تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الفيل

أهداف سورة الفيل

( سورة الفيل مكية ، وآياتها 5 آيات ، نزلت بعد سورة الكافرون )

وهي سورة تشير إلى قدرة الله الغالبة ، وحمايته للبيت الحرام ، وقد ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وكان حادث الفيل إرهاصا بميلاده ، وبيانا لعناية الله بهذا البيت .

قصة أصحاب الفيل

حادث الفيل معروف لدى العرب ، حتى أنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث ، فيقولون : ولد عام الفيل ، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ، ونحو ذلك .

وجملة ما تشير إليه الروايات المتعددة أن الحاكم الحبشي لليمن –في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها– ويسمى أبرهة الأشرم ، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة ، وجمع لها كل أسباب الفخامة ، ليصرف بها العرب عن الحج إلى البيت الحرام ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا ، وقيل : أججت رفقة من العرب نارا ، فحملتها الريح فأحرقت الكنيسة ، فغضب أبرهة وأقسم ليهدمن الكعبة فخرج بالحبشة ، ومعه فيل اسمه محمود وكان قويا عظيما ، واثنا عشر فيلا غيره وسار بجيشه إلى مكة ، وانتصر على كل من قاومه من العرب ، حتى وصل إلى المغمّس بالقرب من مكة ، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم ، وإنما أتى لهدم البيت ففزعوا منه ، وانطلقوا إلى شعف الجبال ينتظرون ما هو فاعل ، وأرسل أبرهة إلى سيد مكة ليقابله .

قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم ، وهو يومئذ سيد مكة ، فقدم إلى أبرهة ، فلما رآه أبرهة أجلّه وأعظمه ، وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، وأجلسه معه إلى جانبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي ، فلما قال ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربّا سيمنعه ، قال : ما كان ليمتنع مني ، قال : أنت وذاك ، فردّ عليه إبله .

ثم انصرف عبد المطلب إلى باب الكعبة فأمسك بحلقه ، وقام معه نفر من قريش ، يدعون الله ويستنصرونه .

وروي عن عبد المطلب أنه أنشد :

لا همّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك

فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له ، فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها ، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا .

ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر ، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء ، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه ، كما تقول الرواياتi .

( وكان بين عام الفيل وبين المبعث نيف وأربعين سنة ، وكان قد بقي بمكة من شهد تلك الواقعة ، وقد بلغت حد التواتر حينئذ ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلى الله عليه وسلم ) . ii .

وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير ، فقال : حمام مكة منها ، وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم هلكى .

وعن عكرمة : من أصابته أصابه الجدري ، وهو أول جدري ظهر في الأرضiii .

وقد ذهب الأستاذ الإمام محمد عبده إلى أن الذي أهلك الجيش ( هو انتشار داء الجدري والحصبة بين أفراده ، وقد نشأ هذا الداء من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش ، بواسطة فرق عظيمة من الطير ، مما يرسله الله مع الريح ، فهي أشبه بالميكروبات الفتاكة التي تعصف بالجسم )iv .

فالأستاذ الإمام يريد أن يجعل هذه المعجزة الخارقة للعادة أمرا متفقا مع المعهود في حياة الناس ، فيرجع الهزيمة إلى انتشار وباء الحصبة أو الجدري ، حتى يتسنى له إقناع العقول ، وفي نفس الوقت يتخلص مما ورد في بعض الروايات من المبالغة في وصف هذه الطير ، والحجارة التي حملتها في رجليها وفمها .

ونرى أن الأولى عدم إخضاع الآيات لمألوف الناس وما يحدث في واقع حياتهم ، لأن الآيات تخبر عن خارقة وقعت بقدرة الله القادر ، الذي يقول للشيء كن فيكون .

وإذا سلمنا أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن الله أرسل طيرا غير معهودة ، كان ذلك أدعى إلى تحقيق العبرة الظاهرة المكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ، حتى ليمنّ الله بها على قريش بعد البعثة ، ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته ، وغيرته عليها .

( فممّا يتناسق مع جو هذه الملابسات كله ، أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكل مقوماته وبكل أجزائه ، ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر ، في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ ) . v .

ثم إن إصابة الجيش بالوباء ، وعدم إصابة أحد من العرب القريبين منه أمر خارق للعادة ، وما دامت المسألة خارقة ، فعلام العناء في حصرها في صورة معينة مألوفة للناس ، مع أن السورة تفيد أن أمرا خاصا قد أرسله الله على أصحاب الفيل .

إننا لا يجوز أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة ، بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا الإيمانية ، ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوراتنا .

( وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة ، ولكن معناه أن العقل ليس وحده هو الحكم في مقررات القرآن ، ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة ، فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا ، وكيف نصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها ، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى ) . vi .

مع آيات السورة

1- ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل . ألم تنظر أو ألم تعلم عن الحالة التي وقع عليها عمل الله ، الذي يتولى أمرك ، بأصحاب الفيل الذين حاولوا هدم البيت الحرام ؟ والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة ، لكنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر أخبارها ، فالعلم بها مساو في قوة الثبوت للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة .

2- ألم يجعل كيدهم في تضليل . لقد دبّروا كيدا للبيت الحرام ، ببناء الكنيسة وصرف وجوه الحجاج إليها ، فضلّل الله كيدهم بأن أوقع الحريق فيها ، وكادوه ثانيا بإرادة هدم البيت ، فضلّل الله كيدهم بإرسال الطير عليهم .

ومعنى تضليل كيدهم ، أي إضاعته وإبطاله ، يقال : ضلّل كيده ، إذا جعله ضالا ضائعا ، ومنه قولهم لامرئ القيس : الملك الضليل ، لأنه ضلّل ملك أبيه ، أي ضيعه .

3- وأرسل عليهم طيرا أبابيل . أبابيل : جماعات أو طوائف على هيئة أسراب ، أي : أرسل الله عليهم فرقا من الطير .

4- ترميهم بحجارة من سجيل . السجيل : الطين الذي تحجّر ، أو الحجارة المحروقة ، أي : أرسل الله عليهم جندا من جنوده ، وكم لله من جنود لا يعلمها إلا هو ، لقد أرسل الله على أبرهة وجنده جيشا من الطير ، أسلحتهم حجارة صغيرة في مناقيرها ، ترمي الجندي بها ، فتنفذ من أعلى جسمه إلى أسفله ، فتنهرئ لحومهم ، وتتساقط متناثرة عن أجسادهم .

5- فجعلهم كعصف مأكول . العصف : ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد ، تفته الريح وتأكله المواشي .

وقال الفراء : هو أطراف الزرع ، وقيل : هو الحب الذي أكل لبّه وبقى قشره .

ووصف العصف بأنه مأكول ، أي فتيت طحين ، حين تأكله الحشرات وتمزقه ، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه ، وهي صورة حسية للتمزيق بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير .

وذهب مقاتل وقتادة وعطاء عن ابن عباس إلى أن معنى عصف مأكول ، أي : نبات أكلته الدواب وصار روثا ، إلا أنه جاء على أدب القرآن كقوله تعالى : كانا يأكلان الطعامvii . . . ( المائدة : 75 ) .

**

مقاصد السورة

1- بيان قدرة الله وحمايته لبيته .

2- لفت الأنظار إلى ما صنعه الله بأصحاب الفيل .

3- لقد ضلّ كيدهم وخاب سعيهم .

4- أرسل الله عليهم جماعات من الطيور في شكل أسراب .

5- أصابتهم الطير بحجارة مخلوطة بالطين تحمل الهلاك والدمار .

6- انتهى الجيش إلى ضياع وهزيمة منكرة ، كما ينتهي الزرع المأكول إلى روث مهمل ضائع .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل 1 ألم يجعل كيدهم في تضليل 2 وأرسل عليهم طيرا أبابيل 3 ترميهم بحجارة من سجّيل 4 فجعلهم كعصف مأكول 5 }

التفسير :

1- ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .

ألم يصل إلى علمك ما فعله ربك ومربيك وحاميك يا محمد بأصحاب الفيل ، وهم أبرهة الأشم وجيشه الذي قدم من اليمن ، وانتصر على من قاومه من العرب حتى وصل إلى المغمّس بأطراف مكة ، واستولى على إبل مكة .

ثم رغب أبرهة في الهجوم على الكعبة ، فتقدمت الفيلة ، ورئيسها فيل كبير يسمى محمود ، فبرك الفيل قبل الكعبة وامتنع تماما ، فإذا وجّهوه جهة اليمن أو إلى جهة هرول مسرعا ، وإذا وجّهوه إلى الكعبة امتنع .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الفيل ، وهي مكية .

{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }

أي : أما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه ، ورحمته بعباده ، وأدلة توحيده ، وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ما فعله الله بأصحاب الفيل .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

{ ألم تر } ألم تعلم ، وقيل : ألم تخبر { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل }

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

لما قدم في الهمزة أن كثرة الأموال المسببة بالقوة بالرجال ربما أعقبت الوبال ، دل عليه في هذه بدليل شهودي وصل في تحريقه وتغلغله في الأجسام وتجريفه إلى القلوب في العذاب الأدنى كما ذكر فيما قبلها للعذاب الأكبر الأخفى ، محذراً من الوجاهة في الدنيا وعلو الرتبة ، مشيراً إلى أنها كلما عظمت زاد ضررها بما يكسبه من الطغيان حتى ينازع صاحبها الملك الأعلى ، ومع كونه شهودياً فللعرب -ولا سيما قريش- به الخبرة التامة ، فقال مقرراً منكراً على من يخطر له خلاف ذلك : { ألم تر } أي تعلم علماً هو في تحققه كالحاضر المحسوس بالبصر ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد تلك الوقعة فإنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر مع إعلام الله له أخبارها ، وخصه صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأن ذلك لا يعلمه ويعمل به إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن وفقه الله لحسن اتباعه ، لما للإنسان من علائق النقصان ، وعلائق الحظوظ والنسيان ، وقرىء " تر " باسكان الراء ، قالوا : جداً في إظهار أثر الجازم ، وكأن السر في هذه القراءة الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية ، إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر ، من لم يعتن به ويسارع إلى تعمده لا يدركه حق إدراكه .

ولما كان للناظر في الكيفية من التدقيق والوقوف على التحقيق في وجوه الدلالات على كمال علم الله وقدرته وإعزاز نبيه بالإرهاص لنبوته والتمكين لرسالته لتعظيم بلده وتشريف قومه ما ليس للناظر إلى مطلق الفعل قال : { كيف } ، دون أن يقول : ما { فعل } أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل ، وفعل الرؤية معلق عن " كيف " لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه ؛ بل ناصبه فعل ، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق { ربك * } أي المحسن إليك ، ومن إحسانه إحسانه إلى قومك بك وبهذه الواقعة الخارقة للعادة إرهاصاً لنبوتك كما هو معلوم من أخبار الأنبياء المتقدمين فيما يقع بين أيدي نبواتهم من مثل ذلك ، ليكون مؤيداً لادعائهم النبوة بعد ذلك ، وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالخطاب والتعبير بالرب مع التشريف له ، والإشارة بذكره التعريض بحقارة الأصنام التي سموها أرباباً لهم ، يعلم ذلك منهم علم اليقين من آمن ، ومن استمر على كفره فسيعلم ذلك حق اليقين عندما يسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالبلد الحرام ، ويحلها له على أعلى حال ومرام { بأصحاب الفيل * } أي الذين قصدوا انتهاك حرمات الله سبحانه وتعالى فيخربوا بيته ويمزقوا جيرانه بما أوصلهم إلى البطر من الأموال والقوة التي منّ عليهم سبحانه وتعالى بها ، فحسبوا أنها تخلدهم ، فبان أنها توردهم المهالك ضد ما حسبوه ، وهم الحبشة الذين كانوا غلبوا على بلاد اليمن ، بنى أميرهم وهو أبو يكسوم أبرهة بن الصباح الأشرم بيعة بصنعاء وسماها القليس وزن قبيط ، وأراد أن يصرف إليها - فيما زعم - حج العرب ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً ، يعني تغوط ولطخها به ، فأغضب ذلك الأشرم ، فسأل فقيل له : نرى الفاعل من أهل البيت الذي بمكة ، فحلف ليهدمنَّ الكعبة . ومن عجائب صنع الله أنه ألهمه سبحانه وتعالى تسميتها هذا الاسم الذي هو مشتق من القلس الذي أحد معانيه أنه ماء خرج من الحلق ملء الفم ، فهو مبدأ القيء الذي هو أخو الغائط الذي آل أمرها إليه ، فكان سبب هلاكها بهلاك بانيها ، وذلك أنه غضب من ذلك فخرج بجيشه لهدم بيت الله الكعبة ومعه أفيال كثيرة منها فيل عظيم اسمه محمود ، فقاتله بعض العرب فهزمهم وقتل منهم ، فلما دوّخهم دانوا له ، فلما وصل إلى المغمس خرج إليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، فعرض عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ، وقيل : بل كانت طلائعه أخذت له مائتي بعير فطلبها منه فقال : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، فزهدت فيك حين تكلمني في مائتي بعير ، وتترك كلامي في بيت هو دينكم وفيه عزكم ؟ فقال : أنا رب الإبل ، وأما البيت فله رب يمنعه ، فقال : ما كان يمنعه مني ، فقال :أنت وذاك ، فرد عليه إبله فساقها ومضى ، وأمر قريشاً أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في الجبال ، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا *** فامنعهم أن يقربوا قراكا

وقال :

لا هم إن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك

جروا جميع تلادهم *** في الفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم *** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه ، فلما أصبح أبرهة تهيأ للدخول إلى الحرم وعبأ جيشه وقدم الفيل فبرك ، فعالجوه فلم تفد فيه حيلة ، فوجهوه إلى غير الحرم فقام يهرول ، فوجهوه إلى الحرم فبرك ، وكان هذا دأبه في ذلك اليوم ، فبينما هم كذلك إذا أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل ، كل طائر منها في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، الحجر منها أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فرمتهم بها ، فكان الحجر منها يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره ، فهلكوا جميعاً ، وأهل مكة ومن حضر من العرب في رؤوس الجبال ينظرون إلى صنع الله تعالى بهم وإحسانه إليهم - أي أهل مكة - وكان ذلك إرهاصاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك كان عام مولده ، وقال حمزة الكرماني : وفي رواية : يوم مولده ، وكأنه كان سبباً لضعفهم حتى ذهب سيف بن ذي يزن إلى كسرى وأتى منه بجيش فاستأصل بقيتهم - كما هو مشهور في السير ، ومأثور في الخبر ، ووفدت قريش لتهنئته بالنصرة عليهم ، وكان رئيسهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبشره سيف بأنه يولد له ولد اسمه محمد فأعلمه بأن ولد وأن أباه توفي ، فأخبره سيف بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان ، وأن يثرب مهاجره ، وأنه لو علم أنه يعيش إلى زمن بعثته لأتى يثرب وجعلها قراره حتى ينصر النبي صلى الله عليه وسلم بها ويظهر نبوته .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك ، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم ، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم ، حتى هموا بهدم البيت المكرم ، فتعجلوا النقمة ، وجعل الله كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، أي جماعات متفرقة ، ترميهم بحجارة من سجيل ، حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم ، فجعلهم كعصف مأكول ، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم . انتهى .