تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ } أي : مذللة بالعمل ، { تُثِيرُ الْأَرْضَ } بالحراثة { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي : ليست بساقية ، { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب أو من العمل { لَا شِيَةَ فِيهَا } أي : لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم .

{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } أي : بالبيان الواضح ، وهذا من جهلهم ، وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة ، فلو أنهم اعترضوا أي : بقرة لحصل المقصود ، ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم ، ولو لم يقولوا " إن شاء الله " لم يهتدوا أيضا إليها ، { فَذَبَحُوهَا } أي : البقرة التي وصفت بتلك الصفات ، { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } بسبب التعنت الذي جرى منهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

وفي قوله تعالى : { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } إضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة ، كانوا في غنى عنها لو أطاعوا نبيهم من أول الأمر ، ولكنهم للجاجتهم ، وسوء اختيارهم ، وبعد أفهامهم عن مقاصد الشريعة ، ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار ، فأصبحوا مكلفين بالبحث عن بقرة موصوفة بأنها متوسطة السن ، لونها أصفر فاقع ، تبهج الناظرين إليها ، وهي ، بعد ذلك ، سائمة نفيسة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقيى الزرع ، سليمة من العيوب ، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو في الصفرة الفاقعة .

وقوله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } صفة لبقرة ، يقال : بقرة ذلول ، أي : ريضة زالت صعوبتها ، وإثارة الأرض : تحريكها وقلبها بالحرث والزراعة والحرث : شقها لإِلقاء البذور فيها .

والمراد : نفي التذليل ونفى إثارة الأرض وسقى الزرع عن البقرة المطلوبة .

أي : هي بقرة صعبة لم يذللها العمل في حراثة الأرض ، ولا في سقي الزرع ، فهي معفاة من العمل في هذه الأشياء .

{ لاَّ } في قوله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } للنفي ، وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَسْقِي الحرث } مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقى ، وأعيد في قوله تعالى { وَلاَ تَسْقِي الحرث } مراعاة للاستعمال الفصيح .

وقوله - تعالى - : { مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } صفتان للبقرة ، ومسلمة مفعلة من السلامة .

والشية : اللون المخالف لبقية لون الشيء ، وأصله من وشى الشيء ، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته .

والمعنى : إن هذه البقرة سليمة من العيوب المختلفة ، وليس فيها لون يخالف لون جلدها من بياض أو سواد أو غيرهما ، بل هي صفراء كلها .

وأرادوا بالحق في قوله تعالى : { قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق } الوصف الواضح الذي لا اشتباه فيه ولا احتمال ، فكأنهم يقولون له : الآن - فقط - جئتنا بحقيقة وصف البقرة ، فقد ميزتها عن جميع ما عداها ، من جهة اللون وكونهها من السوائم لا العوامل ، وبذلك لم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا .

والفاء في قوله تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } قد عطفت ما بعدها على محذوف يدل عليه المقام ، والتقدير فظفروا بها فذبحوها ، أي : فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله - تعالى - لهم ، بعد ما قاربوا أن يتركوا ذبحها ، ويدعوا ما أمروا به ، لتشككهم في صحة ما يوجه إليهم من إرشادات ولكثرة مما طلتهم .

قال صاحب الكشاف : وقوله تعالى : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } استثقال لاستقصائهم ، وأنهم لتطويلهم المفرط . وثكرة استكشافهم ، ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم ، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم ، وقيل : ما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها ، وقيل لخوف الفضيحة في ظهور القاتل " .

/خ74

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض}، يقول: ليست بالذلول التي يعمل عليها في الحرث.

{ولا تسقي الحرث}، يقول: ليست بالذلول التي يسقى عليها بالسواقي الماء للحرث.

{مسلمة}، يعني صحيحة.

{لا شية فيها}: لا وضح فيها، يقول: ليس فيها سواد ولا بياض ولا حمرة...

{جئت بالحق}، يقول: الآن بينت لنا الحق، فانطلقوا حتى وجدوها عند امرأة... فاستاموا بها، فقالوا لموسى: إنها لا تباع إلا بملء مسكها ذهبا، قال موسى: لا تظلموا، انطلقوا اشتروها بما عز وهان، فاشتروها بملء مسكها ذهبا،

{فذبحوها}، فقالوا لموسى: قد ذبحناها، قال: خذوا منها عضوا فاضربوا به القتيل... فقام القتيل... فقال: قتلني فلان وفلان، يعني ابني عمه، ثم وقع ميتا، فأخذا فقتلا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قال موسى: إن الله يقول: إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول. ويعني بقوله:"لا ذَلُولٌ": أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: أنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها، ولا سُنِيَ عليها الماء فيسقى عليها الزرع، كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل: دابة ذلول بينة الذّل، بكسر الذال، ويقال في مثله من بني آدم: رجل ذليل بين الذلّ والذلة.

"تُثِيرُ الأرْضَ": تقلب الأرض للحرث، يقال منه: أثرت الأرض أثيرها إثارة: إذا قلبتها للزرع.

"مُسَلّمَةٌ" مفعلة من السلامة، يقال منه: سلمت تسلم فهي مسلمة.

ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه، فوصفها الله بالسلامة منه...عن مجاهد: مُسَلّمَةٌ يقول: مسلمة من الشية، ولا شِيَة فِيها: لا بياض فيها ولا سواد.

وقال آخرون: مسلمة من العيوب... عن أبي العالية: مُسَلّمَةٌ يعني مسلمة من العيوب...

قال ابن عباس قوله: "مُسَلّمَةٌ": لا عَوَار فيها...

والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد، لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها، لكان في قوله: "مُسَلّمَة" مكتفًى عن قوله: "لا شِيَةَ فِيها".

وفي قوله: "لا شِيَةَ فِيها" ما يوضح عن أن معنى قوله: "مُسَلّمَة" غير معنى قوله: "لا شِيَةَ فِيها". وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة ولا السّنُوّ عليها للمزارع، وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب.

" لا شِيَةَ فِيها": لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من وَشْي الثوب، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سَداه ولُحمته، يقال منه: وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا. ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره: واشٍ، لكذبه عليه عنده وتحسينه كذبه بالأباطيل...

" قَالُوا الآن جِئْتَ بِالحقّ".

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: قَالُوا الآن جِئْتَ بِالحَقّ؛

فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحقّ فتبيناه، وعرفنا أية بقرة عينت. وممن قال ذلك قتادة.

وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبيّ الله موسى صلوات الله عليه إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحقّ في أمر البقرة قبل ذلك. وممن رُوي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد.

وأولى التأويلين عندنا بقوله: "قالُوا الآن جِئْتَ بالحَقّ" قول قتادة وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقرة، فعرفنا أنها الواجب علينا ذبحها منها، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها بعد قيلهم هذا مع غلظ مؤنة ذبحها عليهم وثقل أمرها، فقال: "فَذَبحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ" وإن كانوا قد قالوا بقولهم: الآن بينت لنا الحق، هراء من القول، وأتوا خطأ وجهلاً من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبينا لهم في كل مسألة سألوها إياه، وردّ رادّوه في أمر البقرة الحق. وإنما يقال: الاَن بينت لنا الحق لمن لم يكن مبينا قبل ذلك، فأما من كان كل قيله فيما أبان عن الله تعالى ذكره حقا وبيانا، فغير جائز أن يقال له في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه وأدّى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: الاَنَ جِئْتَ بِالحَقّ كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك.

" فَذَبحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ": "فَذَبحُوها": فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها. ويعني بقوله: "وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ": أي قاربوا أن يدعوا ذبحها، ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك.

ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها وبينت لهم صفتها.

وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن أطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى.

والصواب من التأويل عندنا، أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة للخلّتين كلتيهما؛ إحداهما غلاء ثمنها مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها، والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه على قاتله...

وكان ابن عباس يقول: إن القوم بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله، أنكرت قتلته قتله، فقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآية والحقّ.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وقوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} استثقال لاستقصائهم واستبطاء لهم، وأنهم لتطويلهم المفرط وكثرة استكشافهم، ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قال إنه يقول إنها} أي هذه البقرة التي أطلتم التعنت في أمرها {بقرة لا ذلول} من الذل وهو حسن الانقياد -قاله الحرالي ثم وصف الذلول بقوله {تثير الأرض} أي يتجدد منها إثارتها بالحرث كل وقت من الإثارة قال الحرالي: وهي إظهار الشيء من الثرى، كأنها تخرج الثرى من محتوى اليبس؛ ولما كان الذل وصفاً لازماً عبر في وصفها بانتفائه بالاسم المبالغ فيه، أي ليس الذل وصفاً لازماً لها لا أنها بحيث لا يوجد منها ذل أصلاً، فإنها لو كانت كذلك كانت وحشية لا يقدر عليها أصلاً.

ولما كان لا يتم وصفها بانتفاء الذل إلا بنفي السقي عنها، وكان أمراً يتجدد ليس هو صفة لازمة كالذل، عبر فيه بالفعل، وأصحبه "لا "عطفاً على الوصف لا على تثير لئلا يفسد المعنى، فقال واصفاً للبقرة: {ولا تسقي الحرث} أي لا يتجدد منها سقيه بالسانية كل وقت، ويجوز أن يكون إثبات "لا" فيه تنبيهاً على حذفها قبل تثير، فيكون الفعلان المنفيان تفسيراً على سبيل الاستئناف ل"لا ذلول"، وحذف "لا" قبل تثير لئلا يظن أنه معها وصف لذلول فيفسد المعنى، والمراد أنها لم تذلل بحرث ولا سقي. ومعلوم من القدرة على ابتياعها وتسلمها للذبح أنها ليست في غاية الإباء كما آذن به الوصف بذلول، كل ذلك لما في التوسط من الجمع لأشتات الخير.

{مسلّمة} أي من العيوب {لا شية} أي علامة {فيها} تخالف لونها بل هي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها. {قالوا الآن} أي في هذا الحد من الزمان الكائن الفاصل بين الماضي والآتي.

{جئت بالحق} أي الأمر الثابت المستقر البين من بيان وصف البقرة فحصلوها، {فذبحوها} أي فتسبب عما تقدم كله أنهم ذبحوها {وما كادوا} أي قاربوا قبل هذه المراجعة الأخيرة {يفعلون}...

ومن أحاسن المناسبات أن في كل من آيتي القردة والبقرة تبديل حال الإنسان بمخالطة لحم بعض الحيوانات العجم، ففي الأولى إخراسه بعد نطقه بلحم السمك، وفي الثانية إنطاقه بعد خرسه بالموت بلحم البقر، ولعل تخصيص لحم البقر بهذا الأمر لإيقاظهم من رقدتهم وتنبيههم من غفلتهم عن عظيم قدرة الله تعالى لينزع من قلوبهم التعجب من خوار العجل الذي عبدوه.

وقال الإمام أبو الحسن الحرالي: وفي ذلك تشامّ بين أحوالهم في اتخاذهم العجل وفي طلبهم ذلك، وفي كل ذلك مناسبة بين طباعهم وطباع البقرة المخلوقة للكدّ وعمل الأرض التي معها التعب والذل والتصرف فيما هو من الدنيا توغلاً فيها وفيه نسمة مطلبهم ما تنبت الأرض الذي هو أثر الحرث- يعني الذي أبدلوا الحطة به وهو حبة في شعرة، فكأنهم بذلك أرضيون ترابيون لا تسمو طباع أكثرهم إلى الأمور الروحانية العلوية، فإن جبلة كل نفس تناسب ما تنزع إليه وتلهج به من أنواع الحيوان. {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً} [الشورى: 11] -انتهى.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{قال إنه يقول إنها بقرة} سائمة {لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} أي غير مذللة بالعمل في الحراثة ولا في السقي.

{مسلمة} من العيوب أو من سائر الأعمال {لا شية فيها} أي ليس فيها لون آخر غير الصفرة الفاقعة... ولما استوفى جميع المميزات والمشخصات ولم يروا سبيلا إلى سؤال آخر. {قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون} أي وما قاربوا أن يذبحوها إلا بعد أن انتهت أسئلتهم، وانقطع ما كان من تنطعهم وتعنتهم. روى ابن جرير في التفسير بسند صحيح عن ابن عباس موقوفا "لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم "وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا: وهاهنا يذكر المفسرون قصة في حكمة هذا التشديد وهو المصير إلى بقرة معينة لشخص معين كان بارا بوالدته وقد يكون هذا صحيحا غير أنه لا داعي إليه في التفسير وبيان المعنى. وقد يشتبه بعض الناس فيما ذكر بأن أحكام الله تعالى لا تكون تابعة لأفعال الناس العارضة ويرد هذه الشبهة أن التكليف كثيرا ما يكون عقوبة لأنه تربية للناس.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقوله: {قالوا الآن جئت بالحق} أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول جاء بالأمر على وجهه، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم. فإن قلت: لماذا ذكر هنا بلفظ الحق؟ وهلا قيل قالوا: الآن جئت بالبيان أو بالثبت؟ قلت: لعل الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه من العربية تنبيهاً على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم {راعنا}، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} [البقرة: 104]

وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها تقصيراً كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظناً منهم أن في علم النبيء بهذه الأغراض الدنيوية كمالاً فيه، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم {الآن جئت بالحق} كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال: الآن أصبت الجواب، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع، فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله.

وقوله: {وما كادوا يفعلون} تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة، تارة بالإعراض والتفريط، وتارة بكثرة التوقف والإفراط، وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية...

وكان النبيء صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن كثرة السؤال وقال:"فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل: فضالّة الغنم قال: « هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها».

جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :

واختيار البقرة للذبح في هذه القضية دون غيرها من سائر الحيوان -مع أن الله تعالى قادر على بعث ميتهم بما يشاؤه من الأسباب وبدون أي سبب- إما لتمحيص إيمانهم وابتلاء عزيمتهم فإن البقر عنصر مقدس بمقتضى عقيدة الكفر التي اعتنقوها حينما عبدوا العجل، فكان في ذبحهم لها تحقيق لتوبتهم مما كانوا فيه، وإما لكشف ما بهم من غباوة تثير استغراب من يسمع قصتهم ويقارن بين حاليهم؛ فموسى عليه السلام رسول من الله لا يتكلم إلا بوحيه، ولا يدعو إلا إلى هديه، وقد أبلغهم عن الله عز وجل أنه يأمرهم بذبح بقرة، وقد كان الواجب يقتضيهم أن لا يترددوا في امتثال الأمر، إذ لم يأمرهم إلا بمعقول شرعا، ومقبول وضعا، فإن ذبح البقر أمر معهود بين الناس غير أنهم ما كان منهم إلا سوء الظن بالقائل والتعنت في الأمر بينما هم -عندما أمرهم السامري بعبادة العجل- لم يتعنتوا عليه ولم يسيئوا به الظن، بل اندفعوا إلى ما أراده منهم، متجاهلين للأوامر الشرعية ومتعامين عن البراهين العقلية، القاضية بضلال ما كانوا يعملون.

وبعد أن انسدت في وجوههم الأبواب بما ووجهوا به من جواب عن كل مسألة جاءوا بها: {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}، ومفهوم قولهم هذا أن ما جاء به من قبل لم يكن حقا، ولذلك حكم عليهم قتادة أنهم كفروا به، ولم يرد ذلك غيره وإنما حملوه على ما اعتيد منهم من سوء القول الناشئ عن جفاء الطبع، وهؤلاء اختلفوا في المقصود بالحق؛ منهم من حمله على الحقيقة، أي الآن جئت بالحقيقة الناصعة، ويقرب منه قول من قال إنه بمعنى القول المطابق للواقع، وفسره بعضهم بمعنى الأمر المقضي أو اللازم، وذلك أنهم لم يجدوا مناصا عنه بعد هذه المعاذير التي جاءوا بها في صورة الاستفهام عن حقيقة ما طولبوا به. وقد هيأ الله لهم البقرة الجامعة لما ذكر من الأوصاف: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}.

وقد كان تيسيرها لهم فضلا من الله ورحمة، إذ اجتماع هذه الأوصاف جميعها في بقرة واحدة من الندرة بمكان...