( سورة الفيل مكية ، وآياتها 5 آيات ، نزلت بعد سورة الكافرون )
وهي سورة تشير إلى قدرة الله الغالبة ، وحمايته للبيت الحرام ، وقد ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وكان حادث الفيل إرهاصا بميلاده ، وبيانا لعناية الله بهذا البيت .
حادث الفيل معروف لدى العرب ، حتى أنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث ، فيقولون : ولد عام الفيل ، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ، ونحو ذلك .
وجملة ما تشير إليه الروايات المتعددة أن الحاكم الحبشي لليمن –في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها– ويسمى أبرهة الأشرم ، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة ، وجمع لها كل أسباب الفخامة ، ليصرف بها العرب عن الحج إلى البيت الحرام ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا ، وقيل : أججت رفقة من العرب نارا ، فحملتها الريح فأحرقت الكنيسة ، فغضب أبرهة وأقسم ليهدمن الكعبة فخرج بالحبشة ، ومعه فيل اسمه محمود وكان قويا عظيما ، واثنا عشر فيلا غيره وسار بجيشه إلى مكة ، وانتصر على كل من قاومه من العرب ، حتى وصل إلى المغمّس بالقرب من مكة ، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم ، وإنما أتى لهدم البيت ففزعوا منه ، وانطلقوا إلى شعف الجبال ينتظرون ما هو فاعل ، وأرسل أبرهة إلى سيد مكة ليقابله .
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم ، وهو يومئذ سيد مكة ، فقدم إلى أبرهة ، فلما رآه أبرهة أجلّه وأعظمه ، وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، وأجلسه معه إلى جانبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي ، فلما قال ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربّا سيمنعه ، قال : ما كان ليمتنع مني ، قال : أنت وذاك ، فردّ عليه إبله .
ثم انصرف عبد المطلب إلى باب الكعبة فأمسك بحلقه ، وقام معه نفر من قريش ، يدعون الله ويستنصرونه .
لا همّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له ، فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها ، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا .
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر ، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء ، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه ، كما تقول الرواياتi .
( وكان بين عام الفيل وبين المبعث نيف وأربعين سنة ، وكان قد بقي بمكة من شهد تلك الواقعة ، وقد بلغت حد التواتر حينئذ ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلى الله عليه وسلم ) . ii .
وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير ، فقال : حمام مكة منها ، وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم هلكى .
وعن عكرمة : من أصابته أصابه الجدري ، وهو أول جدري ظهر في الأرضiii .
وقد ذهب الأستاذ الإمام محمد عبده إلى أن الذي أهلك الجيش ( هو انتشار داء الجدري والحصبة بين أفراده ، وقد نشأ هذا الداء من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش ، بواسطة فرق عظيمة من الطير ، مما يرسله الله مع الريح ، فهي أشبه بالميكروبات الفتاكة التي تعصف بالجسم )iv .
فالأستاذ الإمام يريد أن يجعل هذه المعجزة الخارقة للعادة أمرا متفقا مع المعهود في حياة الناس ، فيرجع الهزيمة إلى انتشار وباء الحصبة أو الجدري ، حتى يتسنى له إقناع العقول ، وفي نفس الوقت يتخلص مما ورد في بعض الروايات من المبالغة في وصف هذه الطير ، والحجارة التي حملتها في رجليها وفمها .
ونرى أن الأولى عدم إخضاع الآيات لمألوف الناس وما يحدث في واقع حياتهم ، لأن الآيات تخبر عن خارقة وقعت بقدرة الله القادر ، الذي يقول للشيء كن فيكون .
وإذا سلمنا أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن الله أرسل طيرا غير معهودة ، كان ذلك أدعى إلى تحقيق العبرة الظاهرة المكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ، حتى ليمنّ الله بها على قريش بعد البعثة ، ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته ، وغيرته عليها .
( فممّا يتناسق مع جو هذه الملابسات كله ، أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكل مقوماته وبكل أجزائه ، ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر ، في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ ) . v .
ثم إن إصابة الجيش بالوباء ، وعدم إصابة أحد من العرب القريبين منه أمر خارق للعادة ، وما دامت المسألة خارقة ، فعلام العناء في حصرها في صورة معينة مألوفة للناس ، مع أن السورة تفيد أن أمرا خاصا قد أرسله الله على أصحاب الفيل .
إننا لا يجوز أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة ، بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا الإيمانية ، ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوراتنا .
( وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة ، ولكن معناه أن العقل ليس وحده هو الحكم في مقررات القرآن ، ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة ، فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا ، وكيف نصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها ، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى ) . vi .
1- ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل . ألم تنظر أو ألم تعلم عن الحالة التي وقع عليها عمل الله ، الذي يتولى أمرك ، بأصحاب الفيل الذين حاولوا هدم البيت الحرام ؟ والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة ، لكنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر أخبارها ، فالعلم بها مساو في قوة الثبوت للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة .
2- ألم يجعل كيدهم في تضليل . لقد دبّروا كيدا للبيت الحرام ، ببناء الكنيسة وصرف وجوه الحجاج إليها ، فضلّل الله كيدهم بأن أوقع الحريق فيها ، وكادوه ثانيا بإرادة هدم البيت ، فضلّل الله كيدهم بإرسال الطير عليهم .
ومعنى تضليل كيدهم ، أي إضاعته وإبطاله ، يقال : ضلّل كيده ، إذا جعله ضالا ضائعا ، ومنه قولهم لامرئ القيس : الملك الضليل ، لأنه ضلّل ملك أبيه ، أي ضيعه .
3- وأرسل عليهم طيرا أبابيل . أبابيل : جماعات أو طوائف على هيئة أسراب ، أي : أرسل الله عليهم فرقا من الطير .
4- ترميهم بحجارة من سجيل . السجيل : الطين الذي تحجّر ، أو الحجارة المحروقة ، أي : أرسل الله عليهم جندا من جنوده ، وكم لله من جنود لا يعلمها إلا هو ، لقد أرسل الله على أبرهة وجنده جيشا من الطير ، أسلحتهم حجارة صغيرة في مناقيرها ، ترمي الجندي بها ، فتنفذ من أعلى جسمه إلى أسفله ، فتنهرئ لحومهم ، وتتساقط متناثرة عن أجسادهم .
5- فجعلهم كعصف مأكول . العصف : ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد ، تفته الريح وتأكله المواشي .
وقال الفراء : هو أطراف الزرع ، وقيل : هو الحب الذي أكل لبّه وبقى قشره .
ووصف العصف بأنه مأكول ، أي فتيت طحين ، حين تأكله الحشرات وتمزقه ، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه ، وهي صورة حسية للتمزيق بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير .
وذهب مقاتل وقتادة وعطاء عن ابن عباس إلى أن معنى عصف مأكول ، أي : نبات أكلته الدواب وصار روثا ، إلا أنه جاء على أدب القرآن كقوله تعالى : كانا يأكلان الطعامvii . . . ( المائدة : 75 ) .
1- بيان قدرة الله وحمايته لبيته .
2- لفت الأنظار إلى ما صنعه الله بأصحاب الفيل .
4- أرسل الله عليهم جماعات من الطيور في شكل أسراب .
5- أصابتهم الطير بحجارة مخلوطة بالطين تحمل الهلاك والدمار .
6- انتهى الجيش إلى ضياع وهزيمة منكرة ، كما ينتهي الزرع المأكول إلى روث مهمل ضائع .
{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل 1 ألم يجعل كيدهم في تضليل 2 وأرسل عليهم طيرا أبابيل 3 ترميهم بحجارة من سجّيل 4 فجعلهم كعصف مأكول 5 }
1- ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .
ألم يصل إلى علمك ما فعله ربك ومربيك وحاميك يا محمد بأصحاب الفيل ، وهم أبرهة الأشم وجيشه الذي قدم من اليمن ، وانتصر على من قاومه من العرب حتى وصل إلى المغمّس بأطراف مكة ، واستولى على إبل مكة .
ثم رغب أبرهة في الهجوم على الكعبة ، فتقدمت الفيلة ، ورئيسها فيل كبير يسمى محمود ، فبرك الفيل قبل الكعبة وامتنع تماما ، فإذا وجّهوه جهة اليمن أو إلى جهة هرول مسرعا ، وإذا وجّهوه إلى الكعبة امتنع .
سورة الفيل مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة " الكافرون " . يُخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقصة أصحاب الفيل الذين قصدوا هدم الكعبة . ويبين له ما حوته تلك القصة من عبرة دالة على حرمة هذا البيت الحرام ، وقدرة الله تعالى وانتقامه من المعتدين على حرماته . . وكيف سلط عليهم من جنوده ما قطع دابرهم وردّهم خاسرين .
وسيرة أبرهة الحبشي وغزوه لبيت الله لهدمه مبسوطة في كتب السيرة والتاريخ . وقد كان هذا الحدث الهام في عام مولد النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه ، سنة خمسمائة وسبعين ميلادية .
{ أصحاب الفيل } : أبرهة الحبشيّ وجيشُه الذين جاءوا لهدم الكعبة .
حادثُ الفيل معروفٌ متواتر لدى العرب . وقد جعلوه مبدأَ تاريخٍ يؤرخون به فيقولون : وُلدِ عامَ الفيل . وحدث كذا عامَ الفيل . . وكان سنةَ خمسمائة وسبعين ميلادية . وفي ذلك العام وُلدِ النبيُّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
ألم تعلم يا محمدُ ماذا صنع اللهُ العظيمُ بأصحابِ الفيلِ ، جيشِ أبرهةَ ، الّذين جاءوا لهدْم الكعبة ؟
الأولى : قوله تعالى : { ألم تر } أي ألم تخبر . وقيل : ألم تخبر . وقيل ألم تعلم . وقال ابن عباس : ألم تسمع ؟ واللفظ استفهام ، والمعنى تقرير . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه عام ، أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل ، أي قد رأيتم ذلك ، وعرفتم موضع مِنَّتِي عليكم ، فما لكم لا تؤمنون ؟ و " كيف " في موضع نصب ب { فعل ربك } لا { بألم تر كيف } في معنى الاستفهام .
الثانية- { بأصحاب الفيل } الفيل معروف ، والجمع أفيال : وفيول ، وفيلة . قال ابن السكيت : ولا تقل أفيلة . والأنثى فيلة{[16376]} وصاحبه{[16377]} فيال . قال سيبوبه : يجوز أن يكون أصل فيل فُعْلاً ، فكسر من أجل الياء ، كما قالوا : أبيض وبيض . وقال الأخفش : هذا لا يكون في الواحد ، إنما يكون في الجمع . ورجل فيل الرأي ، أي ضعيف الرأي . والجمع أفيال . ورجل فال ، أي ضعيف الرأي ، مخطئ الفراسة . وقد فال الرأي يفيل فيولة ، وفيل رأيه تفييلا : أي ضعفه ، فهو فيل الرأي .
الثالثة : في قصة أصحاب الفيل ؛ وذلك أن ( أبرهة ) بنى القليس بصنعاء ، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ، وكان نصرانيا ، ثم كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب ، فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي ، غضب رجل من النسأة{[16378]} ، فخرج حتى أتى الكنيسة ، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه ، فأخبر بذلك أبرهة ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل : صنعه رجل من أهل هذا البيت ، الذي تحج إليه العرب بمكة ، لما سمع قولك : ( أصرف إليها حج العرب ) غضب ، فجاء فقعد فيها . أي إنها ليست لذلك بأهل . فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة{[16379]} يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة ، فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل ، فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا ، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج معه بالفيل ، وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام . فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله الحرام ، وما يريد من هدمه وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك ، ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر وأصحابه ، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا ، فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ، فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلا حليما . ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك ، يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم : شهران وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا ، فأتي به ، فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم : شهران وناهس ، بالسمع والطاعة ، فخلى سبيله . وخرج به معه يدله ، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف ، فقالوا له : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ، سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات{[16380]} - إنما تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ، فتجاوز عنهم . وبعثوا معه أبا رغال ، حتى أنزله المغمس{[16381]} فلما أنزله به مات أبو رغال هناك ، فرجمت قبره العرب ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس ، وفيه يقول الشاعر :
وأَرْجُمُ قبرَهُ في كُلِّ عامٍ *** كرجمِ الناسِ قبرَ أبِي رِغالِ
فلما نزل أبرهة بالمغمس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له : الأسود بن مقصود{[16382]} على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك . وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد هذا البلد{[16383]} وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا لي بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن هو لم يرد حربي فأتني به . فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك منه طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، أو كما قال ، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته ، وإن يحل بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دفع عنه . فقال له حناطة : فانطلق إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك ، فانطلق معه عبد المطلب ، ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر ، وكان صديقا له ، حتى دخل عليه وهو في محبسه ، فقال له : يا ذا نفر ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر : وما غناء رجل أسير بيدي ملك ، ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي ، فسأرسل إليه ، وأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما بدا لك ، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك ، فقال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عين مكة ، ويطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت ، فقال : أفعل . فكلم أنيس أبرهة ، فقال له : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك ، يستأذن عليك ، وهو صاحب عين مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، فأذن له عليك ، فيكلمك في حاجته . قال : فأذن له أبرهة .
وكان عبد المطلب أوسم الناس ، وأعظمهم وأجملهم ، فلما رآه أبرهة أجله ، وأعظمه عن أن يجلسه تحته ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه . ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان ، فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك ، فرد عليه إبله ، وانصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف{[16384]} الجبال والشعاب ، تخوفا عليهم معرة{[16385]} الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش ، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لا هُمَّ إن العبدَ يم *** نعُ رَحْلَهُ فامنعْ حَلالَكْ{[16386]}
لا يَغْلِبَن صليبُهُمْ *** ومِحالُهُمْ عَدْواً{[16387]} مِحالَكْ
إن يدخلوا البلد الحرا *** مَ فأمرٌ ما بدا لَكْ
يقول : أي : شيء ما بدا لك ، لم تكن تفعله بنا . والحلال : جمع حل . والمحال : القوة ، وقيل : إن عبد المطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال :
يا ربِّ لا أرجُو لهم سِوَاكَا *** يا ربِّ فامنع منهم حِمَاكَا
إنَّ عدوَّ البيت من عَادَاكَا *** إنهم لن يقهروا قُوَاكَا
وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي :
لا هُمَّ أخْزِ الأسود بن مقصود *** الآخِذَ الهجمةَ فيها التقليدْ{[16388]}
بين حراء وثَبِيرٍ فالبيدْ *** يحبسها وهي أولات التَّطْرِيدْ{[16389]}
فضمها إلى طَمَاطِمٍ سُودْ *** [ قد أجمعُوا ألا يكون معبودْ{[16390]}
ويهدموا البيت الحرام المَعْمُودْ *** والمَرْوَتَيْنِ والمشاعرَ السُّودْ ]{[16391]}
أخْفِرْهُ{[16392]} يا رب وأنت محمود
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها . فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله ، وعبأ جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ، وأبرهة مجمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة ، أقبل نفيل بن حبيب ، حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأذنه فقال له : ابرك محمود ، وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام . ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل . وخرج نفيل بن حبيب يشتد ، حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، فضربوا في رأسه بالطبرزين{[16393]} ليقوم فأبى ، فأدخلوا محاجن{[16394]} لهم في مراقه ، فبزغوه{[16395]} بها ليقوم ، فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك . وأرسل الله عليهم طيرا من البحر ، أمثال الخطاطيف والبلسان{[16396]} ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت . وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاؤوا منها ، ويسألون عن نفيل بن حبيب ، ليدلهم على الطريق إلى اليمن . فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمه :
أين المفرُّ والإلهُ الطالبْ *** والأشرم{[16397]} المغلوبُ ليس الغالبْ
حمدت الله إذ أبصرتُ طيرا *** وخِفْتُ حجارة تُلْقَى علينا
فكل القوم يسأل عن نُفَيْلٍ *** كأنَّ عليَّ للحُبْشَانِ دِينَا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك{[16398]} على كل سهل{[16399]} ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة{[16400]} ، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث{[16401]} قيحا ودما ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه ، فيما يزعمون .
وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان - يزيد أحدهما وينقص - : سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي ، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى ، تسميها النصارى الهيكل ، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا ، فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا ، فاحترقت ، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره ، فاستشاط غضبا . فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون ، وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة . وكان النجاشي هو الملك ، وأبرهة صاحب الجيش ، وأبو يكسوم نديم الملك ، وقيل : وزير ، وحجر بن شرحبيل من قواده ، وقال مجاهد : أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح . فساروا ومعهم الفيل . قال الأكثرون : هو فيل واحد . وقال الضحاك : هي ثمانية فيلة . ونزلوا بذي المجاز ، واستاقوا سرح مكة ، وفيها إبل عبد المطلب . وأتى الراعي نذيرا ، فصعد الصفا ، فصاح : واصباحاه ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل . فخرج عبدالمطلب ، وتوجه إلى أبرهة ، وسأله في إبله . واختلف في النجاشي ، هل كان معهم ، فقال : قوم كان معهم . وقال الأكثرون : لم يكن معهم . ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر ؛ فقال عبد المطلب : ( إن هذه الطير غريبة بأرضنا ، وما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية ) وإنها أشباه اليعاسيب{[16402]} . وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة ، فلما أطلت{[16403]} على القوم ألقتها عليهم ، حتى هلكوا . قال عطاء بن أبي رباج : جاءت الطير عشية ، فباتت ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم . وقال الكلبي : في مناقيرها حصى كحصى الخذف{[16404]} ، أمام كل فرقة طائر يقودها ، أحمر المنقار ، أسود الرأس ، طويل العنق . فلما جاءت عسكر القوم وتوافت ، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها ، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به . وقيل : كان كل حجر مكتوب : من أطاع الله نجا ، ومن عصاه غوى . ثم انصاعت{[16405]} راجعة من حيث جاءت . وقال العوفي : سألت عنها أبا سعيد الخدري ، فقال : حمام مكة منها . وقيل : كان يقع الحجر على بيضة{[16406]} أحدهم فيخرقها ، ويقع في دماغه ، ويخرق الفيل والدابة . ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه . وكان أصحاب الفيل ستين ألفا ، لم يرجع منهم إلا أميرهم ، رجع ومعه شرذمة لطيفة . فلما أخبروا بما رأوا هلكوا . وقال الواقدي : أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبرهة هو الأشرم ، سمي بذلك ؛ لأنه تفاتن{[16407]} مع أرياط ، حتى تزاحفا ، ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما ، فمن غلب فله الأمر . فتبارزا ، وكان أرياط جسيما عظيما ، في يده حربة ، وأبرهة قصيرا حادرا{[16408]} ذا دين في النصرانية ، ومع أبرهة وزير له يقال له : عتودة ، فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة ، فوقعت على جبينه ، فشرمت عينه وأنفه وجبينه وشفته ؛ فلذلك سمي الأشرم . وحمل عتودة على أرياط فقتله . فاجتمعت الحبشة لأبرهة ، فغضب النجاشي ، وحلف ليحزن ناصية أبرهة ، ويطأن بلاده . فجز أبرهة ناصيته وملأ مزودا من تراب أرضه ، وبعث بهما إلى النجاشي ، وقال : إنما كان عبدك ، وأنا عبدك ، وأنا أقوم بأمر الحبشة ، وقد جززت ناصيتي ، وبعثت إليك بتراب أرضي ، لتطأه وتبر في يمينك ، فرضي عنه النجاشي . ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء ، ليصرف إليها حج العرب ، على ما تقدم .
الرابعة : قال مقاتل : كان عام الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه بأربعين سنة . وقال الكلبي وعبيد بن عمير : كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة . والصحيح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ولدت عام الفيل " ، وروي عنه أنه قال : " يوم الفيل " . حكاه الماوردي في التفسير له . وقال في كتاب أعلام النبوة : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ، وكان بعد الفيل بخمسين يوما . ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط{[16409]} ، في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان . قال : وحكى أبو جعفر الطبري أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان . وقد قيل : إنه عليه السلام حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم ، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، فكانت مدة حمله ثمانية أشهر كملا ، ويومين من التاسع . وقيل : إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم ، حكاه ابن شاهين{[16410]} أبو حفص ، في فضائل يوم عاشوراء له . ابن العربي : قال ابن وهب عن مالك : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وقال قيس بن مخرمة : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل . وقد روى الناس عن مالك أنه قال : من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه ؛ لأنه إن كان صغيرا استحقروه ، وإن كان كبيرا استهرموه . وهذا قول ضعيف ؛ لأن مالكا لا يخبر بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتم سنه ، وهو من أعظم العلماء قدوة به . فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرا أو صغيرا . وقال عبد الملك بن مروان لعتاب بن أسيد : أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : النبي صلى الله عليه وسلم أكبر منه ، وأنا أسن منه ، ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس . وقيل لبعض القضاة : كم سنك ؟ قال : سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وكان سنه يومئذ دون العشرين .
الخامسة : قال علماؤنا : كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله وقبل التحدي ؛ لأنها كانت توكيدا لأمره ، وتمهيدا لشأنه . ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة ، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة ؛ ولهذا قال : { ألم تر } ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس . وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها : لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس . وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة ، سودا مخططة بحمرة .
{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل 1 ألم يجعل كيدهم في تضليل 2 وأرسل عليهم طيرا أبابيل 3 ترميهم بحجارة من سجّيل 4 فجعلهم كعصف مأكول } .
يمتنّ الله في هذه الآيات على قريش ؛ إذ صرف عنهم أصحاب الفيل الذين جاءوا إليهم عازمين على هدم الكعبة وإزالتها من الوجود البتة . فأهلكهم الله أيما إهلاك ، ومزقهم شر ممزّق ، فخيّب مرادهم ، وأضل سعيهم ، وردهم خائبين خاسرين مخذولين خزايا .
وخلاصة ذلك أن أبرهة الأشرم وهو من نصارى الحبشة أرسل إلى النجاشي يقول له : إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يبن مثلها قبلها . فشرع في بناء كنيسة عظيمة رفيعة البنيان بصنعاء . وكانت عالية هائلة مزخرفة الأركان . وقد سمتها العرب القليس ، لارتفاعها . فقد كان الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها . وقد عزم أبرهة بذلك أن يصرف حجّ العرب إليها كما يحج إلى الكعبة بمكة ، ونادى بذلك في مملكته ، فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك ، وغضبت قريش لذلك غضبا شديدا حتى قصد بعضهم ما بناه أبرهة ، وتوصل إليها ، إلى أن دخلها ليلا ، فأحدث فيها ما أحدث ، ثم كرّ راجعا . فلما رأى السدنة ذلك الحدث رفعوا أمرهم إلى ملكهم أبرهة ، وقالوا له : إنما صنع هذا بعض قريش غضبا لبيتهم الذي ضاهيت به هذا . فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة ، وليخربنّه حجرا حجرا . فتأهب أبرهة لذلك ، ومضى إليهم في جيش كثيف عرمرم لئلا يصدّه أحد عنه ، واستصحب معه بعضا من الفيلة عظيمة الأبدان . فلما اقترب من أرض الطائف خرج إليه أهلها ثقيف ، وصانعوه خيفة على بيتهم الذي عندهم وهو الذي يسمونه اللات . فأكرمهم وبعثوا معه أبا رغال ليدلهم على طريق الكعبة حتى أنزلهم المغمّس . وهو موضع قرب مكة في طريق الطائف . وهناك مات أبو رغال ، فرجمت قبره العرب ، وهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمّس . وقد أغار جيش أبرهة على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها فأخذوه ، وكان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب . ثم بعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ليأتيه بأشرف قريش ، وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تصدوه عن البيت ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه . وإن يخلي بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه . فقال له حناطة : فاذهب معي إليه . فذهب معه فلما رآه أبرهة أجلّه ، وكان عبد المطلب رجلا جسيما حسن المنظر ، ونزل أبرهة عن سريره وجلس معه على البساط . وقال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ فقال للترجمان : إن حاجتي أن يردّ علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني . أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني . قال عبد المطلب : أنت وذاك{[4859]} .
قوله : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } الخطاب عام . يعني ألم تنظروا ما فعل الله بأصحاب الفيل ، وهم أبرهة وجيشه من الحبشة الذين جاءوا مكة يبتغون هدم الكعبة وتخريبها . والاستفهام للتقرير يعني ، قد رأيتم ذلك .