تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }

يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس ، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به ، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم ، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس ، لما كانت الآية السابقة وهي قوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } أمرا منه تعالى لهذه الأمة ، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به ، وقد لا يقوم به ، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به ، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان ، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل ، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة ،

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }

اختلف أهل التأويل في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرا أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } فقال بعضهم : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من مكة إلى المدينة ، وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال في : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين خرجوا معه من مكة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكِرِ } قال عمر بن الخطاب : لو شاء الله لقال «أنتم » ، فكنا كلنا ، ولكن قال : { كُنْتُمْ } في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن صنع مثل صنيعهم ، كانوا خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال عكرمة : نزلت في ابن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عمن حدثه ، قال عمر : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : تكون لأوّلنا ، ولا تكون لاَخرنا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين هاجروا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها : ورأى من الناس رِعَة سيئة ، فقرأ هذه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } . . . الاَية ، ثم قال : يا أيها الناس ، من سره أن يكون من تلك الأمة ، فليؤدّ شرط الله منها .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جلّ ثناؤه بها . فكان تأويل ذلك عندهم : كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله أُخرِجوا للناس في زمانكم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } يقول : على هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر ، وتؤمنوا بالله ، يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه ، كقوله : { وَلَقَدْ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : يقول : كنتم خير الناس للناس ، على هذا الشرط ، أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر ، وتؤمنوا بالله ، يقول لمن بين ظهريه كقوله : { وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ } .

وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ميسرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : كنتم خير الناس للناس ، تجيئون بهم في السلاسل ، تدخلونهم في الإسلام .

حدثنا عبيد بن أسباط ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : خير الناس للناس .

وقال آخرون : إنما قيل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ } قال : لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة ، فمن ثم قال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } .

وقال بعضهم : عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ } قال : قد كان ما تسمع من الخير في هذه الأمة :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعد عن قتادة قال : كان الحسن يقول : نحن آخرها وأكرمها على الله .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية ما قال الحسن ، وذلك أن :

يعقوب بن إبراهيم حدثني قال : حدثنا ابن علية ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ألا إنّكُمْ وَفّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُمْ آخِرُها وأكْرَمُها على اللّهِ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : «أنْتُمْ تُتِمّونَ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُمْ خَيْرُها وأكْرَمُها على اللّهِ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم ، وهو مسند ظهره إلى الكعبة : «نَحْنُ نُكَمّلُ يَوْمَ القِيامَةِ سَبْعينَ أُمّةً نَحْنُ آخرُها وخَيْرُها » .

وأما قوله : { تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ } فإنه يعني : تأمرون بالإيمان بالله ورسوله ، والعمل بشرائعه ، { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر } يعني : وتنهون عن الشرك بالله ، وتكذيب رسوله ، وعن العمل بما نهى عنه . كما :

حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } يقول : تأمرونهم بالمعروف أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف ، وتنهونهم عن المنكر والمنكر : هو التكذيب ، وهو أنكر المنكر .

وأصل المعروف : كل ما كان معروفا ففعله جميل مستحسن غير مستقبح في أهل الإيمان بالله . وإنما سميت طاعة الله معروفا ، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله . وأصل المنكر ما أنكره الله ، ورأوه قبيحا فعله ، ولذلك سميت معصية الله منكرا ، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ، ويستعظمون ركوبها . وقوله : { وَتؤْمِنُونَ باللّهِ } يعني : تصدّقون بالله ، فتخلصون له التوحيد والعبادة .

فإن سأل سائل فقال : وكيف قيل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ } وقد زعمت أن تأويل الاَية أن هذه الأمة خير الأمم التي مضت ، وإنما يقال : كنتم خير أمة ، لقوم كانوا خيارا فتغيروا عما كانوا عليه ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه ، وإنما معناه : أنتم خير أمة ، كما قيل : { وَاذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ } وقد قال في موضع آخر : { وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثّرَكُمْ } فإدخال «كان » في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد ، لأن الكلام معروف معناه . ولو قال أيضا في ذلك قائل : كنتم بمعنى التمام ، كان تأويله : خلقتم خير أمة ، أو وجدتم خير أمة ، كان معنى صحيحا ، وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك : كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ أخرجت للناس ، والقولان الأوّلان اللذان قلنا ، أشبه بمعنى الخبر الذي رويناه قبل .

وقال آخرون معنى ذلك : كنتم خير أهل طريقة ، وقال : الأمة : الطريقة .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرا لَهْمُ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُم الفاسِقونَ } .

يعني بذلك تعالى ذكره : ولو صدّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند الله ، لكان خيرا لهم عند الله في عاجل دنياهم ، وآجل آخرتهم . { مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ } يعني من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، المؤمنون المصدّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله ، وهم عبد الله بن سلام ، وأخوه ، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه ، وأشباههم ممن آمنوا بالله ، وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله . { وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } يعني : الخارجون عن دينهم ، وذلك أن من دين اليهود اتباع ما في التوراة ، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن دين النصارى اتباع ما في الإنجيل ، والتصديق به وبما في التوراة ، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، ومبعثه ، وأنه نبيّ الله ، وكلتا الفرقتين ، أعني اليهود والنصارى مكذبة ، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدّعون أنهم يدينون به الذي قال جلّ ثناؤه { وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } . وقال قتادة بما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْهُمُ المُؤمِنونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } : ذمّ الله أكثر الناس .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

واختلف المتأولون في معنى قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } فقال عمر بن الخطاب : هذه لأولنا ، ولا تكون لآخرنا وقال عكرمة : نزلت في ابن مسعود وسالم ومولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل .

قال القاضي أبو محمد : يريد من شاكلهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .

قال القاضي : فهذا كله قول واحد ، مقتضاه أن الآية نزلت في الصحابة ، قيل لهم { كنتم خير أمة } ، فالإشارة بقوله { أمة } إلى أمة محمد معينة ، فإن هؤلاء هم خيرها ، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم : معنى الآية ، خطاب الأمة بأنهم { خير أمة أخرجت للناس } ، فلفظ { أمة } ، على هذا التأويل اسم جنس كأنه قيل لهم كنتم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :

«نحن الآخرون السابقون »{[3415]} الحديث . وروى بهز بن حكيم{[3416]} عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً وهو مسند ظهره إلى الكعبة ، «نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها »{[3417]} قال مجاهد : معنى الآية «كنتم خير الناس » - وقال الحسن : نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى{[3418]} ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : معنى الآية كنتم للناس خير الناس{[3419]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : { فأمة } على هذا التأويل ، اسم جنس ، قال أبو هريرة : يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام .

قال القاضي : ولم يبعث نبي إلى الأمم كافة إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه ، فهم خير الناس للناس ، وليس يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس لفظ الآية ، لكن يعلم هذا من لفظ آخر ، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم : ( أرأف أمتي بأمتي أبو بكر ){[3420]} ، فليس يقتضي هذا اللفظ أن أبا بكر أرأف الناس على الإطلاق ، في مؤمن وكافر .

قال القاضي : والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما يجب ، وأما قوله ، { كنتم } على صيغة الماضي ، فإنها التي بمعنى الدوام ، كما قال : { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96- 99- 100- 152- الفرقان : 70 ، الأحزاب : 5- 50- 59- 73 ، الفتح : 14 ] ، إلى غير هذا من الأمثلة ، وقال قوم : المعنى كنتم في علم الله ، وقيل : في اللوح المحفوظ ، وقيل فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم و { خير } على هذه الأقوال كلها خبر كان ، ويحتمل أن تكون كان التامة ، ويكون { خير أمة } نصباً على الحال ، وهذا يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض .

قال القاضي : وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، وقوله : { تأمرون بالمعروف } وما بعده ، أحوال في موضع نصب ، ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح ، أنهم لو آمنوا لنحّوا أنفسهم من عذاب الله ، وجاءت لفظة { خير } في هذه الآية وهي صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة { خير } من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها ، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا ، وقوله تعالى : { منهم المؤمنون } تنبيه على حال عبد الله بن سلام{[3421]} وأخيه{[3422]} وثعلبه بن سعية{[3423]} وغيرهم ممن آمن ، ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين .


[3415]:- أخرجه البخاري، ومسلم- عن أبي هريرة. "البخاري 2/2 من كتاب الجمعة".
[3416]:- هو أبو مالك بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري البصري، روى عن أبيه، وروى عنه الزهري وابن عون، وخلائق من الأئمة، توفي بعد الأربعين ومائة، وقيل: قبل الستين. "تهذيب الأسماء"، و"الخلاصة". وحكيم والد بهز: هو أبو بهز القشيري البصري التابعي، ثقة معروف. ومعاوية بن حيدة. جد بهز صحابي غزا خراسان ومات بها، له أحاديث صحاح. "تهذيب الأسماء" و"تهذيب التهذيب"، و"الخلاصة"، و"الإصابة"
[3417]:- أخرجه ابن جرير في تفسيره عن قتادة 4/45.
[3418]:- أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم- عن معاوية بن حيدة. "الجامع الصغير" 1/341. و"فتح القدير" للشوكاني 1/340.
[3419]:- أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: (خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل) الحديث. "فتح القدير للشوكاني" 1/340.
[3420]:- أخرجه أبو يعلى في مسنده عن ابن عمر، وهو ضعيف، والحديث بطوله في الجامع الصغير 1/118.
[3421]:- عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، وكان اسمه الحصين فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله. قال الطبري: مات في قول جميعهم بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد، وأسد أو أسيد بن سعية قالت يهود: ما أتى محمدا إلا شرارنا فأنزل الله تعالى: [ليسوا سواء، من أهل الكتاب- إلى قوله: صالحين]: "الإصابة".
[3422]:- هو ثعلبة بن سلام، روى الطبراني من قول ابن جريج مقطوعا أنه أحد من نزل فيه قوله تعالى: [من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله]. "الإصابة 1/199"
[3423]:- هو ثعلبة بن سعية هو أحد من أسلم من اليهود يوم قريظة فمنعوا دماءهم وأموالهم، لهم خبر في السير يخرج في أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: توفي ثعلبة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. "الإصابة" و"الاستيعاب 1/211".