بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

{ يا أيها الذين آمَنُواْ } فهذا نداء المدح ، والنداء في القرآن على سبع مراتب : نداء المدح ، مثل قوله { مُّنتَظِرُونَ يا أيها النبي } { يا أيها الذين آمَنُواْ } { يا أيها الرسل } . ونداء الذم ، مثل قوله تعالى : { عَمُونَ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } { قُلْ يا أيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أولياء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صادقين } [ الجمعة : 6 ] . ونداء التنبيه ، مثل قوله { يا أيها الناس } . ونداء الإضافة ، مثل قوله { يا عِبَادِي } ونداء النسبة ، مثل قوله : { يا بني آدم } { يا بني إسرائيل } . ونداء الاسم : مثل قوله { يا إِبْرَاهِيمَ } { يا دَاوُودُ } . ونداء التعبير ، مثل قوله : { يا أَهْلِ الكتاب } فهاهنا نداء المدح : { يا أيها الذين آمَنُواْ } وهو من جوامع الكلم ، لأنه قال { يا أيها الذين آمَنُواْ } يعني صدقوا ، ولم يقل بأي شيء صدقوا ، معناه الذين صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، وصدقوا بجميع الرسل ، وبالبعث ، والحساب ، والجنة ، والنار . وقال عبد الله بن مسعود : كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن ، فإذا سمعت الله يقول : { يا أيها الذين آمَنُواْ } فأرعها سمعك فإنه خير مأمور به أو شر منهي عنه ، ويقال : جميع ما في القرآن { يا أيها الذين آمَنُواْْ } نزل بالمدينة ، وكل ما يقال في القرآن { يا أَيُّهَا الناس } نزل أكثره بمكة ، وقد قيل نزل بالمدينة أيضاً . ويقال : كل ما في القرآن { يا أيها الذين آمَنُواْْ } ذكر في مقابله في الإنجيل يا أيها المساكين .

ثم قال : { أَوْفُواْ بالعقود } يعني أتموا الفرائض التي ذكر الله تعالى في القرآن ، وعقد على عباده ما أحل لهم وحرم عليهم أن يوفوا بها . وقال مقاتل : { أَوْفُواْ بالعقود } يعني بالعهود التي بينكم وبين المشركين . ويقال : جميع العقود التي بينه وبين الناس ، والتي بينه وبين الله تعالى . وهذا من جوامع الكلم ، لأنه اجتمع فيه ثلاثة أنواع من العقود أحدها : العقود التي عقد الله تعالى على عباده من الأوامر والنواهي . والنوع الثاني : العقود التي يعقدها الإنسان بينه وبين الله تعالى من النذور والأيمان ، وغير ذلك . والنوع الثالث : العقود التي بينه وبين الناس ، مثل البيوع والإجارات وغير ذلك . فوجب الوفاء بهذه العقود كلها . ثم قال : { أُحِلَّتْ لَكُمْ } يعني رخصت لكم { بَهِيمَةُ الأنعام } والأنعام تشتمل على الإبل والبقر والغنم والوحش ، دليله على قوله تعالى { وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 142 ] ثم قال : { ثمانية أزواج } وأما البهيمة فهي كل حيّ لا يتميز ، وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت من أن تميز .

ثم قال : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } يعني : رخصت لكم الأنعام كلها إلا ما حرم عليكم في هذه السورة ، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك ، وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة ، فأخبر الله تعالى أنهما حلالان { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } يعني إلا ما بين في هذه السورة . ثم قال : { غَيْرَ مُحِلّي الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ } يعني : أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون . ثم قال : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } يعني يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ، لأنه أعرف بصلاح خلقه وما يصلحهم وما لا يصلحهم ، وليس لأحد أن يدخل في حكمه . وهذا كقوله { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا } [ الكهف : 26 ] وقال { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ } « [ سورة الأنبياء : 23 ] .