تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رََّبِّهِمْ ْ } أي : قاموا بأوامرهما ونواهيهما ، كما ندبهم الله وحثهم .

ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه ، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم ، أي : لأجلهم وللاعتناء بهم { لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ْ } أي : لأدر الله عليهم الرزق ، ولأمطر عليهم السماء ، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ْ }

{ مِنْهُمْ ْ } أي : من أهل الكتاب { أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ْ } أي : عاملة بالتوراة والإنجيل ، عملا غير قوي ولا نشيط ، { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ْ } أي : والمسيء منهم الكثير . وأما السابقون منهم فقليل ما هم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

وأما سعادات الدنيا فقد ذكرها في قوله بعد ذلك : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة } .

وكرر - سبحانه - اللام في قوله : { لَكَفَّرْنَا } { وَلأَدْخَلْنَاهُمْ } لتأكيد الوعد . وفيه تنبيه إلى كثرة ذنوبهم ومعاصيهم وإلى أن الإِسلام يجب ما قبله من ذنوب مهما كثرت .

وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا .

وجمع - سبحانه - بين الإِيمان والتقوى ، للإِيذان بأن الإِيمان الذي ينجى صاحبه ، ويرفع درجاته ، هو ما كان نابعا عن يقين وإخلاص وخشية من الله ، لا إيمان المنافقين الذين يدعون الإِيمان وهو منهم برئ .

والضمير في قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } يعود إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين فتح الله لهم باب الإِيمان ليدخلوا فيه كي ينالوا رضاه .

والمراد بإقامة التوراة والإِنجيل : العمل بما فيهما من بشارات بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وحضهم على الإِيمان به عند ظهوره وتنفيذ ما اشتملا عليه من أحكام أيدتها تعاليم الإِسلام ، وأصل الإِقامة الثبات في المكان . ثم استعير في إقامة الشيء لتوفية حقه .

والمراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن الكريم ، لأنهم مخاطبون به ، وليسوا خارجين عن دائرة التكاليف التي دعا إليها .

قال - تعالى - { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أي : لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به أيضاً جميع من بلغه هذا الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم .

وقيل : المراد بما أنزل إليهم من ربهم . وكتب أنبيائهم السابقين مثل كتاب شعياء ، وكتاب حزقيل ، وكتاب دانيال . فإنها مشتملة أيضاً على البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم .

والمراد بقوله : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } المبالغة في شرح ما ينعم الله به عليهم من خيرات وأرزاق تعمهم من كل جهة من الجهات لا أن هناك فوقا وتحتا .

أي : لأكلوا أكلا متصلا وفيراً ، ولعمهم الخير والرزق من كل جهة بأن تعطيهم السماء مطرها وبركتها ، وتعطيهم الأرض نباتها وخيرها ، فيعيشوا في رغد من العيش ؛ وفي بسطة من الرزق .

وفي ذلك دلالة على أن الاستقامة على شرع الله ، تأتي بالرزق الرغيد ، ولقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في آيات كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - :

{ وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } وقال - تعالى - حكاية عن هود أنه قال لقومه : { وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } والمعنى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ } أي اليهود والنصارى { أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } بأن عملوا بما فيهما من أقوال تدعوهم إلى الإِيمان بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتركوا تحريف الكلم عن مواضعه .

ولو أنهم - أيضاً آمنوا بما { أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } من قرآن مجيد فيه هدايتهم وسعادتهم لو أنهم فعلوا ذلك لأتاهم الرزق الواسع من كل ناحية ولعمهم الخير من كل جهة ، ولعاشوا آمنين مطمئنين .

والمراد بالأكل الانتفاع مطلقاً ، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها .

ومفعول " كلوا " محذوف لقصد التعميم . أو القصد إلى نفس العفل كما في قولهم : فلان يعطي ويمنع .

وقوله : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } مدح للقلة التي تستحق المدح من أهل الكتاب وذم للكثيرين منهم الذين قبح عملهم وفسدت نفوسهم .

والأمة : الجماعة من الناس الذين يجمعهم دين واحد . أو جنس واحد . أو مكان واحد .

ومقتصدة من الاقتصاد وهو الاعتدال في كل شيء والمراد به هنا : السير على الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق والخير ، وهو طريق الإِسلام .

والمعنى : من أهل الكتاب جماعة مستقيمة على طريق الحق ، وهم قلة آمنت بالنبي - صلى الله عليه وسلم إلى جوار هذه الجماعة القليلة المستقيمة عدد كبير من أهل الكتاب ساء عملهم ، وأعوج سلوكهم ، وكان من حالهم ما يثير العجب والدهشة .

والمراد بهذه الأمة المقتصدة من أهل الكتاب من دخل منهم في الإِسلام واتبع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم .

وبذلك نرى هاتين الآيتين قد بشرت أهل الكتاب بالسعادة الدنيوية والأخروية متى آمنوا بالله تعالى - واتبعوا ما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

{ ولو أنهم أقاموا التوراة } أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة ، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس ، إذ هي أظهر هيئات المرء ، وقوله تعالى : { والإنجيل } يقتضي دخول النصارى في لفظ { أهل الكتاب } في هذه الآية ، وقوله تعالى : { وما أنزل إليهم من ربهم } معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء ، واختلف المفسرون في معنى { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي : المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى . وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه ، وذكر النقاش أن المعنى : لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا ، إذ هو من نبات الأرض . قوله تعالى { منهم أمة مقتصدة } معناه : معتدلة ، والقصد والاقتصاد : الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال ، قال الطبري : معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه ، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله ، وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة{[1]} في ملة عيسى عليه السلام ، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي لغير رشدة ، فكفر الطرفان ، وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً .

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا يتخرج قول الطبري : ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم ، وقال ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب ، وهذا هو المترجح ، وقد ذكر الزجّاج{[2]} أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين .

قال القاضي أبو محمد : وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البحتري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله ، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموماً ، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء ، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد صلى الله عليه وسلم { ساء } في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء ، وقد تستعمل { ساء } استعمال نعم وبئس ، كقوله عز وجل : { ساء مثلاً }{[3]} فتلك غير هذه ، يحتاج في هذه التي في قوله { ساء مثلاً } من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس ، وفي هذا نظر .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.