{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }
أي : أما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه ، ورحمته بعباده ، وأدلة توحيده ، وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ما فعله الله بأصحاب الفيل .
1- سورة " الفيل " وسماها بعضهم سورة " ألم تر . . . " من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس آيات ، وكان نزولها بعد سورة " قل يأيها الكافرون " ، وقبل سورة " القيامة " ، فهي السورة التاسعة عشرة في ترتيب النزول من بين السور المكية .
2- ومن أهم مقاصدها تذكير أهل مكة بفضل الله –تعالى- عليهم ، حيث منع كيد أعدائهم عنهم ، وعن بيته الحرام ، وبيان أن هذا البيت له مكانته السامية عنده –تعالى- ، وأن من أراده بسوء قصمه الله –تعالى- ، وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم بأنه –سبحانه- كفيل برعايته ونصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة على أبرهة وجيشه ، وتثبيت المؤمنين على الحق ، لكي يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وبيان أن الله –سبحانه- غالب على أمره .
3- وقصة أصحاب الفيل من القصص المشهورة عند العرب ، وملخصها : أن أبرهة الأشرم الحبشي أمير اليمن من قبل النجاشي ملك الحبشة ، بنى كنيسة بصنعاء لم ير مثلها في زمانها . . وأراد أن يصرف الناس من الحج إلى بيت الله الحرام ، إلى الحج إليها . . ثم جمع جيشا عظيما قدم به لهدم الكعبة . . فأهلكه الله –تعالى- وأهلك من معه من رجال وأفيال . .
وكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في هذا العام . . ( {[1]} ) .
الاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } للتقرير بما تواتر نقله وعمله صلى الله عليه وسلم وعلمه غيره علما مستفيضا . . حتى إن العرب كانوا يؤرخون بتلك الحادثة ، فيقولون : هذا الأمر حدث فى عام الفيل ، أو بعده أو قبله . . والمراد بالرؤية هنا : العلم المحقق .
وعبر - سبحانه - عن العلم بالرؤية ؛ لأن خبر هذه القصة - كما أشرنا -كان من الشهرة بمكان ، فالعلم الحاصل بها مساو فى قوة الثبوت للرؤية والمشاهدة .
والمعنى : لقد علمت - أيها الرسول الكريم - علما لا يخالطه ريب أو لبس ، ما فعله ربك بأصحاب الفيل ، الذين جاءوا لهدم الكعبة ، حيث أهلكناهم إهلاكا شنيعا ، كانت في العبرة والعظة ، والدلالة الواضحة على قدرتنا ، وعلى حمايتنا لبيتنا الحرام .
وأوقع - سبحانه - الاستفهام عن كيفية ما أنزله بهم ، لا عن الفعل ذاته ؛ لأن الكيفية أكثر دلالة على قدرته - تعالى - ، وعلى أنه - سبحانه - لا يعجزه شيء .
وفى التعبير بقوله : { فَعَلَ رَبُّكَ . . . } إشارة إلى أن هذا الفعل لا يقدر عليه أحد سواه - سبحانه - ، فهو الذى ربى نبيه صلى الله عليه وسلم وتعهده بالرعاية ، وهو الكفيل بنصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة على جيوش الحبشة . . وهم أصحاب الفيل .
ووصفوا بأنهم " أصحاب الفيل " ؛ لأنهم أحضروا معهم الفيلة ، ليستعينوا بها على هدم الكعبة ، وعلى إذلال أهل مكة .
تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة ، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير ، ومحضن العقيدة الجديدة ، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض ، وإقرار الهدى والحق والخير فيها . .
وجملة ما تشير إليها الروايات المتعددة عن هذا الحادث ، أن الحاكم الحبشي لليمن - في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها - وتسميه الروايات : " أبرهة " ، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة ، على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة ، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت ، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك . وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية . .
ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس ، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت ، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر والأنساب . وكانت معتقداتهم - على تهافتها - أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم ، وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك .
عندئذ صح عزم " أبرهة " على هدم الكعبة ليصرف الناس عنها ؛ وقاد جيشا جرارا تصاحبه الفيلة ، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم . فتسامع العرب به وبقصده . وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم . فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام ، فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله ، ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيرا .
ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير ، فهزمهم كذلك وأسر نفيلا ، الذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب .
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا له : إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة . وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للات ! وبعثوا معه من يدله على الكعبة !
فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة ، بعث قائدا من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم ، فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله . ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة رسولا إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد ، ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت ، فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم ! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك . . فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له : والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام . وبيت خليله إبراهيم عليه السلام . . فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه . . فانطلق معه إلى أبرهة . .
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه ، وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه . ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ? فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل . وإن للبيت رب سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك ! . . فرد عليه إبله .
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال . ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه . وروي عن عبد المطلب أنه أنشد :
لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك .
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك !
فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له . فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها ، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا . وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة ، فقالوا : خلأت القصواء [ أي حرنت ] فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل . . " وفي الصحيحين أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال يوم فتح مكة : " إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب " ، فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر ، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم . . وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء ، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات . .
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير ، وأشكالها ، وأحجامها ، وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها ، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات ، فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم :
" وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة : وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين ، وأصيب الجيش ، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة ، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء " .
" هذا أول ما اتفقت عليه الروايات ، ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح " .
" فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات ، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه ، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالمكروب - لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين ، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال ، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب ، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به ، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء " .
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
" وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت ، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة ، فأهلكته وأهلكت قومه ، قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - على وثنيتهم - حفظا لبيته ، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه [ صلى الله عليه وسلم ] وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه ، ولا ذنب اقترفه " .
" هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل ، إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك ، بحيوان صغير لا يظهر للنظر ، ولا يدرك بالبصر ، حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر ! ! " .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو( العصف ) . . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله ، ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره ، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم ، فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون ، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل ، فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه !
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة ، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهي معهودة كل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة ، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب ! وإن تسليط طير - كائنا ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض ، في هذا الأوان ، وإحداث هذا الوباء في الجيش ، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة . . هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات ، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا ، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! - تحمل حجارة غير معهودة ، تفعل بالأجسام فعلا غير معهود . .
نحن أميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله - سبحانه - يريد بهذا البيت أمرا . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا ؛ وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة ، في أرض حرة طليقة ، لا يهيمن عليها أحد من خارجها ، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة ، ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكل مقوماته وبكل أجزائه . ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ، فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة ، ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني : ( فجعلهم كعصف مأكول ) . . إيحاء مباشرا قريبا .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول : إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ? !
إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام - رحمه الله - على رأسها في تلك الحقبة . . ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ ، ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية . . فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة ؛ كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها ، كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها ، وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها . فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل . ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير . كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية ، وتدرك ثباتها واطرادها ، وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام - وهي في صميمها العقلية القرآنية - فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة . من المبالغة في الاحتياط ، والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله . فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده - كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي - رحمهم الله جميعا - شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها ، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه " المعقول " ! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات .
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه ، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه ، وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل . وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها - سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف - هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير . ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه - كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة .
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله . إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون . وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير . .
وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل ، غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة ، ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور ! ! !
إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية ، لعل هنا مكان تقريرها . . إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة . لا مقررات عامة . ، ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص . بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا . فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية ، ومنها نكون قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا ؛ فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته ! ذلك أن ما نسميه " العقل " ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود ، وتجاربنا البشرية المحدودة .
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها ، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري . وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله . والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا . ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها . ومن ثم لا يصلح أن يقال : إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله - كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة . وليس معنى هذا هو الإستسلام للخرافة . ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن . ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا ، ويكف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها ، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى . .
ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل ، وإلى دلالة القصة . .
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ? ) . . وهو سؤال للتعجيب من الحادث ، والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم ، حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل ، وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين ، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة !
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها ، إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه ، المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولِ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك ، فترى بها { كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحَابِ الْفِيلِ } الذين قَدِموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحَبَشة ورئيسهم أبرهة الحبشيّ الأشرم . { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } يقول : ألم يجعل سعي الحبشة أصحاب الفيل في تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ يعني : في تضليلهم عما أرادوا وحاولوا من تخريبها .
بسم الله الرحمن الرحيم { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة لكن شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر أخبارها ، فكأنه رآها . وإنما قال{ كيف } ولم يقل :ما ؛ لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله تعالى وقدرته ، وعزة بيته ، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنها من الإرهاصات ؛ إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قصتها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف الحاج إليها ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك ، فحلف ليهدمن الكعبة ، فخرج بجيشه ومعه فيل قوي اسمه محمود وفيلة أخرى ، فلما تهيأ للدخول وعبى جيشه قدم الفيل ، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا رجعوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول ، فأرسل الله تعالى طيرا مع كل واحد في منقاره حجر وفي رجليه حجران أكبر من العدسه وأصغر من الحمصة ، فترميهم فيقع الحجر في رأس الرجل فيخرج من دبره ، فهلكوا جميعا . وقرئ ( ألم تر ) جدا في إظهار أثر الجازم ، وكيف نصب بفعل ، لا ب( تر ) ، لما فيه من معنى الاستفهام .
وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة { ألم تر } . روى القرطبي في تفسير { سورة قريش } عن عمرو بن ميمون قال : صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية { ألم تر } و{ لإيلاف قريش } . وكذلك عنونها البخاري . وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير { سورة الفيل } .
وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة { قل يا أيها الكافرون } وقبل { سورة الفلق } . وقيل قبل { سورة قريش } لقول الأخفش إن قوله تعالى { لإيلاف قريش } متعلق بقوله { فجعلهم كعصف مأكول } ، ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش ، أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة فدل أنهما عنده سورة واحدة . ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون .
وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم ، وذلك ما سماه الله كيدا ، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله .
وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته .
ومن وراء ذلك تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه ويشعر بهذا قوله { ألم نجعل كيدهم في تضليل } .
ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره ، وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبي صلى الله عليه وسلم تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا .
ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين : أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله ، وثانيهما أن لا يتخذ من المشركين غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } الآية وقوله { وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } .
استفهام تقريري وقد بيّنّا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيراً ما يكون على نفي المقرَّر بإثباته للثقة بأن المقرَّر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } في سورة البقرة ( 243 ) . والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته . وعليه فالتقرير مستعمل مجازاً في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصاً للنبيء فيكون من باب قوله : { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 1 ، 2 ] ، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله : { ربك } . فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] الآيات وقوله : { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 1 ، 2 ] على أحد الوجوه المتقدمة .
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه . وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هاني بنت أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة سُوداً مخططة بحمرة . وقال عتاب بن أسِيدْ : أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مُقْعَدين يستطعمان الناس . وقالت عائشة : لقد رأيْتُ قائد الفيل وسائقه أعمَيين يستطعمان الناس . وفعل الرؤية معلق بالاستفهام .
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسبة لمن تجاوز سنهُ نيفاً وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاماً أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف .
و { كيف } للاستفهام سَدّ مسدّ مفعوليْ أو مفعول { تَر } ، أي لم تر جواب هذا الاستفهام ، كما تقول : علمتُ هل زيد قائم ؟ وهو نصب على الحال من فاعل { تَر } . ويجوز أن يكون { كيف } مجرداً عن معنى الاستفهام مراداً منه مجرد الكيفية فيكون نصباً على المفعول به .
وإيثار { كيف } دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل : ألم تر ما فعل ربك ، أو الذي فعل ربك ، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة .
وأوثر لفظ { فعل ربك } دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالاً كثيرة لا يدل عليها غيره .
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف ( رب ) مضافاً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصاً لنبوءته إذ كان ذلك عام مولده .
وأصحاب الفيل : الحَبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمِرين هدم الكعبة انتقاماً من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج .
وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عَذَّب فيها الملكُ ذو نواس النصارى ، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلاً يقال له : ( أبرهة ) وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القَلِيس ( بفتح القاف وكسر اللام بعدما تحتية ساكنة ، وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية ) . وفي « القاموس » بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء . وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القَلْس للارتفاع . ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ولعل لفظ كنيسة في العربية معرّب منه ، وإما أن يكون علماً وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة فروي أن رجلاً من بني فُقَيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } في سورة براءة ( 37 ) ، قَصد الكنانيُّ صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيراً لها ليتسامَعَ العربُ بذلك فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة وسار حتى نزل خارج مكة ليلاً بمكان يقال له المُغَمَّس ( كمعظم موضع قرب مكة في طريق الطائف ) أو ذو الغميس ( لم أر ضبطه ) وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام ، وأمر عبد المطلب آله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا مكة . فلما أصبح هيّأ جَيْشه لدخول مكة وكان أبرهة راكباً فيلاً وجيشه معه فبينا هو يَتهيّأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجُدريّ الفتاك يتساقط منه الأنامل ، ورأوا قبل ذلك طيراً ترميهم بحجارة لا تصيب أحداً إلا هلك وهي طير من جند الله فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ومرض ( أبرهة ) فقفل راجعاً إلى صنعاء مريضاً ، فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوّهم . وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط ( فبراير ) سنة 570 بعد ميلاد عيسى عليه السلام ، وبعد هذا الحادث بخمسين يوماً ولد النبي على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير .
والتعريف في { الفيل } للعهد ، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجَمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة ، مع أن في الجيش جمالاً أخرى . وقد قيل : إن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد ، وهو فيل أبرهة ، وكان اسمه محمود . وقيل : كان فيه فِيَلَة أخرى ، قيل ثمانية وقيل : اثنا عشر . وقال بعضٌ : ألف فيل . ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب :
أنتَ منعتَ الحُبْشَ والأفْيالا
فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفاداً من الإِضافة .
والفيل : حيوان عظيم من ذوات الأربع ذواتِ الخف ، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان ، ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوباً ، وهو ذكي قابل للتأنس والتربية ، ضخم الجثة أضخم من البعير ، وأعلى منه بقليل وأكثر لحماً وأكبر بطناً .
وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جداً له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدافع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ، ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه . وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان ، وذَنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة . ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخِذ الناس منها العاجَ . وجلده أجرد مثل جلد البقر ، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد . وهو مركوبٌ وحاملُ أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود . ولم يكن الفيل معروفاً عند العرب فلذلك قلّ أن يُذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة .
وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة . ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيماً قوياً ، قال لبيد :
ومقامٍ ضيِّق فرَّجْتُـه *** ببيـــانٍ ولسان وجَدل
لو يقومُ الفيلُ أوفَيَّالُه *** زل عن مثل مقامي ورحل
لقَدْ أقومُ مقاماً لو يقوم به *** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظلَّ يَرْعد إلا أنْ يكون له *** من الرسول بإذن الله تنويل
وكنت رأيْتُ أنّ . . . . قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة .
وعن عائشة وعتاب بن أسيد : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
والمعنى : ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل ، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة الفيل، مكية في قول الجميع.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ . وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ : وُلِدْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ .
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
نزلت هذه السورة منبهة على العبرة في قصة الفيل التي وقعت في عام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها تدل على كرامة الله للكعبة وإنعامه على قريش بدفع العدو عنهم ، فكان يجب عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به ، وفيها مع ذلك عجائب من قدرة الله وشدة عقابه . وقد ذكرت القصة في كتب السير وغيرها ، واختصارها أن أبرهة ملك الحبشة بنى بيتا باليمن وأراد أن يحج الناس إليه كما يحجون إلى الكعبة ، فذهب أعرابي وأحدث في البيت ، فغضب أبرهة وحلف أن يهدم الكعبة ، فاحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد مكة ، فلما وصل قريبا منها فر أهلها إلى الجبال وأسلموا له الكعبة ، وأخذ لعبد المطلب مائتي بعير ، فكلمه فيها فقال له : كيف تكلمني في الإبل ولا تكلمني في الكعبة ، وقد جئت لهدمها ، وهي شرفك وشرف قومك ؟ فقال له : أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه ، فبرك الفيل بذي الغميس ولم يتوجه إلى مكة ، فكانوا إذا وجهوه إلى غيرها هرول ، وإذا وجهوه إليها توقف ولو بضعوه بالحديد ، فبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيورا سودا ، وقيل : خضرا ، عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه ، فرمتهم الطيور بالحجارة ، فكان الحجر يقتل من وقع عليه ، وروي : أنه كان يدخل في رأسه ويخرج من دبره ، ووقع في سائرهم الجدري والأسقام ، وانصرفوا فماتوا في الطريق متفرقين في المراحل ، وتقطع أبرهة أنملة أنملة . ...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
هذه السورة مكية . ولما ذكر فيما قبلها عذاب الكفار في الآخرة ، أخبر هنا بعذاب ناس منهم في الدنيا . والظاهر أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، يذكر نعمته عليه ، إذ كان صرف ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد عليه السلام ، وإرهاصاً بنبوّته ، إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول ، من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة ، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير ، ومحضن العقيدة الجديدة ، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض ، وإقرار الهدى والحق والخير فيها . .
وجملة ما تشير إليها الروايات المتعددة عن هذا الحادث ، أن الحاكم الحبشي لليمن - في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها - وتسميه الروايات : " أبرهة " ، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة ، على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة ، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت ، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك . وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية . .
ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس ، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت ، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر والأنساب . وكانت معتقداتهم - على تهافتها - أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم ، وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك .
عندئذ صح عزم " أبرهة " على هدم الكعبة ليصرف الناس عنها ؛ وقاد جيشا جرارا تصاحبه الفيلة ، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم . فتسامع العرب به وبقصده . وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم . فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام ، فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله ، ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيرا .
ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير ، فهزمهم كذلك وأسر نفيلا ، الذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب .
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا له : إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة . وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للات ! وبعثوا معه من يدله على الكعبة !
فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة ، بعث قائدا من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم ، فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله . ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة رسولا إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد ، ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت ، فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم ! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك . . فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له : والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام . وبيت خليله إبراهيم عليه السلام . . فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه . . فانطلق معه إلى أبرهة . .
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه ، وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه . ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ? فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل . وإن للبيت رب سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك ! . . فرد عليه إبله .
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال . ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه . وروي عن عبد المطلب أنه أنشد :
لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك .
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك !
فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له . فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها ، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا . وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة ، فقالوا : خلأت القصواء [ أي حرنت ] فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل . . " وفي الصحيحين أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال يوم فتح مكة : " إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب " ، فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر ، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم . . وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء ، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات . .
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير ، وأشكالها ، وأحجامها ، وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها ، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات ، فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم :
" وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة : وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين ، وأصيب الجيش ، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة ، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء " .
" هذا أول ما اتفقت عليه الروايات ، ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح " .
" فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات ، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه ، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالمكروب - لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين ، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال ، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب ، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به ، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء " .
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
" وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت ، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة ، فأهلكته وأهلكت قومه ، قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - على وثنيتهم - حفظا لبيته ، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه [ صلى الله عليه وسلم ] وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه ، ولا ذنب اقترفه " .
" هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل ، إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك ، بحيوان صغير لا يظهر للنظر ، ولا يدرك بالبصر ، حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر ! ! " .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو( العصف ) . . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله ، ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره ، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم ، فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون ، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل ، فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه !
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة ، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهي معهودة كل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة ، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب ! وإن تسليط طير - كائنا ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض ، في هذا الأوان ، وإحداث هذا الوباء في الجيش ، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة . . هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات ، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا ، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! - تحمل حجارة غير معهودة ، تفعل بالأجسام فعلا غير معهود . .
نحن أميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله - سبحانه - يريد بهذا البيت أمرا . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا ؛ وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة ، في أرض حرة طليقة ، لا يهيمن عليها أحد من خارجها ، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة ، ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكل مقوماته وبكل أجزائه . ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ، فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة ، ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني : ( فجعلهم كعصف مأكول ) . . إيحاء مباشرا قريبا .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول : إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ? !
إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام - رحمه الله - على رأسها في تلك الحقبة . . ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ ، ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية . . فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة ؛ كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها ، كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها ، وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها . فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل . ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير . كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية ، وتدرك ثباتها واطرادها ، وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام - وهي في صميمها العقلية القرآنية - فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة . من المبالغة في الاحتياط ، والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله . فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده - كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي - رحمهم الله جميعا - شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها ، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه " المعقول " ! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات .
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه ، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه ، وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل . وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها - سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف - هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير . ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه - كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة .
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله . إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون . وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير . .
وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل ، غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة ، ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور ! ! !
إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية ، لعل هنا مكان تقريرها . . إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة . لا مقررات عامة . ، ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص . بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا . فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية ، ومنها نكون قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا ؛ فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته ! ذلك أن ما نسميه " العقل " ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود ، وتجاربنا البشرية المحدودة .
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها ، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري . وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله . والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا . ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها . ومن ثم لا يصلح أن يقال : إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله - كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة . وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة . ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن . ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا ، ويكف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها ، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى . .
ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل ، وإلى دلالة القصة . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة ألم تر . روى القرطبي في تفسير سورة قريش عن عمرو بن ميمون قال : صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية ألم تر ولإيلاف قريش . وكذلك عنونها البخاري وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير سورة الفيل .
أغراضها: وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم ، وذلك ما سماه الله كيدا ، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله . وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته . ومن وراء ذلك تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه ويشعر بهذا قوله { ألم نجعل كيدهم في تضليل } . ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره ، وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبي صلى الله عليه وسلم تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا . ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين : أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله ، وثانيهما أن لا يتخذ من المشركين غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } الآية وقوله { وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتستوقفنا جملة من الأفكار والنقاط المفيدة في هذه القصة ، أبرزها ما يلي : أولاً : على الرغم من بعض وجوه الاختلاف الموجودة في الرّوايات الخاصة بهذه القصة ، إلاّ أنها تجمع على وجود أسرارٍ غيبيّة مثيرةٍ للتأمل في طبيعة الهزيمة التي مني بها هذا الجيش من دون أيّة مقاومةٍ تذكر من قريش ، ما يوحي بأن القضية ثابتةٌ من ناحية المبدأ في جانبها الإعجازي الخارق للعادة ، وبأن المسألة كانت معروفة في تاريخ الفترة الأولى للدعوة ، لا سيّما إذا لاحظنا وجود ذاكرة تاريخية لهذه الحادثة ، بحيث تحوّلت إلى تاريخ للناس هناك ، فأصبحوا يؤرخون بعام الفيل الذي قيل إن مولد النبي( صلى الله عليه وسلم ) كان فيه . كما أن من البعيد أن لا يكون بعض الذين عاصروا الحادثة على قيد الحياة في وقت نزول السورة . فلو لم تكن القضية في مستوى الحقيقة الثابتة ، لكان من الممكن أن يعترض عليها أحدٌ من أولئك الذين كان الكثيرون من أمثالهم معنيّين بإثارة الريب أو الاعتراض حول بعض القضايا التي عاشوا أحداثها وتجاربها في ما تحدّث به القرآن ، ولم ينقل إلينا التاريخ شيئاً من ذلك ، مع توفر الدواعي على النقل ، وقد لاحظنا أن القرآن كان يثير بعض الشبهات التي كانت تثار في ساحة الدعوة ، ليسجّل ردّه عليها .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التذكير بهذه القصّة فيه تحذير للكّفار المغرورين المعاندين ، كي يفهموا ضعفهم تجاه قدرة اللّه تعالى الذي أباد جيشاً عظيماً بطير أبابيل تحمل حجارة من سجّيل ، وهو سبحانه إذن قادر على أن يعاقب هؤلاء المستكبرين المعاندين . فلا قدرتهم أعظم من قدرة أبرهة ، ولا عدد أفرادهم يبلغ عدد ذلك الجيش . السّورة المباركة تقول لكفّار قريش : إنّكم رأيتم الواقعة بأعينكم ، فلماذا لا تترجلون من مطية غروركم . ...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ ألم تر } ألم تعلم يا محمد { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } يعني أبرهة بن الأشرم اليماني وأصحابه ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك ، فترى بها { كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحَابِ الْفِيلِ } الذين قَدِموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحَبَشة ورئيسهم أبرهة الحبشيّ الأشرم .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلفوا في السبب الذي به وقع القصد من أصحاب الفيل إلى تهديمهم البيت وتخريبه.... وأي ذلك كان فلا حاجة إلى معرفته ، وإنما حاجتنا إلى تعريف المعنى الذي به أنزلت السورة ، وثبتت . وتأويل ذلك يخرج على أوجه ثلاثة :
أحدها : أن الله تعالى ذكرهم تلك النعم التي أنعمها عليهم في صرف من أرادوا إهلاكهم ، فإنهم قصدوا قتل أهل مكة وسبي نسائهم وذراريهم وأخذ أموالهم ، فذكرهم الله تعالى جميل صنعه بهم ليشكروا له ، ويعبدوه حق عبادته ، وينزجروا عن عبادة غيره .
والوجه الثاني : أن الله تعالى خوّف أهل مكة ، ووجه ذلك أن الله تعالى لما أهلك أصحاب الفيل بما ضيعوا حرمة بيته ، فلا يأمن أهل مكة من إهلاكه إياهم وتعذيبهم بما ضيعوا حرمة رسوله صلى الله عليه وسلم مع أن حرمة الرسول صلى الله عليه أعظم من حرمة البيت . وقد نزل بأولئك ما نزل لما جاء منهم من تضييع حرمة بيته ، فلأن يخشى عذابه ونقمته من تضييع حرمة رسوله أولى .
والوجه الثالث : أن الله تعالى لما أهلك أولئك لما أراهم من آياته لم ينصرفوا ؛ لأنه ذكر أنهم كانوا إذا وجهوا الفيل نحو البيت امتنع ، ووقف ، وإذا وجهوه نحو أرضهم هرول ، وتسارع . فلما رأوا ذلك ، ولم ينصرفوا ، أهلكهم الله تعالى . فلا يؤمن على أهل مكة أيضا ؛ لأنهم لما رأوا الآيات المعجزة من الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا توعدهم بأن يهلكهم الله سبحانه وتعالى وينتقم منهم بعقوبته . فعلى ما ذكرنا يخرج معنى نزول السورة .
وقيل : إنه على البشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإشارة أنه لم يكن للبيت ناصر في ذلك الوقت ولا معين ؛ بل كان وحده ، فنصره الله تعالى ، حتى لم يمكن أعداءه من هدمه ، فعلى ذلك ينصرك ، ويعينك ، ويهلك عدوك ، وإن كنت أنت وحدك ، إذ كان وقت نزول هذه السورة لم يكن له كثير أعوان ، وقد فعل ذلك يوم بدر . ثم قوله : { ألم تر } حرف استعمل في تذاكر أعجوبة قد كانت ، وعرفوها ، ثم غفلوا عنها ، أو في ما لم يكن ، فيعجبهم بما فعل بأعدائه ليحملهم على الزجر والانتهاء عما حرم الله تعالى ، فكأنه قال : رأيت ربك كيف فعل بأصحاب الفيل . ويجوز أن يكون الخطاب منه للنبي عليه السلام ، والمراد غيره . ويجوز أن يكون هذا خطابا لكل واحد منهم . ثم تسميتهم أصحاب الفيل ، ونسبة الفيل إليهم يحتمل وجهين : أحدهما : أي الذين صحبوا الفيل . والثاني : أصحاب الفيل ، أي أرباب الفيل ، كما يقال : رب الدار . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) ويتوجه إلى جميع المكلفين من قومه ، يقول لهم على وجه التنبيه على عظم الآية التي أظهرها ، والمعجزة التي فعلها ، منبها بذلك على توحيده ووجوب إخلاص العبادة له ، فقال : { ألم تر } ومعناه ألم تعلم ، فالرؤية - ههنا - بمعنى العلم ، لأن رؤية البصر لا تتعلق بما قد تقضى وعدم ، كأنه قال : ألم تعلم { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } الذين قصدوا هدم البيت وهلاك أهله ، فأهلكهم الله تعالى ، ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَلَمْ يَنْتِه إليكَ فيما أنزل عليك عِلْمُ ما فَعلَ ربُّكَ بأصحاب الفيل ؟ . وفي قصة أصحاب الفيل دلالة على تخصيص اللَّهِ البيتَ العتيقَ بالحِفْظِ والكِلاءة ....
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...والمعنى : أنك رأيت أثار فعل الله بالحبشة ، وسمعت الأخبار به متواترة ، فقامت لك مقام المشاهدة . ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش ، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل ، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود ، فأبادهم الله ، وأرغم آنافهم ، وخيب سعيهم ، وأضل عملهم ، وَرَدهم بشر خيبة . وكانوا قوما نصارى ، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان . ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ، ولسان حال القدر يقول : لم ننصركم - يا معشر قريش - على الحبشة لخيريتكم عليهم ، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد ، صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ ألم تر } أي تعلم علماً هو في تحققه كالحاضر المحسوس بالبصر ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد تلك الوقعة فإنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر مع إعلام الله له أخبارها ، وخصه صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأن ذلك لا يعلمه ويعمل به إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن وفقه الله لحسن اتباعه...{ كيف } ، دون أن يقول : ما { فعل } أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل ، وفعل الرؤية معلق عن " كيف " لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه ؛ بل ناصبه فعل ، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق { ربك } أي المحسن إليك ، ومن إحسانه إحسانه إلى قومك بك وبهذه الواقعة الخارقة للعادة إرهاصاً لنبوتك كما هو معلوم من أخبار الأنبياء المتقدمين فيما يقع بين أيدي نبواتهم من مثل ذلك ، ليكون مؤيداً لادعائهم النبوة بعد ذلك ، وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالخطاب والتعبير بالرب مع التشريف له ، والإشارة بذكره التعريض بحقارة الأصنام التي سموها أرباباً لهم ، يعلم ذلك منهم علم اليقين من آمن ، ومن استمر على كفره فسيعلم ذلك حق اليقين عندما يسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالبلد الحرام ، ويحلها له على أعلى حال ومرام { بأصحاب الفيل * } أي الذين قصدوا انتهاك حرمات الله سبحانه وتعالى فيخربوا بيته ويمزقوا جيرانه بما أوصلهم إلى البطر من الأموال والقوة التي منّ عليهم سبحانه وتعالى بها ، فحسبوا أنها تخلدهم ، فبان أنها توردهم المهالك ضد ما حسبوه ، وهم الحبشة الذين كانوا غلبوا على بلاد اليمن ،...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى شأنه لا بنفسه بأن يقال : ألم تر ما فعل ربك الخ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وغريبته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ? ) . . وهو سؤال للتعجيب من الحادث ، والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم ، حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل ، وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين ، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة !
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها ، إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه ، المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى : ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل ، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وأسلوب الآيات ومضمونها يدلان : أولا : على أن الحادث كان لا يزال صداه يتردد على الألسنة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت السورة . وثانيا : على أن العرب كانوا يعتقدون أن البلاء الذي وقع على الأحباش وهرّأ أجسامهم ومزق شملهم هو بلاء رباني . وثالثا : على أن القصد من التذكير بالحادث الذي كان قريب العهد ، وكان مالئا للأذهان هو الموعظة ودعوة السامعين أو زعماء قريش إلى الارعواء عن مواقف الأذى والجحود التي يقفونها . فالله الذي كان من قدرته أن يصب بلاءه على الأحباش ، ويمزقهم شر ممزق مع ما هم عليه من شدة البأس قادر على أن يصب بلاءه عليهم ويمزقهم . وهم يعرفون ذلك فعليهم أن يرعووا ويحذروا ويتركوا الأذى والعناد . ...