{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ } أي : مذللة بالعمل ، { تُثِيرُ الْأَرْضَ } بالحراثة { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي : ليست بساقية ، { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب أو من العمل { لَا شِيَةَ فِيهَا } أي : لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم .
{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } أي : بالبيان الواضح ، وهذا من جهلهم ، وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة ، فلو أنهم اعترضوا أي : بقرة لحصل المقصود ، ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم ، ولو لم يقولوا " إن شاء الله " لم يهتدوا أيضا إليها ، { فَذَبَحُوهَا } أي : البقرة التي وصفت بتلك الصفات ، { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } بسبب التعنت الذي جرى منهم .
وفي قوله تعالى : { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } إضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة ، كانوا في غنى عنها لو أطاعوا نبيهم من أول الأمر ، ولكنهم للجاجتهم ، وسوء اختيارهم ، وبعد أفهامهم عن مقاصد الشريعة ، ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار ، فأصبحوا مكلفين بالبحث عن بقرة موصوفة بأنها متوسطة السن ، لونها أصفر فاقع ، تبهج الناظرين إليها ، وهي ، بعد ذلك ، سائمة نفيسة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقيى الزرع ، سليمة من العيوب ، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو في الصفرة الفاقعة .
وقوله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } صفة لبقرة ، يقال : بقرة ذلول ، أي : ريضة زالت صعوبتها ، وإثارة الأرض : تحريكها وقلبها بالحرث والزراعة والحرث : شقها لإِلقاء البذور فيها .
والمراد : نفي التذليل ونفى إثارة الأرض وسقى الزرع عن البقرة المطلوبة .
أي : هي بقرة صعبة لم يذللها العمل في حراثة الأرض ، ولا في سقي الزرع ، فهي معفاة من العمل في هذه الأشياء .
{ لاَّ } في قوله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } للنفي ، وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَسْقِي الحرث } مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقى ، وأعيد في قوله تعالى { وَلاَ تَسْقِي الحرث } مراعاة للاستعمال الفصيح .
وقوله - تعالى - : { مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } صفتان للبقرة ، ومسلمة مفعلة من السلامة .
والشية : اللون المخالف لبقية لون الشيء ، وأصله من وشى الشيء ، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته .
والمعنى : إن هذه البقرة سليمة من العيوب المختلفة ، وليس فيها لون يخالف لون جلدها من بياض أو سواد أو غيرهما ، بل هي صفراء كلها .
وأرادوا بالحق في قوله تعالى : { قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق } الوصف الواضح الذي لا اشتباه فيه ولا احتمال ، فكأنهم يقولون له : الآن - فقط - جئتنا بحقيقة وصف البقرة ، فقد ميزتها عن جميع ما عداها ، من جهة اللون وكونهها من السوائم لا العوامل ، وبذلك لم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا .
والفاء في قوله تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } قد عطفت ما بعدها على محذوف يدل عليه المقام ، والتقدير فظفروا بها فذبحوها ، أي : فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله - تعالى - لهم ، بعد ما قاربوا أن يتركوا ذبحها ، ويدعوا ما أمروا به ، لتشككهم في صحة ما يوجه إليهم من إرشادات ولكثرة مما طلتهم .
قال صاحب الكشاف : وقوله تعالى : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } استثقال لاستقصائهم ، وأنهم لتطويلهم المفرط . وثكرة استكشافهم ، ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم ، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم ، وقيل : ما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها ، وقيل لخوف الفضيحة في ظهور القاتل " .
ولم يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيدا ، وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصرا وضيقا ، بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة ، كانوا في سعة منها وفي غنى عنها :
( قال : إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، مسلمة لا شية فيها ) .
وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر . صفراء فاقع لونها فارهة فحسب . بل لم يعد بد أن تكون - مع هذا - بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع ؛ وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة .
هنا فقط . . وبعد أن تعقد الأمر ، وتضاعفت الشروط ، وضاق مجال الاختيار :
( قالوا : الآن جئت بالحق ) . .
الآن ! كأنما كان كل ما مضى ليس حقا . أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة ! ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ! !
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي : إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية ، بل هي مكرمة حسنة صبيحة { مُسَلَّمَةٌ } صحيحة لا عيب فيها { لا شِيَةَ فِيهَا } أي : ليس فيها لون غير لونها .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة { مُسَلَّمَةٌ } يقول : لا عيب فيها ، وكذا قال أبو العالية والربيع ، وقال مجاهد { مُسَلَّمَةٌ } من الشية .
وقال عطاء الخراساني : { مُسَلَّمَةٌ } القوائم والخلق { لا شِيَةَ فِيهَا } قال مجاهد : لا بياض ولا سواد . وقال أبو العالية والربيع ، والحسن وقتادة : ليس فيها بياض . وقال عطاء الخراساني : { لا شِيَةَ فِيهَا } قال : لونها واحد بهيم . وروي عن عطية العوفي ، ووهب بن منبه ، وإسماعيل بن أبي خالد ، نحو ذلك . وقال السدي : { لا شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة ، وكل هذه الأقوال متقاربة [ في المعنى ، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال : { تُثِيرُ الأرْضَ } أي : يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث ، وهذا ضعيف ؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره ]{[1990]}
{ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } قال قتادة : الآن بَيَّنْتَ لنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وقبل ذلك - والله{[1991]} - قد جاءهم الحق .
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : كادوا ألا يفعلوا ، ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها .
يعني أنَّهم مع هذا البيان{[1992]} وهذه الأسئلة ، والأجوبة ، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد ، وفي هذا ذم لهم ، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت ، فلهذا ما كادوا يذبحونها .
وقال محمد بن كعب ، ومحمد بن قيس : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } لكثرة ثمنها .
وفي هذا نظر ؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل ، كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي ، ورواه العوفي عن ابن عباس . وقال عبيدة ، ومجاهد ، ووهب بن منبه ، وأبو العالية ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنهم اشتروها بمال كثير{[1993]} وفيه اختلاف ، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك . وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة ، أخبرني محمد بن سوقة ، عن عكرمة ، قال : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير{[1994]} هذا إسناد جيد عن عكرمة ، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضًا .
وقال ابن جرير : وقال آخرون : لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة ، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه .
ولم يسنده عن أحد ، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها ، وللفضيحة . وفي هذا نظر ، بل الصواب - والله أعلم - ما تقدم من رواية الضحاك ، عن ابن عباس ، على ما وجهناه . وبالله التوفيق .
مسألة : استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها " {[1995]} . وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث ، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون : لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله ، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم .
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 )
{ ذلول } : مذللة بالعمل والرياضة ، تقول بقرة مذللة بيِّنة الذِّل بكسر الذال ، ورجل ذلول بين الذُّل بضم الذال( {[782]} ) ، و { ذلول } نعت ل { بقرة } ، أو على إضمار هي ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «لا ذلولَ » بنصب اللام( {[783]} ) .
و { تثير الأرض } ، معناه بالحراثة ، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة ، أي لا ذلول مثيرة ، وقال قوم { تثير } فعل مستأنف ، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي( {[784]} ) ، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ، لأنها من نكرة( {[785]} ) ، و { تسقي الحرث } معناه بالسانية( {[786]} ) أو غيرها من الآلات ، و { الحرث } ما حرث وزرع .
و { مسلمة } بناء مبالغة( {[787]} ) من السلامة ، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية : معناه من العيوب( {[788]} ) ، وقال مجاهد : معناه من الشيات والألوان ، وقال قوم : معناه من العمل .
و { لا شية فيها } : أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره ، والموشي المختلط الألوان ، ومنه وشي الثوب ، تزيينه بالألوان ، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول ، والثور الأشيه الذي فيه بلقة ، يقال فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وكلب أبقع ، وثور أشيه ، كل ذلك بمعنى البلقة( {[789]} ) .
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يُسْرٌ ، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم( {[790]} ) .
وقصة( {[791]} ) وجود هذه البقرة على ما روي ، أن رجلاً من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة ، فأرسلها في غيضة ، وقال : اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي ، ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه : إن أباك قد استودع الله عجلةً لك ، فاذهب فخذها ، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها ، وكانت مستوحشة ، فجعل يقودها نحو أمه ، فلقيه بنو إسرائيل ، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها ، وروت طائفة أنه كان رجل من بني إسرائيل براً بأبيه فنام أبوه يوماً وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما ، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفاً ، فقال له ابن النائم : اصبر حتى ينتبه أبي ، وأنا آخذه منك بسبعين ألفاً ، فقال له صاحب الجوهر : نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفاً ، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف ، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفاً ، فقال له ابن النائم : والله لا اشتريته منك بشيء براً بأبيه ، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده ، وقال قوم : وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم ، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها ، هذا معناه ، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها ، فاشتط عليهم ، وكانت قيمتها - على ما روي عن عكرمة - ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه السلام ، وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ، قاله عبيدة السلماني( {[792]} ) ، وقيل بوزنها مرتين ، وقال السدي : بوزنها عشر مرات ، وقال مجاهد : كانت لرجل يبر أمه ، وأخذت منه بملء جلدها دنانير ، وحكى مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض ، وحكى الطبري عن الحسن أنها كانت وحشية .
و { الآن } مبنيٌّ على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام ، ألا ترى أنها لا تفارقه في الاستعمال ، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف ، ولأنه واقع موقع المبهم( {[793]} ) ، إذ معناه هذا الوقت ، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل ، وقرىء «قالوا الآن » بسكون اللام وهمزة بعدها ، «وقالوا الان » بمدة على الواو وفتح اللام دون همز ، «وقالوا الآن » بحذف الواو من اللفظ دون همز ، «وقالوا ألآن » بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل ، كما تقول «يا الله » .
و { جئت بالحق } معناه - عند من جعلهم عصاة( {[794]} )- بينت لنا غاية البيان ، و { جئت بالحق } الذي طلبناه ، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق ، ومعناه عند ابن زيد - الذي حمل محاورتهم على الكفر- : الآن صدقت . وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة ، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف ، وقالوا : هذه بقرة فلان ، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر ، وإن نحرت أجزت( {[795]} ) .
وقوله تعالى : { وما كادوا( {[796]} ) يفعلون } عبارة عن تثبطهم في ذبحها ، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى ، وقال محمد بن كعب القرظي : كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها ، وقال غيره : كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القتال ، وقيل : كان ذلك للمعهود من قلة( {[797]} ) انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء .
والذلول بفتح الذال فعول من ذل ذلاً بكسر الذال في المصدر بمعنى لان وسهل . وأما الذل بضم الذال فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين . والمعنى إنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة .
و { لا ذلول } صفة لبقرة . وجملة { تثير الأرض } حال من { ذلول } .
وإثارة الأرض حرثها وقلب داخل ترابها ظاهراً وظاهره باطناً ، أطلق على الحرث فعل الإثارة تشبيهاً لانقلال أجزاء الأرض بثورة الشيء من مكانه إلى مكان آخر كما قال تعالى : { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] أي تبعثه وتنقله ونظير هذا الاستعمال قوله في سورة الروم ( 9 ) : { وأثاروا الأرض ولا تسقي الحرث } في محل نصب على الحال .
وإقحام ( لا ) بعد حرف العطف في قوله : { ولا تسقي الحرث } مع أن حرف العطف على المنفي بها يغني عن إعادتها إنما هو لمراعاة الاستعمال الفصيح في كل وصف أو ما في معناه أدخل فيه حرف لا كما تقدم في قوله تعالى : { لا فارض ولا بكر } [ البقرة : 68 ] فإنه لما قيدت صفة ذلول بجملة تسقى الحرث صار تقدير الكلام أنها بقرة لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث فجرت الآية على الاستعمال الفصيح من إعادة ( لا ) وبذلك لم تكن في هذه الآية حجة للمبرد كما يظهر بالتأمل .
واختير الفعل المضارع في ( تثير ) و ( تسقي ) لأنه الأنسب بذلول إذ الوصف شبيه بالمضارع ولأن المضارع دال على الحال .
و { مسلمة } أي سليمة من عيوب نوعها فهو اسم مفعول من سلمت المبني للمفعول وكثيراً ما تذكر الصفات التي تعرض في أصل الخلقة بصيغة البناء للمجهول في الفعل والوصف إذ لا يخطر على باب المتكلم تعيين فاعل ذلك ، ومن هذا معظم الأفعال التي التزم فيها البناء للمجهول .
وقوله : { لا شية فيها } صفة أخرى تميز هذه البقرة عن غيرها . والشية العلامة وهي بزنة فعلة من وشى الثوب إذا نسجه ألواناً وأصل شية وِشية ويقول العرب ثوب موشى وثوب وشي ، ويقولون : ثور موشى الأكارع لأن في أكارع ثور الوحش سواد يخالط صفرته فهو ثور أشية ونظائره قولهم فرس أبلق ، وكبش أدرع ، وتيس أزرق وغراب أبقع ، بمعنى مختلط لونين .
وقوله : { قالوا الآن جئت بالحق } أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول جاء بالأمر على وجهه ، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم .
فإن قلت : لماذا ذكر هنا بلفظ الحق ؟ وهلا قيل قالوا : الآن جئت بالبيان أو بالثبت ؟
قلت : لعل الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه من العربية تنبيهاً على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم { راعنا } ، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } [ البقرة : 104 ] وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها تقصيراً كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظناً منهم أن في علم النبيء بهذه الأغراض الدنيوية كمالاً فيه ، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم { الآن جئت بالحق } كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال : الآن أصبت الجواب ، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع ، فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله .
عطفت الفاء جملة { فذبحوها } على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو نحو ذلك وهذا من إيجاز الحذف الاقتصاري ، ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة ولك أن تقول إن فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقاً كما تقدم .
وقوله : { وما كادوا يفعلون } تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة ، تارة بالإعراض والتفريط ، وتارة بكثرة التوقف والإفراط ، وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة ، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية ، ولذلك قال ابن عباس : لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم . وروى ابن مردويه والبزار وابن أبي حاتم بسندهم إلى الحسن البصري عن رافع عن أبي هريرة أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال : " لو اعترضوا أدنى بقرة فدبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم " وفي سنده عبادة بن منصور وهوضعيف ، وكان النبيء صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن كثرة السؤال وقال : " فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل : فضالّة الغنم قال : « هي لك أو لأخيك أو للذئب ، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال مالك ولها ، معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها » .
وجملة : { وما كادوا يفعلون } تحتمل الحال والاستئناف ، والأول أظهر لأنه أشد ربطاً للجملة وذلك أصل الجمل أي ذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل ، والمعنى أنهم ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة وبذلك يكون وقت الذبح ووقت الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتاً متحداً اتحاداً عرفياً بحسب المقامات الخطابية للإشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح . وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين أي فذبحوها عند ذلك أي عند إتمام الصفات ، وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن يفعل .
ثم إن { ما كادوا يفعلون } يقتضي بحسب الوضع نفي مدلول كاد فإن مدلولها المقاربة ونفي مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى فيقال أنى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله : { فذبحوها } ؟ فأما على وجه الاستئناف فيمكن الجواب بأن نفي مقاربة الفعل كان قبل الذبح حين كرروا السؤال وأظهروا المطال ثم وقع الذبح بعد ذلك ، وقد أجاب بمثل هذا جماعة يعنون كأن الفعل وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه على أنه مبني على جعل الواو استئنافاً وقد علمتم بعده .
فالوجه القاطع للإشكال هو أن أئمة العربية قد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل فذهب قوم منهم الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى فيكون إثبات كاد نفياً لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم أي قارب فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل ونفيها نفياً للفعل بطريق فحوى الخطاب فهو كالمنطوق وأن ما وردمما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة كلامين ومنه قوله تعالى : { وما كادوا يفعلون } في هذه الآية أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك ، ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين ، وإلى هذا ذهب ابن مالك في « الكافية » إذ قال :
وبثُبوت كاد يُنفَى الخبـرُ *** وحينَ ينفى كادَ ذاك أَجدر
وغير ذَا على كَلاَمَيْن يَرِدْ *** كَوَلَدَتْ هند ولم تَكَد تَلِـد
وهذا المذهب وقوف مع قياس الوضع .
وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول وأن نفيها يصير إثباتاً على خلاف القياس وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله :
َأنْحويَّ هذا العَصر ما هي لفظـــة *** أنت في لسانَيْ جُرهم وثَمود
إذا استُعْمِلَتْ في صورة الجَحْدِ أَثْبَتَتْ *** وإن أُثْبِتَتْ قامت مقامَ جُحُود
وقد احتجوا لذلك بقوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي .
وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في « دلائل الإعجاز » وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال : قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة ينشد قصيدته الحائية التي أولها :
أَمَنْزِلَتَيْ مَيٍّ سلام عليكما *** على النَّأْي والنَّائِي يَوَدُّ وينصَح
إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحبين لم يَكَدْ *** رَسِيسُ الهَوَى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة يا غيلان أراه قد برح قال : فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال : « لم أجد » عوض « لم يكد » قال عنبسة : فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي : أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة ، وأخطأ ذو الرمة حين غَيَّر شعره لقول ابن شبرمة : إنما هذا كقول الله تعالى : { ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يَكَدْ يراها } [ النور : 40 ] وإنما هو لم يرها ولم يكد .
وذهب قوم منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في « التسهيل » إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيداً في الظن أن يقع وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه ، ولعلهم يجعلون نحو قوله { فذبحوها } قرينة على هذا القصد .
قال في « التسهيل » : « وتنفي كاد إعلاماً بوقوع الفعل عسيراً أو بعدمه وعدم مقاربته » واعتذر في { شرحه للتسهيل } عن ذي الرمة في تغييره بيته بأنه غيره لدفع احتمال هذا الاستعمال .
وذهب قوم إلى أن كاد إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين { لم يكد يراها } [ النور : 40 ] { وما كادوا يفعلون وأن نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال بخلاف نفي المضارع . وزعم بعضهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما يفعل إن ذلك من قبيل القلب الشائع .
وعندي أن الحق هو المذهب الثاني وهو أن نفيها في معنى الإثبات وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة معنى النفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في لو ولولا ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة ولعل ذلك من قبيل القلب المطرد فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل ، ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النفي الذي حقه التأخير مقدماً ولعل هذا الذي أشار إليه المعري بقوله : جرت في لساني جرهم وثمود ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته وهو من أهل اللسان وأصحاب الذوق ، فإنه وإن كان من عصر المولدين إلا أنه لانقطاعه إلى سكنى باديته كان في مرتبة شعراء العرب حتى عد فيمن يحتج بشعره ، وما كان مثله ليغير شعره بعد التفكر لو كان لصحته وجه فما اعتذر به عنه ابن مالك في ضعيف . وأما دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد هذا الاستعمال حتى في آية { لم يكد يراها } فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء وقال تأبط شراً « فأُبت إلى فهم وما كدت آيباً » وقال تعالى : { ولا يكاد يبين } [ الزخرف : 52 ] . وإنما قال : { وما كادوا يفعلون } ولم يقل يذبحون كراهية إعادة اللفظ تفنناً في البيان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض}، يقول: ليست بالذلول التي يعمل عليها في الحرث.
{ولا تسقي الحرث}، يقول: ليست بالذلول التي يسقى عليها بالسواقي الماء للحرث.
{لا شية فيها}: لا وضح فيها، يقول: ليس فيها سواد ولا بياض ولا حمرة...
{جئت بالحق}، يقول: الآن بينت لنا الحق، فانطلقوا حتى وجدوها عند امرأة... فاستاموا بها، فقالوا لموسى: إنها لا تباع إلا بملء مسكها ذهبا، قال موسى: لا تظلموا، انطلقوا اشتروها بما عز وهان، فاشتروها بملء مسكها ذهبا،
{فذبحوها}، فقالوا لموسى: قد ذبحناها، قال: خذوا منها عضوا فاضربوا به القتيل... فقام القتيل... فقال: قتلني فلان وفلان، يعني ابني عمه، ثم وقع ميتا، فأخذا فقتلا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال موسى: إن الله يقول: إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول. ويعني بقوله:"لا ذَلُولٌ": أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: أنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها، ولا سُنِيَ عليها الماء فيسقى عليها الزرع، كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل: دابة ذلول بينة الذّل، بكسر الذال، ويقال في مثله من بني آدم: رجل ذليل بين الذلّ والذلة.
"تُثِيرُ الأرْضَ": تقلب الأرض للحرث، يقال منه: أثرت الأرض أثيرها إثارة: إذا قلبتها للزرع.
"مُسَلّمَةٌ" مفعلة من السلامة، يقال منه: سلمت تسلم فهي مسلمة.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه، فوصفها الله بالسلامة منه...عن مجاهد: مُسَلّمَةٌ يقول: مسلمة من الشية، ولا شِيَة فِيها: لا بياض فيها ولا سواد.
وقال آخرون: مسلمة من العيوب... عن أبي العالية: مُسَلّمَةٌ يعني مسلمة من العيوب...
قال ابن عباس قوله: "مُسَلّمَةٌ": لا عَوَار فيها...
والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد، لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها، لكان في قوله: "مُسَلّمَة" مكتفًى عن قوله: "لا شِيَةَ فِيها".
وفي قوله: "لا شِيَةَ فِيها" ما يوضح عن أن معنى قوله: "مُسَلّمَة" غير معنى قوله: "لا شِيَةَ فِيها". وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة ولا السّنُوّ عليها للمزارع، وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب.
" لا شِيَةَ فِيها": لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من وَشْي الثوب، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سَداه ولُحمته، يقال منه: وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا. ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره: واشٍ، لكذبه عليه عنده وتحسينه كذبه بالأباطيل...
" قَالُوا الآن جِئْتَ بِالحقّ".
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: قَالُوا الآن جِئْتَ بِالحَقّ؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحقّ فتبيناه، وعرفنا أية بقرة عينت. وممن قال ذلك قتادة.
وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبيّ الله موسى صلوات الله عليه إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحقّ في أمر البقرة قبل ذلك. وممن رُوي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد.
وأولى التأويلين عندنا بقوله: "قالُوا الآن جِئْتَ بالحَقّ" قول قتادة وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقرة، فعرفنا أنها الواجب علينا ذبحها منها، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها بعد قيلهم هذا مع غلظ مؤنة ذبحها عليهم وثقل أمرها، فقال: "فَذَبحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ" وإن كانوا قد قالوا بقولهم: الآن بينت لنا الحق، هراء من القول، وأتوا خطأ وجهلاً من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبينا لهم في كل مسألة سألوها إياه، وردّ رادّوه في أمر البقرة الحق. وإنما يقال: الاَن بينت لنا الحق لمن لم يكن مبينا قبل ذلك، فأما من كان كل قيله فيما أبان عن الله تعالى ذكره حقا وبيانا، فغير جائز أن يقال له في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه وأدّى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: الاَنَ جِئْتَ بِالحَقّ كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك.
" فَذَبحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ": "فَذَبحُوها": فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها. ويعني بقوله: "وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ": أي قاربوا أن يدعوا ذبحها، ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها وبينت لهم صفتها.
وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن أطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى.
والصواب من التأويل عندنا، أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة للخلّتين كلتيهما؛ إحداهما غلاء ثمنها مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها، والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه على قاتله...
وكان ابن عباس يقول: إن القوم بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله، أنكرت قتلته قتله، فقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآية والحقّ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} استثقال لاستقصائهم واستبطاء لهم، وأنهم لتطويلهم المفرط وكثرة استكشافهم، ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال إنه يقول إنها} أي هذه البقرة التي أطلتم التعنت في أمرها {بقرة لا ذلول} من الذل وهو حسن الانقياد -قاله الحرالي ثم وصف الذلول بقوله {تثير الأرض} أي يتجدد منها إثارتها بالحرث كل وقت من الإثارة قال الحرالي: وهي إظهار الشيء من الثرى، كأنها تخرج الثرى من محتوى اليبس؛ ولما كان الذل وصفاً لازماً عبر في وصفها بانتفائه بالاسم المبالغ فيه، أي ليس الذل وصفاً لازماً لها لا أنها بحيث لا يوجد منها ذل أصلاً، فإنها لو كانت كذلك كانت وحشية لا يقدر عليها أصلاً.
ولما كان لا يتم وصفها بانتفاء الذل إلا بنفي السقي عنها، وكان أمراً يتجدد ليس هو صفة لازمة كالذل، عبر فيه بالفعل، وأصحبه "لا "عطفاً على الوصف لا على تثير لئلا يفسد المعنى، فقال واصفاً للبقرة: {ولا تسقي الحرث} أي لا يتجدد منها سقيه بالسانية كل وقت، ويجوز أن يكون إثبات "لا" فيه تنبيهاً على حذفها قبل تثير، فيكون الفعلان المنفيان تفسيراً على سبيل الاستئناف ل"لا ذلول"، وحذف "لا" قبل تثير لئلا يظن أنه معها وصف لذلول فيفسد المعنى، والمراد أنها لم تذلل بحرث ولا سقي. ومعلوم من القدرة على ابتياعها وتسلمها للذبح أنها ليست في غاية الإباء كما آذن به الوصف بذلول، كل ذلك لما في التوسط من الجمع لأشتات الخير.
{مسلّمة} أي من العيوب {لا شية} أي علامة {فيها} تخالف لونها بل هي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها. {قالوا الآن} أي في هذا الحد من الزمان الكائن الفاصل بين الماضي والآتي.
{جئت بالحق} أي الأمر الثابت المستقر البين من بيان وصف البقرة فحصلوها، {فذبحوها} أي فتسبب عما تقدم كله أنهم ذبحوها {وما كادوا} أي قاربوا قبل هذه المراجعة الأخيرة {يفعلون}...
ومن أحاسن المناسبات أن في كل من آيتي القردة والبقرة تبديل حال الإنسان بمخالطة لحم بعض الحيوانات العجم، ففي الأولى إخراسه بعد نطقه بلحم السمك، وفي الثانية إنطاقه بعد خرسه بالموت بلحم البقر، ولعل تخصيص لحم البقر بهذا الأمر لإيقاظهم من رقدتهم وتنبيههم من غفلتهم عن عظيم قدرة الله تعالى لينزع من قلوبهم التعجب من خوار العجل الذي عبدوه.
وقال الإمام أبو الحسن الحرالي: وفي ذلك تشامّ بين أحوالهم في اتخاذهم العجل وفي طلبهم ذلك، وفي كل ذلك مناسبة بين طباعهم وطباع البقرة المخلوقة للكدّ وعمل الأرض التي معها التعب والذل والتصرف فيما هو من الدنيا توغلاً فيها وفيه نسمة مطلبهم ما تنبت الأرض الذي هو أثر الحرث- يعني الذي أبدلوا الحطة به وهو حبة في شعرة، فكأنهم بذلك أرضيون ترابيون لا تسمو طباع أكثرهم إلى الأمور الروحانية العلوية، فإن جبلة كل نفس تناسب ما تنزع إليه وتلهج به من أنواع الحيوان. {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً} [الشورى: 11] -انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال إنه يقول إنها بقرة} سائمة {لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} أي غير مذللة بالعمل في الحراثة ولا في السقي.
{مسلمة} من العيوب أو من سائر الأعمال {لا شية فيها} أي ليس فيها لون آخر غير الصفرة الفاقعة... ولما استوفى جميع المميزات والمشخصات ولم يروا سبيلا إلى سؤال آخر. {قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون} أي وما قاربوا أن يذبحوها إلا بعد أن انتهت أسئلتهم، وانقطع ما كان من تنطعهم وتعنتهم. روى ابن جرير في التفسير بسند صحيح عن ابن عباس موقوفا "لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم "وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا: وهاهنا يذكر المفسرون قصة في حكمة هذا التشديد وهو المصير إلى بقرة معينة لشخص معين كان بارا بوالدته وقد يكون هذا صحيحا غير أنه لا داعي إليه في التفسير وبيان المعنى. وقد يشتبه بعض الناس فيما ذكر بأن أحكام الله تعالى لا تكون تابعة لأفعال الناس العارضة ويرد هذه الشبهة أن التكليف كثيرا ما يكون عقوبة لأنه تربية للناس.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {قالوا الآن جئت بالحق} أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول جاء بالأمر على وجهه، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم. فإن قلت: لماذا ذكر هنا بلفظ الحق؟ وهلا قيل قالوا: الآن جئت بالبيان أو بالثبت؟ قلت: لعل الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه من العربية تنبيهاً على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم {راعنا}، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} [البقرة: 104]
وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها تقصيراً كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظناً منهم أن في علم النبيء بهذه الأغراض الدنيوية كمالاً فيه، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم {الآن جئت بالحق} كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال: الآن أصبت الجواب، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع، فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله.
وقوله: {وما كادوا يفعلون} تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة، تارة بالإعراض والتفريط، وتارة بكثرة التوقف والإفراط، وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية...
وكان النبيء صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن كثرة السؤال وقال:"فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل: فضالّة الغنم قال: « هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها».
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
واختيار البقرة للذبح في هذه القضية دون غيرها من سائر الحيوان -مع أن الله تعالى قادر على بعث ميتهم بما يشاؤه من الأسباب وبدون أي سبب- إما لتمحيص إيمانهم وابتلاء عزيمتهم فإن البقر عنصر مقدس بمقتضى عقيدة الكفر التي اعتنقوها حينما عبدوا العجل، فكان في ذبحهم لها تحقيق لتوبتهم مما كانوا فيه، وإما لكشف ما بهم من غباوة تثير استغراب من يسمع قصتهم ويقارن بين حاليهم؛ فموسى عليه السلام رسول من الله لا يتكلم إلا بوحيه، ولا يدعو إلا إلى هديه، وقد أبلغهم عن الله عز وجل أنه يأمرهم بذبح بقرة، وقد كان الواجب يقتضيهم أن لا يترددوا في امتثال الأمر، إذ لم يأمرهم إلا بمعقول شرعا، ومقبول وضعا، فإن ذبح البقر أمر معهود بين الناس غير أنهم ما كان منهم إلا سوء الظن بالقائل والتعنت في الأمر بينما هم -عندما أمرهم السامري بعبادة العجل- لم يتعنتوا عليه ولم يسيئوا به الظن، بل اندفعوا إلى ما أراده منهم، متجاهلين للأوامر الشرعية ومتعامين عن البراهين العقلية، القاضية بضلال ما كانوا يعملون.
وبعد أن انسدت في وجوههم الأبواب بما ووجهوا به من جواب عن كل مسألة جاءوا بها: {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}، ومفهوم قولهم هذا أن ما جاء به من قبل لم يكن حقا، ولذلك حكم عليهم قتادة أنهم كفروا به، ولم يرد ذلك غيره وإنما حملوه على ما اعتيد منهم من سوء القول الناشئ عن جفاء الطبع، وهؤلاء اختلفوا في المقصود بالحق؛ منهم من حمله على الحقيقة، أي الآن جئت بالحقيقة الناصعة، ويقرب منه قول من قال إنه بمعنى القول المطابق للواقع، وفسره بعضهم بمعنى الأمر المقضي أو اللازم، وذلك أنهم لم يجدوا مناصا عنه بعد هذه المعاذير التي جاءوا بها في صورة الاستفهام عن حقيقة ما طولبوا به. وقد هيأ الله لهم البقرة الجامعة لما ذكر من الأوصاف: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}.
وقد كان تيسيرها لهم فضلا من الله ورحمة، إذ اجتماع هذه الأوصاف جميعها في بقرة واحدة من الندرة بمكان...