسف والرعد بأنه حكيم محكم مفصل مبين، وأنه الحق الثابت الذي تزول الجبال الرواسي وهو ثابت لا يتعتع شيء منه، ولا يزلزل معنى من معانيه...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سميت به لاشتمالها على دعوات لإبراهيم عليه السلام، تمت بهذه الملة كالحج وجعل الكعبة قبلة الصلاة، مع الدلالة على عظمتها، بحيث صارت من المطالب المهمة للمتفق على غاية كمال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعلى نبوة نبينا عليه أكمل التحيات وأفضل التسليمات مع غاية كماله، وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة -سورة إبراهيم- مكية، موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكية الغالب: العقيدة في أصولها الكبيرة: الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء.
ولكن السياق في السورة يسلك نهجا خاصا بها في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصيلة، نهجا مفردا يميزها -كالشأن في كل سورة قرآنية- عن السور غيرها. يميزها بجوها وطريقة أدائها، والأضواء والظلال الخاصة التي تعرض فيها حقائقها الكبرى. ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى؛ ولكنها تعرض من زاوية خاصة، في أضواء خاصة فتوحي إيحاءات خاصة. كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوها، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا، فيحسها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد في "اللقطات الفنية". ونحن نستعمل هذا التعبير "اللقطات الفنية "لأنه يلاحظ في صورته المعجزة في طريقة الأداء القرآنية!
ويبدو أنه كان لجو السورة من اسمها نصيب.. إبراهيم.. أبو الأنبياء.. المبارك، الشاكر الأواه المنيب. وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جو السورة، وفي الحقائق التي تبرزها، وفي طريقة الأداء، وفي التعبير والإيقاع.
ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية في العقيدة، ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها. وهما الحقيقتان المتناسقتان مع ظل إبراهيم في جو السورة: حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمان. وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر؛ ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران..
وبروز هاتين الحقيقتين، أو هذين الظلين. لا ينفي أن هناك حقائق أخرى في سياق السورة. ولكن هاتين الحقيقتين تظللان جو السورة. وهذا ما أردنا الإشارة إليه:
تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب.. فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله:
(كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد).
وتختم بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة. حقيقة التوحيد:
(هذا بلاغ للناس ولينذروا به، وليعلموا أنما هو إله واحد، وليذكر أولو الألباب).
وفي أثنائها يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد [ص] ولمثل ما أرسل به، حتى في ألفاظ التعبير:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور)..
ويذكر كذلك أن وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان:
(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)...
وتتضمن إلى جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية، وهي التي تحدد وظيفته. فهو مبلغ ومنذر وناصح ومبين. ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن الله، وحين يشاء الله، لا حين يشاء هو أو قومه؛ ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم، فالهدى والضلال متعلقان بسنة الله التي اقتضتها مشيئته المطلقة.
ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم، والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين:
(قالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا، فأتونا بسلطان مبين).
(قالت لهم رسلهم: إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده. وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله. وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
ويتضمن السياق كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم (بإذن ربهم).. وكل رسول يبين لقومه (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء، وهو العزيز الحكيم).
وبهذا وذلك تتحدد حقيقة الرسول، فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة، ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها. وكذلك يتجرد توحيد الله بلا ظل من مماثلة أو مشابهة.
كذلك تتضمن السورة تحقق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا. تحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين.
يصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا:
(وقال الذين كفروا لرسلهم: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد.. واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد..).
ويصورها في مشاهد القيامة في الآخرة:
(وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام)..
(وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار)..
ويصورها في الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء:
(ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؛ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء)..
(مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء. ذلك هو الضلال البعيد)..
فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة، وتتسقان مع ظل إبراهيم: أبي الأنبياء. الشكور الأواه المنيب، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة. وحقيقة نعمة الله على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة.. فنفردهما هنا بالحديث.
فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول، فيقول كلمته لقومه ويمضي، ثم يجيء رسول ورسول. كلهم يقولون الكلمة ذاتها، ويلقون الرد ذاته، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى. وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود.
فأما سورة إبراهيم -أبي الأنبياء- فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف. وتجري المعركة بينهم في الأرض، ثم لا تنتهي هنا، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب!
ونبصر فنشهد أمة الرسل، وأمة الجاهلية، في صعيد واحد، على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون -حقيقة الإيمان والكفر- فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان:
ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود. والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله. جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب. قالت رسلهم: أفي الله شك فاطر السماوات والأرض، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم، ويؤخركم إلى أجل مسمى؟ قالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا، فأتونا بسلطان مبين. قالت لهم رسلهم: إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، ولنصبرن على ما آذيتمونا. وعلى الله فليتوكل المتوكلون. وقال الذين كفروا لرسلهم: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا. فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد.
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد، يتجرعه ولا يكاد يسيغه، ويأتيه الموت من كل مكان، وما هو بميت، ومن ورائه عذاب غليظ)..
فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل؛ ويتلاشى الزمان والمكان؛ وتبرز الحقيقة الكبرى: حقيقة الرسالة وهي واحدة. واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة. وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة. وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة. وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة. وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة.. وذلك إلى التماثل بين قول الله لمحمد [ص]:
(كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).
وحكاية قوله لموسى -عليه السلام -:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور).
ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة. فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة. وهذه نماذج منها:
(وبرزوا لله جميعا، فقال الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعا، فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء؟ قالوا: لو هدانا الله لهديناكم، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. وقال الشيطان لما قضي الأمر: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي، إني كفرت بما أشركتمون من قبل، إن الظالمين لهم عذاب أليم.. وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم، تحيتهم فيها سلام)..
(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء)..
(وقد مكروا مكرهم، وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال. فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله. إن الله عزيز ذو انتقام. يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار، وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد. سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار)...
وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال.
وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين، ونتائجها الأخيرة: مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة: شجرة النبوة، وشجرة الإيمان، وشجرة الخير. والكلمة الخبيثة: كالشجرة الخبيثة: شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان.
وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله، وتتناثر في سياقها.
يعدد الله نعمه على البشر كافة، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، برهم وفاجرهم، طائعهم وعاصيهم. وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمة في هذه الأرض، كالمؤمن والبار والطائع: لعلهم يشكرون. ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها، ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة:
(الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم؛ وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. إن الإنسان لظلوم كفار)..
وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها:
(كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور)..
والنور أجل نعم الله في الوجود. والنور هنا هو النور الأكبر. النور الذي يشرق به كيان الإنسان، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه.. وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه. ووظيفة الرسل كما بينتها السورة.
(يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم)..
والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور، وهي منه قريب..
وفي جو الحديث عن النعمة يذكر موسى قومه بأنعم الله عليهم:
(وإذ قال موسى لقومه: اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم).
وفي هذا الجو يذكر وعد الله للرسل:
(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)..
وهي نعمة من نعم الله الكثار الكبار.
ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر:
(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)..
مع بيان أن الله غني عن الشكر وعن الشاكرين:
(إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد).
ويقرر السياق أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر:
(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)..
ولكن الذين يتدبرون آيات الله، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء:
(إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).
ويمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع، وفي دعاء واجف، عند بيت الله الحرام، كله حمد وشكر وصبر ودعاء.
(وإذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيرا من الناس، فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم. ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون. ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)..
ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها تطبع جو السورة تجيء التعبيرات والتعليقات فيها متناسقة مع هذا الجو:
(وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)..
(إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)..
(ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار)..
(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق)..
وفي رد الأنبياء على اعتراض المكذبين بأنهم بشر يجيء:
(ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)..
فيبرز منة الله تنسيقا للرد مع جو السورة كله. جو النعمة والمنة والشكر والكفران..
وهكذا يتساوق التعبير اللفظي مع ظلال الجو العام في السورة كلها على طريقة التناسق الفني في القرآن..
وتنقسم السورة إلى مقطعين متماسكي الحلقات:
المقطع الأول يتضمن بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول. ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا وفي الآخرة، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة.
والمقطع الثاني يتحدث عن نعم الله على البشر، والذين كفروا بهذه النعمة وبطروا. والذين آمنوا بها وشكروا ونموذجهم الأول هو إبراهيم. ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها، وأحفلها بالحركة والحياة.. ليختم السورة ختاما يتسق مع مطلعها:
(هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد، وليذكر أولو الألباب)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم عليه السلام فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره، ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول.
ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم عليه السلام جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات {الر}. وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء عليهم السلام التي جاءت قصصهم فيها، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء.
وهي مكية كلها عند الجمهور. وعن قتادة إلا آيتي {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} إلى قوله {وبئس القرار}، وقيل: إلى قوله: {فإن مصيركم إلى النار}. نزل ذلك في المشركين في قضية بدر، وليس ذلك إلا توهما كما ستعرفه...
واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن، وبالتنويه بشأنه، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة، والامتنان بأن جعله بلسان العرب، وتمجيد الله تعالى الذي أنزله، ووعيد الذين كفروا به بمن أنزل عليه،
وإيقاظ المعاندين بأن محمد صلى الله عليه وسلم ما كان بدعا من الرسل، وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل، وضرب له مثلا برسالة موسى عليه السلام إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل،
وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها.
وموعظته إياهم بما حل بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب، وكيف كانت عاقبة المكذبين، وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته، وذكر البعث، وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان، وكيف يتبرؤون منهم يوم الحشر.
ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ، وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر
ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك، والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين، وعد بعض نعمة على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا.
ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم عليه السلام ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيم عليه السلام ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام.
وتحذيرهم من كفران النعمة، وإنذارهم أن يحل بالذين ظلموا من قبل.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بوعد النصر، وما تخلل ذلك من الأمثال.
وختمت بكلمات جامعة من قوله {هذا بلاغ للناس} إلى آخرها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
من إبراهيم (عليه السلام) كانت بداية تاريخ الرسالات التي تركت ظلالها الفكرية والروحية على ما بعدها من الرسالات، وقد تميزت شخصيته بالصفاء الروحي والبساطة والعفوية والانفتاح على الله في كل الأوضاع والمواقف. ولعل هذا هو السبب في تسمية هذه السورة باسمه...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الر كتاب أنزلناه إليك} يا محمد صلى الله عليه وسلم، {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} يعني: من الشرك إلى الإيمان، {بإذن ربهم} يعني: بأمر ربهم، {إلى صراط}، يعني: إلى دين {العزيز} في ملكه، {الحميد} في أمره عند خلقه...
284- قال الشافعي: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ اَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمُ إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... أما قوله:"كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ" فإن معناه: هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد يعني القرآن، "لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ "يقول: لتهديهم به من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه، وتبصّر به أهل الجهل والعمى سبل الرشاد والهُدى.
وقوله: "بإذْنِ رَبّهِمْ" يعني: بتوفيق ربهم لهم بذلك ولطفه بهم.
"إلى صراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ" يعني: إلى طريق الله المستقيم، وهو دينه الذي ارتضاه وشرعه لخلقه. و"الحميد": فعيل، صُرف من مفعول إلى فعيل، ومعناه: المحمود بآلائه، وأضاف تعالى ذكره إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم لهم بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الهادي خلقه والموفّق من أحبّ منهم للإيمان، إذ كان منه دعاؤهم إليه، وتعريفهم ما لهم فيه وعليهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"بإذن ربهم "أي بإطلاق الله ذلك، وأمره به نبيه صلى الله عليه وسلم"... "إلى صراط العزيز الحميد "أي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى طريق الله المؤدي إلى معرفة الله "العزيز" يعني القادر على الأشياء الممتنع بقدرته من أن يضام، المحمود في أفعاله التي أنعم بها على عباده، الذي له التصرف في جميع ما في السماوات والأرض، على وجه ليس لأحد الاعتراض عليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... الظلمات والنور: استعارتان للضلال والهدى {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق. {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} بدل من قوله إلى النور... ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أي نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {لتخرج} أسند الإخراج إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث له فيه المشاركة بالدعاء والإنذار، وحقيقته إنما هي لله تعالى بالاختراع والهداية. وفي هذه اللفظة تشريف للنبي عليه السلام...
"إلى النور" أي إلى المحجة المؤدية إلى طاعة الله وللإيمان به ورحمته، فأضافها إلى الله بهذه التعلقات...
و {العزيز الحميد} صفتان لائقتان بهذا الموضع، فالعزة من حيث الإنزال للكتاب، وما في ضمن ذلك من القدرة، واستيجاب الحمد من جهة بث هذه النعم على العالم في نصب هدايتهم...
{العزيز} إشارة إلى كمال القدرة. {الحميد} إشارة إلى كونه مستحقا للحمد في كل أفعاله، وذلك إنما يحصل إذا كان عالما بالكل غنيا عن الكل...
والعزيز هو القادر، والحميد هو العالم الغني...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لتخرج الناس} أي عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم به وإن كانوا ذوي اضطراب {من الظلمات} التي هي أنواع كثيرة من الضلالات التي أدت إليها الجهالات {إلى النور} الذي هو واحد، وهو سبيل الله المدعو بالهداية إليه في الفاتحة، أي لتبين للعرب قومك لأنه بلسانهم بياناً شافياً، فتجعلهم -بما تقيم عليهم من الحجج الساطعة، وتوضح لهم من البراهين القاطعة، وتنصب لهم من الأعلام الظاهرة، وتحكم لهم من الأدلة الباهرة- في مثل ضوء النهار بما فتح من مقفل أبصارهم، وكشف عن أغطية قلوبهم، فيكونوا متمكنين من أن يخرجوا من ظلمات الكفر التي هي طرق الشيطان إلى نور الإيمان الذي هو سبيله... وشبه الإيمان وما أرشد إليه بالنور، لأنه عصمة العقل من الخطأ في الطريق إلى الله كما أن النور عصمة البصر من الضلال عن الطريق الحسي، وإذا خرجوا إلى النور كانوا جديرين بأن يخرجوا جميع الناس {بإذن ربهم} أي المحسن إليهم... ولما كان النور مجملاً، بينه على سبيل الاستئناف أو البدل بتكرير العامل فقال: {إلى صراط العزيز} الذي تعالى عن صفات النقص فعز عن أن يدخل أحد صراطه الذي هو ربه، أو يتعرض أحد إلى سالكه بغير إذنه {الحميد} المحيط بجميع الكمال، فهو المستحق لجميع المحامد لذاته وبما يفيض على عباده من النعم التي يربيهم ويتحمد إليهم بها على كل حال، فكيف إذا سلكوا سبيله الواضح الواسع السهل!...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
أي ليُخرج به الناسَ من عقائد الكفر والضلال التي كلُّها ظلماتٌ محضةٌ وجهالاتٌ صِرْفة {إِلَى النور} إلى الحق الذي هو نورٌ بحتٌ لكن لا كيفما كان، فإنك لا تهدي من أحببت بل {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} أي بتيسيره وتوفيقِه وللإنباء عن كون ذلك منوطاً بإقبالهم إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى: {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد، الآية 27] استُعير له الإذنُ الذي هو عبارةٌ عن تسهيل الحجابِ لمن يقصِد الورودَ، وأضيف إلى ضميرهم اسمُ الربِّ المفصحِ عن التربية التي هي عبارةٌ عن تبليغ الشيءِ إلى كماله المتوجّه إليه، وشمولُ الإذن بهذا المعنى للكل واضحٌ وعليه يدور كونُ الإنزال لإخراجهم جميعاً. وعدمُ تحققِ الإذن بالفعل في بعضهم لعدم تحققِ شرطِه المستند إلى سوء اختيارِهم غيرُ مخلٍ بذلك... وحيث كان الحقُّ مع وضوحه في نفسه وإيضاحه لغيره موصلاً إلى الله عز وجل استُعير له النورُ تارة والصراطُ أخرى، فقيل: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد}... وقيل: هو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال، كأنه قيل: إلى أي نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد، وإضافةُ الصراط إليه تعالى لأنه مقصِدُه أو المبينُ له، وتخصيصُ الوصفين بالذكر للترغيب في سلوكه ببيان ما فيه من الأمن والعاقبةِ الحميدة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: لا يحصل منهم المراد المحبوب لله إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم. ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: الموصل إليه وإلى دار كرامته، المشتمل على العلم بالحق والعمل به، وفي ذكر {العزيز الحميد} بعد ذكر الصراط الموصل إليه إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعز الله قوي ولو لم يكن له أنصار إلا الله، محمود في أموره، حسن العاقبة. وليدل ذلك على أن صراط الله من أكبر الأدلة على ما لله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأن الذي نصبه لعباده، عزيز السلطان، حميد في أقواله وأفعاله وأحكامه، وأنه مألوه معبود بالعبادات التي هي منازل الصراط المستقيم، وأنه كما أن له ملك السماوات والأرض خلقا ورزقا وتدبيرا، فله الحكم على عباده بأحكامه الدينية، لأنهم ملكه، ولا يليق به أن يتركهم سدى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف كتاب أنزلناه إليك. لم تنشئه أنت. أنزلناه إليك لغاية: (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).. لتخرج هذه البشرية من الظلمات. ظلمات الوهم والخرافة. وظلمات الأوضاع والتقاليد. وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة، وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين.. لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور. النور الذي يكشف هذه الظلمات. يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير. ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد. والإيمان بالله نور يشرق في القلب، فيشرق به هذا الكيان البشري... نور تشرق به النفس، فترى الطريق. ترى الطريق واضحة إلى الله... نور تشرق به الحياة. فإذا الناس كلهم عباد متساوون. تربط بينهم آصرتهم في الله وتتمحض دينونتهم له دون سواه، فلا ينقسمون إلى عبيد وطغاة... والإيمان بالله نور. نور العدل. ونور الحرية. ونور المعرفة. ونور الأنس بجوار الله، والاطمئنان إلى عدله ورحمته وحكمته في السراء والضراء. ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في الضراء والشكر في السراء على نور من إدراك الحكمة في البلاء...
(إلى صراط العزيز الحميد).. فالصراط بدل من النور. وصراط الله: طريقه، وسنته، وناموسه الذي يحكم الوجود وشريعته التي تحكم الحياة. والنور يهدي إلى هذا الصراط، أو النور هو الصراط. وهو أقوى في المعنى. فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون. هو السنة. هو الناموس. هو الشريعة. والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطيء الإدراك ولا تخطيء التصور ولا تخطيء السلوك. فهي على صراط مستقيم.. (صراط العزيز الحميد).. مالك القوة القاهر المسيطر المحمود المشكور. والقوة تبرز هنا لتهديد من يكفرون، والحمد يبرز لتذكير من يشكرون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الكلام على تركيب {الر كتاب أنزلته إليك} كالكلام على قوله تعالى: {المص كتاب أنزل إليك} [سورة الأعراف: 1 2] عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله: {بإذن ربهم}، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبيء عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز. أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة، كما دل عليه قوله: {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبيء صلى الله عليه وسلم. ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله: {بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} بعد أن كان المقام للإضمار تبعاً لقوله: {أنزلناه}...
وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس، وأنه لم يتركهم في ضلالهم، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض...
وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيمٌ الحجة عليهم. والحميد: بمعنى المحمود، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه، وبذلك استوعبَ الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{كتاب} التنكير فيه للتعظيم، والمعنى كتاب عظيم الشأن لا يدرك كنهه، ولا تحيط به أفهام البشر، إلا إذا كان ذلك بتوفيق من الله، وما يعلم تأويله إلا الله، وأضف إلى ذلك ما يقوى مكانته أو يحققها، وهو أمران ذكرهما الله تعالى:
الأمر الأول: أنه أضافه إلى الله تعالى على أنه نازل من لدنه في سموه سبحانه، إلى منتهاه في نزوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو قوله تعالى: {أنزلناه إليك}، وبالإضافة إليه سبحانه بضمير الجمع؛ لأنه الضمير العائد إلى الله خالق الوجود كله، عاقله وغير عاقله، إنسه وجنه، وهو الحكيم الخبير. الأمر الثاني الذي يكشف عن عظمة الكتاب: وهو شرف ذاتي فوق شرفه الإضافي بالنسبة إلى الله تعالى، وهو أنه يخرج الناس – إذا أدركوه – من ظلمات الضلال إلى نور الهداية وذلك بتبليغ محمد صلى الله عليه وسلم له، وهذا هو قوله: {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} فهذا النص السامي يدل على أن القرآن هاد ومرشد يخرج به النبي صلى الله عليه وسلم الناس من الضلال إلى الهدى بإذن الله، ففي ذلك ثلاثة معان:
وثالثها: أن الأمور كلها بتوفيق من الله، فمن سلك الهداية وصل إلى الغاية، ومن سلك طريق الضلال وصل إلى نهاية الضلال البعيد...
كلمة (كتاب) إذا أطلقت انصرف معناها إلى القرآن، فهو يُسمّى كتابا، ويسمّى قرآنا، ويُسمّى تنزيلا، وله أسماء كثيرة. وكلمة (كتاب) تدل على أنه مكتوب، وكلمة (قرآن) تدل على أنه مقروء، وهذان الاسمان هما العُمدة في أسماء القرآن، لأنه كتاب مكتوب ومقروء...
{لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور}، ونلحظ هنا أن القرآن نزل للناس كافّة، ولم يقل الحق سبحانه ما قاله للرسُل السابقين على رسول الله، حيث كانت رسالة أيٍّ منهم محدّدة بقوم معيّنين... ونجد هنا اصطفاءين لرسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: الاصطفاء الأول: أن الحق سبحانه قد اختاره رسولا، فمجرد الاختيار لتلك المهمة، فهذه منزلة عالية.
والاصطفاء الثاني: أنه رسول للناس كافّة، وهذه منزلة عالية أخرى، لأنها تستوعب المكان والزمان، والألسنة والأقوام...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد نستوحي من ذلك أن الله لا يريد للقرآن أن يدفع الناس إلى تغيير مفاهيمهم فحسب، ويحولهم ثقافياً من الجهل إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة، ومن الكفر إلى الإيمان، بل يريد لهم أن يؤكدوا ذاك التحرك في تحريك الواقع من حولهم، لأن الدين ليس حالة ثقافية مجرّدة، بل هو حالة فكرية وروحية تسعى للتغيير عبر خطة واقعية شاملة، تتكامل فيها النظرية والتطبيق. وهذا ما نفهمه من التعبير بشكل مطلق عن الإخراج من الظلمات إلى النور، لأن الناس إذا اكتفوا بالجانب الفكري من المسألة، وتركوا الجوانب الواقعية، فإن الظلمات تبقى متحكمة في حياة الناس ولا يتحقق هدف الرسالة في تحويل الجانب المظلم من حياتهم إلى جانبٍ مشرقٍ. ولعل التأكيد على الصراط في الآية يوحي بذلك...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ جميع الأهداف التربوية والإنسانية، المعنوية والمادية من نزول القرآن قد جُمعت في هذه الجملة (الخروج من الظّلمات إلى النّور) أي الخروج من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، ومن ظلام الكفر إلى نور الإيمان، من ظلم الظالمين إلى نور العدالة، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الذنوب إلى الطهارة والتقوى، ومن التفرقة والنفاق إلى نور الوحدة. ومن الطريف أنّ «الظّلمات» هنا (كما في بعض السور الأُخرى) جاءت بصيغة الجمع و «النّور» بصيغة المفرد، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ الحسنات والطيّبات والإيمان والتقوى لها حالة واحدة في ظلّ التوحيد ونوره، فهي مترابطة ومتّحدة فيما بينها، فتصنع مجتمعاً واحداً متّحداً وطاهراً من كلّ جهة. بينما الظّلمات تعني التشتّت وتفرقة الصفوف، وحتى الطواغيت والمذنبين والمفسدين والمنحرفين في مسيرتهم الانحرافية نراهم غير متوحّدين غالباً، وفي حالة حرب فيما بينهم...