{ فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
اختلف أهل التأويل فيما دلّ عليه هذا القول من الله تعالى ذكره فقال بعضهم : دلّ على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما : الطّلاقُ مَرّتانِ فإن امرأته تلك لا تحلّ له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره ، يعني به غير المطلق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : جعل الله الطلاق ثلاثا ، فإذا طلقها واحدة فهو أحقّ بها ما لم تنقض العدة ، وعدتها ثلاث حيض ، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها فقد بانت منه ، وصارت أحق بنفسها ، وصار خاطبا من الخطاب ، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها ، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قُبْل عدتها عند شاهدي عدل ، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها ، وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة ، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها ، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قُبْل عدتها ، فإن بدا له مراجعتها راجعها ، فكانت عنده على واحدة ، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها ، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره : فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ يقول : إن طلقها ثلاثا ، فلا تحلّ حتى تنكح زوجا غيره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة ، قال : والثالثة قوله : فإنْ طَلّقَها يعني بالثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، بنحوه .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فإنْ طَلّقَها بعد التطليقتين فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، وهذه الثالثة .
وقال آخرون : بل دلّ هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما : الطّلاقُ مَرّتانِ . قالوا : وإنما بين الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله : أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ وأعْلَمَ أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين فلا تحلّ له المسرّحة كذلك إلا بعد زوج . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ قال : عاد إلى قوله : فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر : والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال : أو سئل فقيل : هذا قول الله تعالى ذكره : الطّلاقُ مرّتانِ فأين الثالثة ؟ قال : «فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ » . فأخبر صلى الله عليه وسلم ، أن الثالثة إنما هي قوله : أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ . فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة ، فمعلوم أن قوله : فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل ، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحلّ للمسرح بالإحسان إن سرّح زوجته بعد التطليقتين ، والذي يحرم عليه منها ، والحال التي يجوز له نكاحها فيها ، وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته .
فإن قال قائل : فأيّ النكاحين عنى الله بقوله : فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ ألنكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج ؟ قيل : كلاهما ، وذلك أن المرأة إذا نكحت رجلاً نكاح تزويج لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحلّ للأول ، وكذلك إن وطئها واطىء بغير نكاح لم تحلّ للأول بإجماع الأمة جميعا . فإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن تأويل قوله : فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ نكاحا صحيحا ، ثم يجامعها فيه ، ثم يطلقها .
فإن قال : فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره ، فما الدلالة على أن معناه ما قلت ؟ قيل : الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه . وبعد ، فإن الله تعالى ذكره قال : فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها ، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به ، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله : فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله : وَالمُطَلّقاتُ يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وكذلك قوله : فَإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ وإن لم يكن مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دلّ على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده . ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري ، وسفيان بن وكيع ، وأبو هشام الرفاعي ، قالوا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوّجت رجلاً غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها ، أتحلّ لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَحِلّ لِزَوْجِها الأوّلِ حتى يَذُوقَ الاَخَرُ عُسَيْلَتها وتَذُوقَ عُسْيَلَتَهُ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قال : سمعتها تقول : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كنت عند رفاعة فطلقني ، فبتّ طلاقي ، فتزوّجت عبد الرحمن بن الزّبير ، وإن ما معه مثل هُدْبة الثوب ، فقال لها : «تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلى رِفاعَةَ ؟ لا ، حتى تَذُوقي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَك » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : ثني عروة بن الزبير ، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، فذكر مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن رفاعة القرظي طلق امرأته ، فبتّ طلاقها ، فتزوجها بعدُ عبد الرحمن بن الزّبير ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله إنها كانت عند رفاعة ، فطلقها آخر ثلاث تطليقات ، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير ، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل الهدبة . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لها : «لَعلّكِ تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلى رِفاعَةَ ؟ لا ، حتى تذُوِقي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ » قالت : وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له ، فطفق خالد ينادي يا أبا بكر يقول : يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
حدثنا محمد بن يزيد الأودي ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، عن عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لاَ حّتى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِها ما ذَاقَ الأوّلُ » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبيد الله ، قال : سمعت القاسم يحدّث عن عائشة ، قال : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لاَ حتى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِها ما ذَاقَ صَاحِبُهُ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : حدثنا القاسم ، عن عائشة ، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثا ، فتزوّجت زوجا ، فطلقها قبل أن يمسها ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحلّ للأوّل ؟ قال : «لاَ حّتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها كمَا ذَاقَ الأوّلُ » .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا موسى بن عيسى الليثي ، عن زائدة ، عن عليّ بن زيد ، عن أم محمد ، عن عائشة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إذَا طَلّقَ الرّجُلُ امْرأتَه ثَلاثا لَمْ تَحِلّ لَهُ حتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ ، فَيَذُوقَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ » .
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي ، قال : أخبرنا شيبان ، عن يحيى ، عن أبي الحارث الغفاري ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها » .
حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا شيبان ، قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي الحارث الغفاري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا ، فتتزوّج غيره ، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فيريد الأول أن يراجعها ، قال : «لا ، حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها » .
حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا محمد بن دينار ، قال : حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في رجل طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخل بها ، أترجع إلى زوجها الأول ؟ قال : «لا ، حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها وَتَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، ويعقوب بن ماهان ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق ، عن سليمان بن يسار ، عن عبيد الله بن العباس : أن الغميصاء أو الرميصاء جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها ، وتزعم أنه لا يصل إليها ، قال : فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها ، فزعم أنها كاذبة ، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ لَكِ حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سالم بن رزين الأحمري ، عن سالم بن عبد الله ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في رجل يتزوّج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ، فتتزوّج زوجا آخر ، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، أترجع إلى الأوّل ؟ قال : «لا حتى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَها » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن رزين الأحمري ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ، فيتزوّجها رجل ، فأغلق الباب ، فطلقها قبل أن يدخل بها ، أترجع إلى زوجها الاَخر ؟ قال : «لا حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن رزين ، عن ابن عمر أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته ، فتزوّجت بعده ، ثم طلقها أو مات عنها ، أيتزوّجها الأول ؟ قال : «لا حتى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ » .
القول في تأويل قوله تعالى : فإنْ طَلّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَرَاجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقيِما حُدُودَ اللّهِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : فإنْ طَلّقَها فإن طلق المرأة التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني ، زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأوّل فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يقول تعالى ذكره : فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأوّل ، وبعد نكاحه إياها ، وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات أن يتراجعا بنكاح جديد . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : فإنْ طَلّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَرَاجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقيِما حُدُودَ اللّهِ يقول : إذا تزوّجت بعد الأول ، فدخل الاَخر بها ، فلا حرج على الأول أن يتزوّجها إذا طلق الاَخر أو مات عنها ، فقد حلت له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشام ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : إذا طلق واحدة أو ثنتين ، فله الرجعة ما لم تنقض العدة . قال : والثالثة قوله : فإنْ طَلّقَها يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره ، فيدخل بها ، فإن طلقها هذا الأخير بعد ما يدخل بها ، فلا جناح عليهما أن يتراجعا يعني الأوّل إن ظنا أن يقيما حدود الله .
وأما قوله : إنْ ظَنّا أنْ يُقيِما حُدُودَ اللّهِ فإن معناه : إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله . وإقامتهما حدود الله : العمل بها ، وحدود الله : ما أمرهما به ، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه ، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما . وقد بينا معنى الحدود ومعنى إقامة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وكان مجاهد يقول في تأويل قوله : إنْ ظَنّا أنْ يُقيِما حُدُودَ اللّهِ ما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : إنْ ظَنّا أنْ يُقيِما حُدُودَ اللّهِ إن ظنا أن نكاحهما على غير دُلْسَة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقد وجه بعض أهل التأويل قوله إنْ ظَنّا إلى أنه بمعنى : إن أيقنا . وذلك ما لا وجه له ، لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى ذكره . فإذ كان ذلك كذلك ، فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله ؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره : إنْ ظَنّا بمعنى طمعا بذلك ورجواه «وأن » التي في قوله أنْ يُقِيما في موضع نصب ب «ظَنّا » ، و«أن » التي في أن يتراجعا جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد الخافض ، لأن معنى الكلام : فلا جناح عليهما في أن يتراجعا ، فلما حذفت «في » التي كانت تخفضها نصبها ، فكأنه قال : فلا جناح عليهما تراجعهما . وكان بعضهم يقول : موضعه خفض ، وإن لم يكن معها خافضها ، وإن كان محذوفا فمعروف موضعه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَتِلْكَ حُدودُ الله يُبَيّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَتِلْكَ حُدُودُ الله هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الاَيات ، حدود الله معالم فصول حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته ، يُبَيّنُها : يفصلها ، فيميز بينها ، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم ، فيعرفون أنها من عند الله ، فيصدقون بها ، ويعملون بما أودعهم الله من علمه ، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم ، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها ، ولا يصدّقون بأنها من عند الله ، فهم يجهلون أنها من الله ، وأنها تنزيل من حكيم حميد . ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون ، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها ، وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها ، وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به .
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 230 )
قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي : هذا ابتداء الطلقة الثالثة .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من الثانية ، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه : «إن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق » ، واحتج من هذه الآية بذكر الله -تعالى - الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك للخلع حكم يعتد به ، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف » عنه وعن وعكرمة( {[2189]} ) وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وذكر عن الجمهور خلاف قولهم ، وقال مجاهد : «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح ، والتسريح هو الطلقة الثالثة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقوله تعالى : { أو تسريح } يحتمل الوجهين : إما تركها تتم العدة ، وإما إرداف الثالثة . ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد( {[2190]} ) ، إذ الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء العدة . و { تنكح } في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في العقد ، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في بنت( {[2191]} ) سموأل امرأة رفاعه حين تزوجها عبد الرحمن بن الزبير( {[2192]} ) وكان رفاعة قد طلقها ثلاثاً ، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : «إني لا أريد البقاء مع عبد الرحمن ، ما معه إلا مثل الهدبة » ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة ، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته »( {[2193]} ) ، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو الدخول والوطء ، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قال : «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة » ، وقال بعض الفقهاء : التقاء الختانين يحل .
قال القاضي أبو محمد والمعنى واحد ، إذ لا يلتقي الختانان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور ، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد عليها يحلها للأول ، وخطىء هذا القول لخلافه الحديث الصحيح ، ويتأول على سعيد - رحمه الله - أن الحديث لم يبلغه ، ولما رأى العقد عاملاً في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس عليه عمل العقد في تحليل المطلقة .
قال القاضي أبو محمد : وتحليل المطلقة ترخيص فلا يتم إلا بالأوفى ، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر والحنث( {[2194]} ) .
والذي يحل عند مالك - رحمه الله - النكاح الصحيح والوطء المباح ، والمحلل إذا وافق المرأة : فلم تنكح زوجاً( {[2195]} ) ، ولا يحل ذلك ، ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافاً ، وقال عثمان بن عفان : «إذا قصد المحلل التحليل وحده لم يحل ، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها » . ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به الزوج . وقال الحسن بن أبي الحسن : «إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول » ، وهذا شاذ ، وقال سالم والقاسم : لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان .
وقوله تعالى : { فإن طلقها فلا جناح عليهما } الآية ، المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول ، قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه ، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين ، وقال أبو عبيدة : «المعنى أيقنا » ، وقوله في ذلك ضعيف( {[2196]} ) ، و { حدود الله } الأمور التي أمر أن لا تتعدى ، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفاً لهم ، وإذ هم الذين ينتفعون بما بين . أي نصب للعبرة من قول أو صنعة ، وأما إذا أردنا بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون بالذكر ، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء( {[2197]} ) ، وقرأ السبعة «يبينها » بالياء ، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها » بالنون .