{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رََّبِّهِمْ ْ } أي : قاموا بأوامرهما ونواهيهما ، كما ندبهم الله وحثهم .
ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه ، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم ، أي : لأجلهم وللاعتناء بهم { لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ْ } أي : لأدر الله عليهم الرزق ، ولأمطر عليهم السماء ، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ْ }
{ مِنْهُمْ ْ } أي : من أهل الكتاب { أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ْ } أي : عاملة بالتوراة والإنجيل ، عملا غير قوي ولا نشيط ، { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ْ } أي : والمسيء منهم الكثير . وأما السابقون منهم فقليل ما هم .
وأما سعادات الدنيا فقد ذكرها في قوله بعد ذلك : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة } .
وكرر - سبحانه - اللام في قوله : { لَكَفَّرْنَا } { وَلأَدْخَلْنَاهُمْ } لتأكيد الوعد . وفيه تنبيه إلى كثرة ذنوبهم ومعاصيهم وإلى أن الإِسلام يجب ما قبله من ذنوب مهما كثرت .
وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا .
وجمع - سبحانه - بين الإِيمان والتقوى ، للإِيذان بأن الإِيمان الذي ينجى صاحبه ، ويرفع درجاته ، هو ما كان نابعا عن يقين وإخلاص وخشية من الله ، لا إيمان المنافقين الذين يدعون الإِيمان وهو منهم برئ .
والضمير في قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } يعود إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين فتح الله لهم باب الإِيمان ليدخلوا فيه كي ينالوا رضاه .
والمراد بإقامة التوراة والإِنجيل : العمل بما فيهما من بشارات بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وحضهم على الإِيمان به عند ظهوره وتنفيذ ما اشتملا عليه من أحكام أيدتها تعاليم الإِسلام ، وأصل الإِقامة الثبات في المكان . ثم استعير في إقامة الشيء لتوفية حقه .
والمراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن الكريم ، لأنهم مخاطبون به ، وليسوا خارجين عن دائرة التكاليف التي دعا إليها .
قال - تعالى - { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أي : لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به أيضاً جميع من بلغه هذا الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم .
وقيل : المراد بما أنزل إليهم من ربهم . وكتب أنبيائهم السابقين مثل كتاب شعياء ، وكتاب حزقيل ، وكتاب دانيال . فإنها مشتملة أيضاً على البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم .
والمراد بقوله : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } المبالغة في شرح ما ينعم الله به عليهم من خيرات وأرزاق تعمهم من كل جهة من الجهات لا أن هناك فوقا وتحتا .
أي : لأكلوا أكلا متصلا وفيراً ، ولعمهم الخير والرزق من كل جهة بأن تعطيهم السماء مطرها وبركتها ، وتعطيهم الأرض نباتها وخيرها ، فيعيشوا في رغد من العيش ؛ وفي بسطة من الرزق .
وفي ذلك دلالة على أن الاستقامة على شرع الله ، تأتي بالرزق الرغيد ، ولقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في آيات كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - :
{ وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } وقال - تعالى - حكاية عن هود أنه قال لقومه : { وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } والمعنى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ } أي اليهود والنصارى { أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } بأن عملوا بما فيهما من أقوال تدعوهم إلى الإِيمان بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتركوا تحريف الكلم عن مواضعه .
ولو أنهم - أيضاً آمنوا بما { أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } من قرآن مجيد فيه هدايتهم وسعادتهم لو أنهم فعلوا ذلك لأتاهم الرزق الواسع من كل ناحية ولعمهم الخير من كل جهة ، ولعاشوا آمنين مطمئنين .
والمراد بالأكل الانتفاع مطلقاً ، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها .
ومفعول " كلوا " محذوف لقصد التعميم . أو القصد إلى نفس العفل كما في قولهم : فلان يعطي ويمنع .
وقوله : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } مدح للقلة التي تستحق المدح من أهل الكتاب وذم للكثيرين منهم الذين قبح عملهم وفسدت نفوسهم .
والأمة : الجماعة من الناس الذين يجمعهم دين واحد . أو جنس واحد . أو مكان واحد .
ومقتصدة من الاقتصاد وهو الاعتدال في كل شيء والمراد به هنا : السير على الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق والخير ، وهو طريق الإِسلام .
والمعنى : من أهل الكتاب جماعة مستقيمة على طريق الحق ، وهم قلة آمنت بالنبي - صلى الله عليه وسلم إلى جوار هذه الجماعة القليلة المستقيمة عدد كبير من أهل الكتاب ساء عملهم ، وأعوج سلوكهم ، وكان من حالهم ما يثير العجب والدهشة .
والمراد بهذه الأمة المقتصدة من أهل الكتاب من دخل منهم في الإِسلام واتبع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم .
وبذلك نرى هاتين الآيتين قد بشرت أهل الكتاب بالسعادة الدنيوية والأخروية متى آمنوا بالله تعالى - واتبعوا ما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
{ ولو أنهم أقاموا التوراة } أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة ، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس ، إذ هي أظهر هيئات المرء ، وقوله تعالى : { والإنجيل } يقتضي دخول النصارى في لفظ { أهل الكتاب } في هذه الآية ، وقوله تعالى : { وما أنزل إليهم من ربهم } معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء ، واختلف المفسرون في معنى { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي : المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى . وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه ، وذكر النقاش أن المعنى : لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا ، إذ هو من نبات الأرض . قوله تعالى { منهم أمة مقتصدة } معناه : معتدلة ، والقصد والاقتصاد : الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال ، قال الطبري : معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه ، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله ، وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة{[1]} في ملة عيسى عليه السلام ، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي لغير رشدة ، فكفر الطرفان ، وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا يتخرج قول الطبري : ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم ، وقال ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب ، وهذا هو المترجح ، وقد ذكر الزجّاج{[2]} أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين .
قال القاضي أبو محمد : وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البحتري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله ، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموماً ، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء ، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد صلى الله عليه وسلم { ساء } في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء ، وقد تستعمل { ساء } استعمال نعم وبئس ، كقوله عز وجل : { ساء مثلاً }{[3]} فتلك غير هذه ، يحتاج في هذه التي في قوله { ساء مثلاً } من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس ، وفي هذا نظر .