ثم بين - سبحانه - حكم الخطبة للنساء المعتدات بياناً يقوم على أدب النفس ، وأدب الاجتماع ، ورعاية المشاعر والعواطف مع رعاية المصالح والضرورات فقال - تعالى - :
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ . . . }
قوله - تعالى - : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ } أي : لو حتم وأشرتم به . من التعريض الذي هو ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ، ويصلح لدلالة على غير مقصوده ، إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء - بضم العين - أي جانبه ومن أمثلته أن يقول الفقير المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك . . وهو يقصد عطاءه .
و { خِطْبَةِ النسآء } مخاطبة المرأة أو أوليائها في أمر زواجها . والخطبة - بكسر الخاء كالجلسة - مأخوذة من الخطب أي الشأن لأنها شأن من الشئون وقيل من الخطاب لأنها نوع - مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة . والمراد خطبة النساء اللائي فارقهن أزواجهن . و { أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } أخفيتم وأسررتم من الإِكنان وهوالإِضمار من غير إعلان .
والمعنى : ولا حرج ولا إثم عليكم أيها الرجال المبتغون للزواج في التعريض بخطبة المرأة أثناء عداتها لتتزوجوهن بعد انقضائها ، كما أنه لا إثم عليكم كذلك في الرغبة في الزواج بهن ، مع إخفاء ذلك وستره من غير كشف وإعلان لأن التصريح بالخطبة أثناء العدة عمل يتنافى مع آداب الإسلام ، ومع تعاليم شريعته ، ومع الأخلاق الكريمة ، والعقول السليمة ، والنفوس الشريفة .
قال القرطبي : قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معه بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز وكذلك ما أشبهه وجوز ما عدا ذلك . ولا يجوز التعريض لخطبة المطلقة طلاقاً رجعياً إجماعاً لأنها كالزوجة . وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها " .
والتعريض في خطبة النساء أساليبه مختلفة ، ومما ذكره العلماء في هذا الشأن أن يقول الرجل للمرأة : أني أرغب في الزواج أو أن يقول لوليها : لا تسبقني بها إلى غيري .
ومن أساليب التعريض ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع السيدة أم سلمة ، فقد جخل عليها وهي متأيمة من زوجها أبي سلمة فقال لها : " لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي " فكان كلامه خطبة لها بأسلوب التعريض .
ومنها ما ذكره صاحب الكشاف عن عبد الله بن سليمان عن خالته - سكينة بنت حنظلة - قالت : " دخل على أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابتي من جدي علي بن أبي طالب ، وموضعي في العرب ، وقدمي في الإِسلام . قالت : فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ! أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال : أو قد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } إلخ معطوف على ما قبله في الآية السابقة لأن الكلام في الآيتين في الأحكام المتعلقة بعدة النساء .
و ( ما ) في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } موصولة . و { مِنْ خِطْبَةِ النسآء } بيان لما ، و ( آل ) في النساء للعهد والمعهودات هن الزوجات اللائي سبق الحديث عنهن في الآيات التي قبل هذه . و { أَوْ } في قوله : { أَوْ أَكْنَنتُمْ } للإِباحة أو التخيير ، ومفعول أكن محذوف يعود إلى ما الموصولة في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } والتقدير : أو أكننتموه . { في أَنْفُسِكُمْ } متعلق بأكننتم .
وقوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } كالتعليل لما قبله وهو قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } إلخ . ونهى عما يردى ويفسد ، وإباحة لما لا ضرر فيه .
أي : علم الله أنكم يا معشر الرجال ستذكرون هؤلاء النسوة المعتدات بمالهن من جمال ومن حسن عشرة ومن غير ذلك من شئونهن وأن تفكروا فيهن وتهفوا إليهن نفوسكم ، والله - تعالى - فضلا منه وكرماً قد أباح لكم أن تذكروهن ولكنه ينهاكم عن أن تواعدوهن وعداً سرياً بأن تقولوا لهم في السر ما تستحيون من قوله في العلن لقبحه ومنافاته للشرع .
وقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } استثناء مما يدل عليه النهي لا تواعدوهن مواعدة ما إلا مواعدة معروفة غير منكرة شرعاً ، وهي ما تكون بطريق التلويح والتعريض .
وفي قوله سبحانه : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } بيان لما جبلت عليه النفس البشرية من ميل فطري بين الرجال والنساء ، والإِسلام لا ينكر هذا الميل وإنما يهذبه ويقومه ويصقله بآدابه الحميدة ، وتعاليمه السامية .
وقوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } استدراك على محذوف دل عليه { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي : فاذكروهن { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } .
قال القرطبي ما ملخصه : واختلف العلماء في المراد بالسر في قوله - تعالى - : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } فقيل معناه نكاحاً ، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني بل يعرض إن أراد ، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية . هذا قول جمهور أهل العلم . و " سراً " على هذا التأويل نصب على الحال أي مسرين - وسمي النكاح سراً لأن مسببه الذي هو الوطء ما يسر - وقيل السر الزنا ، أي لا يكونن من كم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها . أي لا تواعدوهن زنا . واختاره الطبري . ومنه قول الأعشى :
فلا تقربن جارة إن سرها . . . عليك حرام فانكحن أو تأبداً
أي : " فتزوجها أو ابتعد عنها . وقيل السر الجماع "
والذي تطمئن إليه النفس أن كلمة ( سرا ) صفة لموصوف محذوف أي لا تواعدهن وعدا سرية ، يقال فيها كل ما ينهى عنه أو يستحيا منه في العلن ، لقبه أو لأن أوانه لم يحن بعد ، إذ السرية ، أو الخلوة بين الرجل والمرأة لا تؤمن مزالقها .
وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " وأن المراد بقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } هو التعريض بالخطبة ، وإظهار المودة بطريقة لا تفضى إلى محرم .
قال صاحب الكشاف في قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا .
فإن قلت بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بلا تواعدوهن . أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة : أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض .
ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } .
العزم : القطع والتصميم ، يقال عزم على الشيء إذا صمم وعقد القلب على فعله ، وهو يتعدى بعلى وبنفسه فيقال : عزم اليء وعزم عليه .
وعقدة النكاح : الارتباط الموثق به . وأصل العقد الشد ، والعهود والأنكحة تسمى عقودا لأنها تقعد وتوثق كما يوثق بالحبل .
والمراد بالكتاب هنا الأمر المكتوب المفروض وهو العدة التي حدد الله لها وقتاً معيناً .
والأجل : هو نهاية المدة التي قررها الشرع للعدة .
والمعنى : لا يسوغ لكم يا معشر الرجال الراغبين في الزواج من النساء اللائي فارقهن أزواجهن أن تعقدوا العزم نهائياً في أثناء العدة على أن تتموا الزواج بعدها ، بأن تحول الخطبة من التعريض إلى التصريح ، أو تبتوا في أمر الزواج بتاً قاطعاً بمواعدة أو نحوها ، إذ العاقل لا يستعجل أمرا قبل حلول وقته ، وإنما الذي يسوغ لكلم أن تتموا عقد الزواج بعد انتهاء العدة وبعد أن يكون جو الأحزان قد فتر وجفت حدته .
والنهي عن العزم على عقد النكاح نهي بالأولى عن إبرامه وتنفيذه ، لأن العزم على الفعل يتقدمه ، فإذا نهى عنه كان الفعل أنهى ، فهو كالنهي عن الاقتراب من حدود الله في قوله : { حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد أباحت شيئين ، ونهت عن شيئين : أباحت التعريض بالخطبة للمرأة أثناء عدتها ، كما أباحت إخفاء هذه الرغبة في الأنفس وحديثها بها . ويشهد لذلك قوله - تعالى - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } ونهت عن المواعدة سراً إلا أن يقولوا قولا معروفاً عن طريق التعريض ، أو أن يسار الرجل المرأة بالقول المعروف الذي أباحه الشرع وارتضته العقول السليمة ، والأخلاق الفاضلة ، بأن يعدها في السر بالإِحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض . أما الشيء الثاني الذي نهت عنه فهو العزم على عقدة النكاح قبل انقضاء العدة . ويشهد لهذا قوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } .
وبعد هذه الأوامر والنواهي ختم الله - تعالى - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
أي : اعلموا أيها الناس أن الله - تعالى - يعلم ما يجول في نفوسكم من خير أو شر ، وما تهجس به خطرات قلوبكم من مقاصد واتجاهات ، فاحذروا أن تقصدوا ما هو شر ، أو تفعلوا ما هو منكر ، واعلموا أنه - تعالى - غفور لمن تاب وعمل صالحاً ، حليم لا يعاجل الناس بالعقوبة ، ولا يؤاخذهم إلا بما كسبوا .
فالجملة الكريمة تحذير وتبشير ، وترغيب وترهيب ، لكي لا يتجاسر الناس على ارتكاب ما نهي الله عنه ، ولا ييأسوا من رحمته متى تابوا وأنابوا .
هذا ، وقد أجمع العلماء أنها تصير محرمة عليه تحريماً مؤبداً ، ولا يحل له نكاحها ركلك لأنه استحل ما لا يحل فعوقب بحرمانه ، كالقاتل يعاقب بحرمانه من ميراث المقتول . وقيل : يفسخ النكاح ويفرق بينهما فإذا انتهت العدة حلت له ولم يتأبد التحريم . ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد أرشدت الناس إلى ما يقره الشرع ، ويرتضيه الخلق الكريم ، ونهتهم عما يتنافى مع تعاليم الإِسلام بأسلوب حكيم جمع بين الشدة واللين ، والخوف والرجاء ، حتى يثوب المخطئون إلى رشدهم ويقلعوا عن خطئهم .
عطف على الجملة التي قبلها ، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة ، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق وعدة الوفاة ، وأن أمد العدة محترم ، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف ، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام ، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج ، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها ، حرصاً على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك ، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه .
والجناح الإثم وقد تقدم في قوله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } [ البقرة : 158 ] .
وقوله : { ما عرضتم به } ما موصولة ، وما صْدَقها كلام ، أي كلام عرضتم به ، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام ، وقد بينه بقوله : { من خطبة النساء } فدل على أن المراد كلام .
ومادة فعَّل فيه دالة على الجعل مثل صوَّر ، مشتقة من العرض بضم العين وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب ، والجانب هو الطرف ، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب . ونظير هذا قولهم جَنَبَه ، أي جعله في جانب . فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئاً ، غير المدلول عليه بالتركيب وضعاً ، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود ، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي ، فعلم ألابد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود ، وتلك المناسبة : إما ملازمة أو مماثلة ، وذلك كما يقول العافى لرجل كريم : جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك ، وقد عبر عن إرادتهم مثل هذا أمية بن أبي الصلت في قوله :
إذَا أَثَنى عليكَ المرءُ يوماً *** كفاهُ عن تَعَرُّضه الثَّنَاء
وجعل الطيبي منه قوله تعالى : { وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] . فالمعنى التعريضي في مثل هذا حاصل من الملازمة ، وكقول القائل « المسلم من سلم المسلمون من لسانه » في حضرة من عرف بأذى الناس ، فالمعنى التعريضي حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام ، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله صح أن نقول إن المعنى التعريضي بالنسبة إلى المركبات شبيه بالمعنى الكنائي بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة ، وإن شئت قلت : المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد ، وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب ، وهذا هو الملاقى لما درج عليه صاحب « الكشاف » في هذا المقام ، فالتعريض عنده مغاير للكناية من هذه الجهة وإن كان شبيهاً بها ، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما ، فالنسبة بينهما عنده التباين .
وأما السكاكي فقد جعل بعض التعريض من الكناية وهو الأصوب ، فصارت النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي ، وقد حمل الطيبي والتفتازاني كلام « الكشاف » على هذا ، ولا إخاله يتحمله .
وإذ قد تبين لك معنى التعريض ، وعلمت حد الفرق بينه وبين الصريح فأمثلة التعريض والتصريح لا تخفى ، ولكن فيما أثر من بعض تلك الألفاظ إشكال لا ينبغي الإغضاء عنه في تفسير هذه الآية .
إن المعرض بالخطبة تعريضه قد يريده لنفسه وقد يريده لغيره بوساطته ، وبين الحالتين فرق ينبغي أن يكون الحكم في المتشابه من التعريض ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة ابنة قيس ، وهي في عدتها من طلاق زوجها عمرو بن حفص آخر الثلاث « كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك » أي لا تستبدي بالتزوج قبل استئذاني وفي رواية « فإذا حللت فآذنيني » وبعد انقضاء عدتها خطبها لأسامة بن زيد ، فهذا قول لا خطبة فيه وإرادة المشورة فيه واضحة .
ووقع في « الموطأ » : أن القاسم بن محمد كان يقول في قوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها : « إنك عليَّ لكريمة وإني فيك لراغب » .
فأما إنك عليَّ لكريمة فقريب من صريح إرادة التزوج بها وما هو بصريح ، فإذا لم تعقبه مواعدة من أحدهما فأمره محتمل ، وأما قوله إني فيك لراغب فهو بمنزلة صريح الخطبة وأمره مشكل ، وقد أشار ابن الحاجب إلى إشكاله بقوله : « قالوا ومثل إني فيك لراغب أكثر هذه الكلمات تصريحاً فينبغي ترك مثله » ويذكر عن محمد الباقر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض لأم سلمة في عدتها من وفاة أبي سلمة ، ولا أحسب ما روي عنه صحيحاً .
وفي « تفسير ابن عرفة » : « قيل إن شيخنا محمد بن أحمد بن حيدرة كان يقول : « إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط وأما إذا وقع التعريض منهما فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة » .
ولفظ النساء عام لكن خص منه ذوات الأزواج ، بدليل العقل ويخص منه المطلقات الرجعيات بدليل القياس ودليل الإجماع ، لأن الرجعية لها حكم الزوجة بإلغاء الفارق ، وحكى القرطبي الإجماع على منع خطبة المطلقة الرجعية في عدتها ، وحكى ابن عبد السلام عن مذهب مالك جواز التعريض لكل معتدة : من وفاة أو طلاق ، وهو يخالف كلام القرطبي ، والمسألة محتملة لأن للطلاق الرجعي شائبتين ، وأجاز الشافعي التعريض في المعتدة بعد وفاة ومنعه في عدة الطلاق ، وهو ظاهر ما حكاه في « الموطأ » عن القاسم بن محمد .
وقوله : { أو أكننتم في أنفسكم } الإكنان الإخفاء . وفائدة عطف الإكنان على التعريض في نفي الجناح ، مع ظهور أن التعريض لا يكون إلاّ عن عزم في النفس ، فنفي الجناح عن عزم النفس المجرد ضروري من نفي الجناح عن التعريض ، أنَّ المراد التنبيه على أن العزم أمر لا يمكن دفعه ولا النهي عنه ، فلما كان كذلك ، وكان تكلم العازم بما عزم عليه جبلة في البشر ، لضعف الصبر على الكتمان ، بين الله موضع الرخصة أنه الرحمة بالناس ، مع الإبقاء على احترام حالة العدة ، مع بيان علة هذا الترخيص ، وأنه يرجع إلى نفي الحرج ، ففيه حكمة هذا التشريع الذي لم يبين لهم من قبل .
وأخر الإكنان في الذكر للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة ، مع التنبيه على أنه نادر وقوعه ، لأنه لو قدمه لكان الانتقال من ذكر الإكنان إلى ذكر التعريض جارياً على مقتضى ظاهر نظم الكلام في أن يكون اللاَّحق زائد المعنى على ما يشمله الكلام السابق ، فلم يتفطن السامع لهذه النكتة ، فلما خولف مقتضى الظاهر علم السامع أن هذه المخالفة ترمي إلى غرض ، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر ، وقد زاد ذلك إيضاحاً بقوله عقبه : { علم الله أنكم ستذكرونهن } أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم ، فأباح لكم التعريض تيسيراً عليكم ، فحصل بتأخير ذكر { أو أكننتم } فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله : { علم الله أنكم ستذكرونهن } وجاء النظم بديعاً معجزاً ، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف ، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر{[186]} ووجهه ابن عرفة بما هو أقرب من توجيه الفخر ، ولكنه لا تطمئن له نفس البليغ{[187]} .
فقوله : { ولكن لا تواعدوهن سراً } استدراك دل عليه الكلام ، أي علم الله أنكم ستذكرونهن صراحة وتعريضاً ؛ إذ لا يخلو ذو عزم من ذكر ما عزم عليه بأحد الطريقين ، ولما كان ذكر العلم في مثل هذا الموضع كناية عن الإذن كما تقول : علمت أنك تفعل كذا تريد : إني لا أؤاخذك لأنك لو كنت تؤاخذه ، وقد علمت فعله ، لآخذته كما قال : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم } [ البقرة : 187 ] هذا أظهر ما فسر به هذا الاستدراك وقيل : هذا استدراك على كلام محذوف أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن ، أي لا تصرحوا وتواعدوهن ، أي تعدوهن ويعدنكم بالتزوج .
والسر أصله ما قابل الجهر ، وكنى به عن قربان المرأة قال الأعشى :
ولا تقربنَّ جارة إنَّ سِرَّها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدوا
ألا زعمتْ بسباسَةُ الحي أنني *** كبرْتُ وأن لا يحسن السر أمثالي
والظاهر أن المراد به في هاته الآية حقيقته ، فيكون { سراً } منصوباً على الوصف لمفعول مطلق أي وعداً صريحاً سراً ، أي لا تكتموا المواعدة ، وهذا مبالغة في تجنب مواعدة صريح الخطبة في العدة .
وقوله : { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } استثناء من المفعول المطلق أي إلا وعداً معروفاً ، وهو التعريض الذي سبق في قوله : { فيما عرضتم به } فإن القول المعروف من أنواع الوعد إلا أنه غير صريح ، وإذا كان النهي عن المواعدة سراً ، علم النهي عن المواعدة جهراً بالأولى ، والاستثناء على هذا في قوله : { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } متصل ، والقول المعروف هو المأذون فيه ، وهو التعريض ، فهو تأكيد لقوله : { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به } الآية .
وقيل : المراد بالسر هنا كناية ، أي لا تواعدوهن قرباناً ، وكنى به عن النكاح أي الوعد الصريح بالنكاح ، فيكون { سراً } مفعولاً به لتواعدوهن ، ويكون الاستثناء منقطعاً ، لأن القول ليس من أنواع النكاح ، إذ النكاح عقد بإيجاب وقبول ، والقول خطبة : صراحة أو تعريضاً وهذا بعيد : لأن فيه كناية على كناية ، وقيل غير ذلك مما لا ينبغي التعريج عليه ، فإن قلتم حظر : صريح الخطبة والمواعدة ، وإباحة التعريض بذلك يلوح بصور التعارض ، فإن مآل التصريح والتعريض واحد ، فإذا كان قد حصل بين الخاطب والمعتدة العلم بأنه يخطبها وبأنها توافقه ، فما فائدة تعلق التحريم والتحليل بالألفاظ والأساليب ، إن كان المفاد واحداً قلت : قصد الشارع من هذا حماية أن يكون التعجل ذريعة إلى الوقوع فيما يعطل حكمة العدة ، إذ لعل الخوض في ذلك يتخطى إلى باعث تعجل الراغب إلى عقد النكاح على المعتدة بالبناء بها ؛ فإن دبيب الرغبة يوقع في الشهوة ، والمكاشفة تزيل ساتر الحياء فإن من الوازع الطبيعي الحياء الموجود في الرجل ، حينما يقصد مكاشفة المرأة بشيء من رغبته فيها ، والحياء في المرأة أشد حينما يواجهها بذلك الرجل ، وحينما تقصد إجابته لما يطلب منها ، فالتعريض أسلوب من أساليب الكلام يؤذن بما لصاحبه من وقار الحياء فهو يقبض عن التدرج إلى ما نهي عنه ، وإيذانه بهذا الاستحياء يزيد ما طبعت عليه المرأة من الحياء فتنقبض نفسها عن صريح الإجابة ، بله المواعدة فيبقى حجاب الحياء مسدولاً بينهما وبرقع المروءة غير منضى وذلك من توفير شأن العدة فلذلك رخص في التعريض تيسيراً على الناس ، ومنع التصريح إبقاء على حرمات العدة .
وقوله : { ولا تعزموا عقدة النكاح } العزم هنا عقد النكاح لا التصميم على العقد ، ولهذا فعقدة النكاح منصوب على المفعول به ، والمعنى : لا تعقدوا عقدة النكاح ، أخذ من العزم بمعنى القطع والبت ، قاله النحاس وغيره ، ولك أن تجعله بمعناه المشهور أي لا تصمموا على عقدة النكاح ، ونهي عن التصميم لأنه إذا وقع وقع ما صمم عليه . وقيل : نهى عن العزم مبالغة ، والمراد النهي عن المعزوم عليه ، مثل النهي من الاقتراب في قوله : { تلك حدود الله فلا تقربوها } [ البقرة : 187 ] وعلى هذين الوجهين فعقدة النكاح منصوب على نزع الخافض ، كقولهم ضربة الظهر والبطن ، وقيل ضمن عزم معنى أبرم قاله صاحب « المغني » في الباب الثامن .
والكتاب هنا بمعنى المكتوب أي المفروض من الله وهو العدة المذكورة بالتعريف للعهد .
والأجل المدة المعينة لعمل ما ، والمراد به هنا مدة العدة المعينة بتمام ، كما أشار إليه قوله : { فإذا بلغن أجلهن } [ البقرة : 234 ] آنفاً .
والآية صريحة في النهي عن النكاح في العدة وفي تحريم الخطبة في العدة وفي إباحة التعريض .
فأما النكاح أي عقده في العدة ، فهو إذا وقع ولم يقع بناء بها في العدة فالنكاح مفسوخ اتفاقاً ، وإنما اختلفوا هل يتأبد به تحريم المرأة على العاقد أو لا ؟ فالجمهور على أنه لا يتأبد ، وهو قول عمر بن الخطاب ، ورواية ابن القاسم عن مالك في « المدونة » ، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أنه يتأبد ، ولا يعرف مثله عن غير مالك .
وأما الدخول في العدة ففيه الفسخ اتفاقاً ، واختلف في تأبيد تحريمها عليه فقال عمر بن الخطاب ومالك والليث والأوزاعي وأحمد بن حنبل بتأبد تحريمها عليه ، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم بنوه على أصل المعاملة بنقيض المقصود الفاسد ، وهو أصل ضعيف ، وقال علي وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري والشافعي : بفسخ النكاح ولا يتأبد التحريم ، وهو بعد العدة خاطب من الخطاب ، وقد قيل : إن عمر رجع إليه وهو الأصح ، وعلى الزوج مهرها بما استحل منها ، وقد تزوج رويشد الثقفي طليحة الأسدية في عدتها ففرق عمر بينهما وجعل مهرها على بيت المال ، فبلغ ذلك علياً فقال : « يرحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال ، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما للسنة » قيل له : « فما تقول أنت » ؟ قال : « لها الصداق بما استحل منها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما » واستحسن المتأخرون من فقهاء المالكية للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الناكح في العدة ألا يتعرض في حكمه للحكم بتأبيد تحريمها ، لأنه لم يقع التنازع في شأنه لديه ، فينبغي له أن يترك التعريج عليه ، لعلهما أن يأخذا بقول من لا يرون تأبيد التحريم .
وأما الخطبة في العدة والمواعدة فحرام مواجهة المرأة بها ، وكذلك مواجهة الأب في ابنته البكر ، وأما مواجهة ولي غير مجبر فالكراهة ، فإذا لم يقع البناء في العدة بل بعدها ، فقال مالك : يفرق بينهما بطلقة ولا يتأبد تحريمها ، وروى عنه ابن وهب : فراقها أحب إليَّ ، وقال الشافعي : الخطبة حرام ، والنكاح الواقع بعد العدة صحيح .
{ واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فى أَنفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ }
عطف على الكلام السابق في قوله : { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } إلى قوله : { حتى يبلغ الكتاب أجله } وابتدىء الخطاب باعلموا لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول ، في هذا الشأن ، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة ، وقدم تقدم نظيره في قوله : { واعلموا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] .
وقوله : { واعلموا أن الله غفور حليم } تذييل ، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض لأنه حليم بكم ، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة كما قدمنا ، وأن الذريعة تقتضي تحريمه ، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس للوجوه التي قدمناها ، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز لا مغفرة الذنب ؛ لأن التعريض ليس بإثم ، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب والتجاوز عن المشاق ، وشأن التذييل التعميم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء}: يعني لا حرج على الرجل أن يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها: إنك لتعجبينني، وما أجاوزك إلى غيرك، فهذا التعريض.
{أو أكننتم في أنفسكم}: فلا جناح عليكم أن تسروا في قلوبكم تزويجهن في العدة. {علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا}: يعني الجماع في العدة. ثم استثنى، فقال: {إلا أن تقولوا قولا معروفا}: عدة حسنة، فتقول: وهي في العدة، إنه حبيب إلى أن أكرمك وأن آتى ما أحببت ولا أجاوزك إلى غيرك.
{ولا تعزموا عقدة النكاح}: ولا تحققوا عقدة النكاح، يعني لا تواعدوهن في العدة. {حتى يبلغ الكتاب أجله}: حتى تنقضي عدتها.
ثم خوفهم، فقال سبحانه: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم}: ما في قلوبكم من أمورهن. {فاحذروه}: فاحذروا أن ترتكبوا في العدة ما لا يحل.
{واعلموا أن الله غفور}: ذا تجاوز لكم. {حليم}: لا يعجل بالعقوبة...
كتاب الله يدل على أن التعريض في العدة جائز لما وقع عليه اسم التعريض، إلا ما نهى الله عز وجل عنه من السِّرِّ. والتعريض كثير واسع جائز كله، وهو خلاف التصريح، وهو ما يعرض به الرجل للمرأة مما يدلها على أنه أراد به خطبتها بغير تصريح. والسِّرُّ الذي نهى الله عنه ـ والله أعلم ـ يجمع بين أمرين: أنه تصريح: والتصريح خلاف التعريض، وتصريح بجماع وهذا كأقبح التصريح.
فإن قال قائل: ما دلَّ على أن السِّرَّ الجماعُ؟ قيل: فالقرآن كالدليل عليه إذ أباح التعريض، والتعريض عند أهل العلم جائز سرا وعلانية، فإذا كان هذا فلا يجوز أن يتوهم أن السر سر التعريض، ولا بد من معنى غيره، وذلك المعنى الجماع... 74-... قال الله عز وجل: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اِلنِّسَاء أَوَ اَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} الآية. قال الشافعي: وبلوغ الكتاب أجله ـ والله تعالى أعلم ـ انقضاء العدة... وإذ أذن الله عز وجل في التعريض بالخطبة في العدة، فبين أنه حظر التصريح فيها، وخالف بين حكم التعريض والتصريح، وبذلك قلنا: لا نجعل التعريض أبدا يقوم مقام التصريح في شيء من الحكم إلا أن يريد المعرِّضُ التصريح، وجعلناه فيما يشبه الطلاق من النية وغيره. فقلنا: لا يكون طلاقا إلا بإرادته. وقلنا: لا نَحُدُّ أحدا في تعريض إلا بإرادة التصريح بالقذف...
قول الله تبارك وتعالى: {وَلَكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} يعني ـ والله تعالى أعلم ـ جماعا {اِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا}: قولا حسنا لا فحش فيه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: ولا جناح عليكم أيها الرجال فيما عرّضتم به من خطبة النساء،للنساء المعتدات من وفاة أزواجهن في عددهن، ولم تصرّحوا بعقد نكاح. والتعريض الذي أبيح في ذلك، هو ما [روي] عن ابن عباس قال: التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني لأحبّ امرأة من أمرها أمرها، يعرّض لها بالقول بالمعروف.
...ولوددت أني وجدت امرأة صالحة، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها... وتقول هي: قد أسمع ما تقول. ولا تعده شيئا، ولا تقول: لعل ذاك...
واختلف أهل العربية في معنى الخطبة؛ فقال بعضهم: الخطبة: الذكر، والخطبة: التشهد. وكأن قائل هذا القول تأول الكلام: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهم، وقد زعم صاحب هذا القول أنه قال: «لا تواعدوهنّ سرّا»، لأنه لما قال: «لا جناح عليكم»، كأنه قال: اذكروهن، ولكن لا تواعدوهنّ سرّا.
وقال آخرون منهم: الخِطْبَةُ أخطِب خِطْبَة وخَطْبا، قال: وقول الله تعالى ذكره:"قالَ فَمَا خَطْبُكَ يا سامِرِيّ" يقال إنه من هذا. قال: وأما الخُطبة، فهو المخطوب من قولهم: خطب على المنبر واختطب.
والخطبة عندي هي «الفِعْلة» من قول القائل: خطبت فلانة، كالجلسة من قوله: جلس، أو القعدة من قوله: قعد.
ومعنى قولهم: خطب فلان فلانة سألها خَطْبَهُ إليها في نفسها، وذلك حاجته، من قولهم: ما خطبك؟ بمعنى: ما حاجتك وما أمرك؟.
وأما التعريض فهو ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع الفَهِمُ ما يفهم بصريحه.
"أوْ أكْنَنْتُمْ فِي أنْفُسِكُمْ": أو أخفيتم في أنفسكم، فأسررتموه من خطبتهن وعزم نكاحهن وهن في عددهن، فلا جناح عليكم أيضا في ذلك إذا لم تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله. يقال منه: أكنّ فلان هذا الأمر في نفسه: إذا ستره، وإنما يقال: كننته في البيت أو في الأرض: إذا خبأته فيه.
عن مجاهد: "أوْ أكْنَنْتُمْ فِي أنْفُسِكُمْ "قال: الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه لا يبديه لها، هذا كله حِلٌ معروف.
وفي إباحة الله تعالى ذكره ما أباح من التعريض بنكاح المعتدة لها في حال عدتها وحظره التصريح، ما أبان عن افتراق حكم التعريض في كل معاني الكلام وحكم التصريح منه.
وإذا كان ذلك كذلك تبين أن التعريض بالقذف غير التصريح به، وأن الحدّ بالتعريض بالقذف لو كان واجبا وجوبه بالتصريح به، لوجب من الجناح بالتعريض بالخطبة في العدة نظير الذي يجب بعزم عقدة النكاح فيها، وفي تفريق الله تعالى ذكره بين حكميها في ذلك الدلالة الواضحة على افتراق أحكام ذلك في القذف.
"عَلِم اللّهُ أنّكُمْ سَتَذْكُرُوَنَهُنّ": علم الله أنكم ستذكرون المعتدات في عددهن بالخطبة في أنفسكم وبألسنتكم... عن الحسن: "عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ سَتَذْكُرُوَنهُنّ": قال: الخطبة.
"وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا":
اختلف أهل التأويل في معنى السرّ الذي نهى الله تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به، فقال بعضهم: هو الزنا... عن ابن عباس: "لا تُواعِدُوهُنّ سِرّا" قال: فذلك السرّ: الزّنية، كان الرجل يدخل من أجل الزنية وهو يعرّض بالنكاح، فنهى الله عن ذلك، إلا من قال معروفا... عن الربيع قوله: "وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا": للفحش، والخَضْع من القول.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تأخذوا ميثاقهنّ وعهودهنّ في عِددهن أن لا ينكحن غيركم... عن ابن عباس: "لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا" يقول: لا تقل لها إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوّجي غيري، ونحو هذا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يقول لها الرجل: لا تسبقيني بنفسك، فإني ناكحك. هذا لا يحلّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تنكحوهنّ في عدتهنّ سرّا، ثم تمسكها حتى إذا حلت أظهرتَ ذلك وأدخلتها.
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، تأويل من قال: السرّ في هذا الموضع: الزنا؛ وذلك أن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة سرّا، لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه، فيسمى لخفائه سرّا.
وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه سرّ، ويقال: هو في سرّ قومه، يعني في خيارهم وشرفهم. فلما كان السرّ إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معنّي به قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا} وهو السرّ الذي هو معنى الخيار والشرف، فلم يبق إلا الوجهان الاَخران وهو السرّ الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعدين المتواعدين، والسرّ الذي بمعنى الغشيان والجماع. فلما لم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معنّي به صحّ أن الاَخر هو المعنيّ به.
فإن قال قائل: فما الدلالة على أن مواعدة القول سرّا غير معنّي به على ما قال من قال: إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق المرأة أن لا تنكح غيره، أو على ما قال من قال: قول الرجل لها: لا تسبقيني بنفسك؟ قيل: لأن السرّ إذا كان بالمعنى الذي تأوّله قائلو ذلك، فلن يخلو ذلك السرّ من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره، أو يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه بعد انقضاء عدتها وبعد عقده له دون الناس غيره. فإن كان السرّ الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات هو أخذ العهد عليهن أن لا ينكحن غيره، فقد بطل أن يكون السرّ معناه ما أخفى من الأمور في النفوس، أو نطق به فلم يطلع عليه، وصارت العلانية من الأمر سرّا، وذلك خلاف المعقول في لغة من نزل القرآن بلسانه، إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إنما نهى الله الرجال عن مواعدتهنّ ذلك سرّا بينهم وبينهن، لا أن نفس الكلام بذلك وإن كان قد أعلن سر. فيقال له: إن قال ذلك فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والخطبة صريحا علانية، إذ كان المنهيّ عنه من المواعدة إنما هو ما كان منها سرّا. فإن قال إن ذلك كذلك خرج من قول جميع الأمة على أن ذلك ليس من قيل أحد ممن تأوّل الآية أن السرّ ها هنا بمعنى المعاهدة أن لا تنكح غير المعاهد. وإن قال: ذلك غير جائز. قيل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل إلى المرأة بالمواعدة، لأن معنى ذلك لو كان كذلك لم يحرم عليه مواعدتها مجاهرة وعلانية، وفي كون ذلك عليه محرّما سرّا وعلانية ما أبان أن معنى السرّ في هذا الموضع غير معنى إسرار الرجل إلى المرأة بالمعاهدة، أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها أو يكون إذا بطل هذا الوجه معنى ذلك: الخطبة والنكاح الذي وعدت المرأة الرجل أن لا تعدوه إلى غيره، فذلك إذا كان، فإنما يكون بوليّ وشهود علانية غير سرّ، وكيف يجوز أن يسمى سرّا وهو علانية لا يجوز إسراره؟ وفي بطول هذه الأوجه أن تكون تأويلاً لقوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا بما عليه دللنا من الأدلة وضوح صحة تأويل ذلك أنه بمعنى الغشيان والجماع. وإذا كان ذلك صحيحا، فتأويل الآية: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما عرضتم به للمعتدات من وفاة أزواجهن من خطبة النساء وذلك حاجتكم إليهن، فلم تسرحوا لهن بالنكاح والحاجة إليهن إذا أكننتم في أنفسكم، فأسررتم حاجتكم إليهن وخطبتكن إياهن في أنفسكم ما دمن في عددهن، علم الله أنكم ستذكرون خطبتهن وهن في عددهن. فأباح لكم التعريض بذلك لهنّ، وأسقط الحرج عما أضمرته نفوسكم حلما منه، ولكن حرم عليكم أن تواعدوهنّ جماعا في عددهن، بأن يقول أحدكم لإحداهنّ في عدتها: قد تزوّجتك في نفسي، وإنما أنتظر انقضاء عدتك، فيسألها بذلك القول إمكانه من نفسها الجماع والمباضعة، فحرّم الله تعالى ذكره ذلك.
"إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفا": فاستثنى القول المعروف مما نهى عنه، من مواعدة الرجل المرأة السرّ، وهو من غير جنسه ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل أنه يأتي بمعنى خلاف الذي قبله في الصفة خاصة، وتكون «إلا» فيه بمعنى «لكن»، فقوله: "إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفا" منه، ومعناه: ولكن قولوا قولاً معروفا. فأباح الله تعالى ذكره أن يقول لها المعروف من القول في عدّتها، وذلك هو ما أذن له بقوله: "وَلاَ جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ". "وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكاح حتى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ": ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة، فتوجبوها بينكم وبينهن، وتعقدوها قبل انقضاء العدة "حَتّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ": يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى ذكره بقوله: "وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا"؛ فجعل بلوغ الأجل للكتاب. والمعنى: للمتناكحين أن لا ينكح الرجل المرأة المعتدة فيعزم عقدة النكاح عليها حتى تنقضي عدتها، فيبلغ الأجل الذي أجله الله في كتابه لانقضائها. "وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أنْفُسِكُمْ فاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ": واعلموا أيها الناس أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم. فاحْذَرُوهُ يقول: فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه من عزم عقدة نكاحهنّ أو مواعدتهنّ السرّ في عددهن، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هنّ معتدات، وفي غير ذلك. "وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ غَفُورٌ": يعني أنه ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها فيما تكنّه نفوس الرجال من خطبة المعتدات وذكرهم إياهن في حال عددهن، وفي غير ذلك من خطاياهم. "حَلِيمٌ": ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خبطة النساء أو أكننتم في أنفسكم}؛ قيل: التعريض هو أن يري من نفسه الرغبة في ما يكني به من الكلام على ما ذكر في الخبر: أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (إذا انقضت عدتك فآذنيني فاستأذنته في رجلين كانا خطباها، فقال لها: أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقك، وأما فلان فصعلوك، لا شيء له، فعليك بأسامة بن زيد) [بنحوه: ابن ماجه 1869]، فكان قوله [عليه السلام]: (فآذنيني) كناية خطاب إلى [أن أشار عليها بأسامة...
وفي الآية دلالة أن لا بأس للمتوفى عنها زوجها الخروج بالنهار،] وعلى ذلك جاءت الآثار؛ وري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن لهن بالخروج بالنهار والنهي عن البيتوتة في غير منزلهن، ولأن المتوفى عنها زوجها مؤنتها على نفسها، فلا بد لها من الخروج. وأما المطلقة فإن مؤنتها على زوجها، والزوج هو الذي يكفي مؤنتها، ويزيح علتها، لذلك افترقا، والله أعلم...
ثم التعريض لا يجوز في المطلقة لوجهين:
أحدهما: ما ذكرنا: ألا يباح لها الخروج من منزلها ليلا ونهارا، والمتوفى عنها زوجها يباح لها الخروج، وإنما ذكر الله، سبحانه، التعريض في المتوفى عنها زوجها، لم يذكرها في المطلقة.
والثاني: أن في تعريض المطلقة اكتساب عداوة وبغض في ما بينها وبين زوجها، عند العدة... دليله أنه إذا لم يدخل بها لم تلزمها العدة، وأما المتوفى عنها زوجها فقد لزمتها العدة، وإن لم يدخل بها، لذلك يجوز التعريض في المتوفى عنها زوجها... قال الشيخ، رحمه الله، ولأن زوجها في الطلاق متى يعلم ما حدث ينشب بينهما الضغن والمكروه في الحال، وليس ذلك في الوفاة...
{إلا أن تقولوا قولا معروفا}: يقول لها قولا لينا حسنا، ولا يقول لها قولا يحملها على الزنى، أو على ما يظهر من نفسها الرغبة فيه على ما ذكر في الآية: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب: 32]، وأن يعيد لها عدة حسنة، أو أن يبرها ويحسن إليها لترغيب فيه، ولا يقول لها ما لا يحل، ولا جوز، والله أعلم...
قوله: {ولا تعزموا عقدة النكاح} حمل على التحريم، وإن احتمل، وهو بهذا المخرج غير التحريم، لاتفاق الأمة على صرف المراد إليه، ولقوله: {حتى يبلغ الكتاب أجله} أي ما كتب عليها من التربص، ولما كان النهي عن ذلك بما لزمها العدة للزواج الأول، فهي باقية بها على ما سبق من النكاح المحرم لها على غيره؛ فلذلك بقيت الحرمة؛ ولهذا جاز لمن له العدة للزوج الأول، فهي باقية بها، إذ لا يجوز أن يمنع حقه، والله أعلم...
{واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}؛ وهو حرف وعيد؛ أي يعلم ما تضمرون في القلوب، وتظهرون باللسان من التعريض {فاحذروه} ولا تخالفوا أمره ونهيه.
{واعلموا أن الله غفور رحيم} فيه إطماع المغفرة وإمهال العقوبة من ارتكاب النهي، وخالف أمره، والله أعلم.
{واعلموا} حذرهم علمه بما في أنفسهم ليكونوا مراقبين له في ما أسروا، وليعلموا أنهم مؤاخذون بما أضمروا من المعاصي والخلاف له، وأن الذي لا يؤاخذ به العبد هو الخطر بالبال لا بالعزم عليه والاعتقاد.
ثم أخبر أنه {غفور} ليعلموا أن استتار ذلك مما غفره، وأنهم استوجبوا بفعلهم الخزي. لكن الله بفضله يستره عليهم ليشكروا عظيم نعمه، أو لئلا ييأسوا من رحمته، فيستغفروه. وذكر {حليم} لئلا يغتروا بما لم يؤاخذوا بجزاء ما أضمروا في ذلك الوقت، فيظنون الغفلة عنهم كقوله عز وجلا: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} [إبراهيم: 42]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أبيح من ذلك ما كان فيه استجلاب للمودة، وتأسيس لحال الوصلة. وحُرِّمَ منه ما فيه ارتكاب المحظورات من إلمام بذنب أو عِدةٌ بِجُرمٍ.
التعريض في اللغة ضد التصريح، ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما حد سبحانه وتعالى هذه المدة لمنعهن عن الرجال بين أن التعريض بالخطبة ليس داخلاً في المنع فقال: {ولا جناح عليكم} أي إثم بميل {فيما عرضتم به} أي قلتموه وأنتم تقصدون ما هو بعيد عنه كأنه في جانب وهو في جانب آخر لا يتأدى إليه إلا بدورة [كقوله لها] أنا عازم على أن أتزوج، وعسى أن ييسر الله لي قرينة صالحة.قال الحرالي: من التعريض وهو تفعيل من العرض والعرض وهو إلقاء القول عرضاً أي ناحية على غير قصد إليه وصمد نحوه -...
والفرق بينه وبين الكناية أنه كلام ظاهر في معنى يقصد به غير معناه الظاهر فلا يفهم المراد إلا بالقرائن، كقول المحتاج: جئت لأسلم عليك وأنظر وجهك الكريم، ويسمى التلويح أيضاً، والكناية ذكر اللازم وإرادة الملزوم، وقد أفهم نوط الحل بالتعريض تحريم التصريح المقابل له وللكناية، والصريح اسم لما هو ظاهر المراد عند السامع بحيث يسبق إلى فهمه المراد ولا يسبق غيره عند الإطلاق.
{من خطبة} وهي الخطاب في قصد التزوج. وقال الحرالي: هي هيئة الحال فيما بين الخاطب والمخطوبة التي النطق عنها هو الخطبة بالضم {النساء} المتوفى عنهن أزواجهن ومن أشبههن في طلاق بائن بالثلاث أو غيرها.
ولما أحل له التعريض وكان قد يعزم على التصريح إذا حل له ذلك نفى عنه الحرج فيه بقوله {أو أكننتم} أي أضمرتم {في أنفسكم} من تصريح وغيره سواء [أكان] من شهوات النفس [أم] لا. قال الحرالي: من الكن -بالفتح- وهو الذي من معناه الكن -بالكسر- وهو ما وارى بحيث لا يوصل به إلى شيء.
ولما كان لله سبحانه وتعالى بهذه الأمة عناية عظيمة في التخفيف عنها أعلمها بذلك بقوله على سبيل التعليل: {علم الله} أي بما له من صفات الكمال {أنكم ستذكرونهن} أي في العدة فأذن لكم في ذلك على ما حد لكم...
ولما كان التقدير: فاذكروهن، استثنى منه قوله: {ولكن لا تواعدوهن} أي في ذكركم إياهن {سراً} ولما كان السر يطلق على ما أسر بالفعل وما هو أهل أن يسر به وإن جهر بين أن المراد الثاني وهو السر بالقوة فقال: {إلا أن تقولوا} أي في الذكر لهن {قولاً معروفاً} لا يستحيي منه عند أحد من الناس، فآل الأمر إلى أن المعنى لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيي من ذكره فيسر وهو التعريض؛ فنصت هذه الآية على تحريم التصريح بعد إفهام الآية الأولى لذلك اهتماماً به لما للنفس من الداعية إليه.
ولما كانت عدة الوفاة طويلة فكان حبس النفس فيها عن النكاح شديداً وكانت إباحة التعريض قريبة من الرتع حول الحمى وكان من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه خصها باتباعها النهي عن العقد قبل الانقضاء حملاً على التحري ومنعاً من التجري فقال: {ولا تعزموا} أي تبتّوا أي تفعلوا فعلاً بتاً مقطوعاً به غير متردد فيه {عقدة النكاح} أي النكاح الذي يصير معقوداً للمعتدة عدة هي فيها بائن فضمن العزم البتة ولذلك أسقط "على "وأوقعه على العقدة التي هي من آثاره ولا تتحقق بدونه فكأنه قال: ولا تعزموا على النكاح باقين عقدته، وهو أبلغ مما لو قيل: ولا تعقدوا النكاح، فإن النهي عن العزم الذي هو سبب العقد نهي عن العقد بطريق الأولى.
قال الحرالي: والعقدة توثيق جمع الطرفين المفترقين بحيث يشق حلها وهو معنى دون الكتب الذي هو وصلة وخرز {حتى يبلغ الكتاب} أي الذي تقدم فيما أنزلت عليكم منه بيان عدة من زالت عصمتها من رجل بوفاة أو طلاق، أو ما كتب وفرض من العدة {أجله} أي أخر مدته التي ضربها للعدة.
ولما أباح سبحانه وتعالى التعريض وحظر عزم العقدة وغلظ الأمر بتعليقه بالكتاب و بقي بين الطرفين أمور كانت الشهوة في مثلها غالبة والهوى مميلاً غلظ سبحانه وتعالى الزواجر لتقاوم تلك الدواعي فتولى تلك الأمور تهديد قوله تعالى: {واعلموا} أي أيها الراغبون في شيء من ذلك {أن الله} وله جميع الكمال {يعلم ما في أنفسكم} كله {فاحذروه} و لا تعزموا على شر فإنه يلزم من إحاطة العلم إحاطة القدرة.
ولما هددهم بعلمه وكان ذلك النهاية في التهديد وكان كل أحد يعلم من نفسه في النقائص ما يجل عن الوصف أخبرهم بما أوجب الإمهال على ذلك من منه بغفرانه وحلمه حثاً على التوبة وإقامة بين الرجاء والهيبة فقال: {واعلموا أن الله} أي كما اقتضى جلاله العقوبة اقتضى جماله العفو فهو لذلك {غفور} أي ستور لذنوب الخطائين إن تابوا {حليم *} لا يعاجل أحد العقوبة فبادروا بالتوبة رجاء غفرانه ولا تغتروا بإمهاله فإن غضب الحليم لكونه بعد طول الأناة لا يطاق، ويجوز أن يكون التقدير: ولا تصرحوا للنساء المعتدات بعقدة النكاح في عدة من العدد.
والسر في تفاوتها أن عدة الوفاة طولت مراعاة للورثة إلى حد هو أقصى دال على براءة الرحم، لأن الماء يكون فيه أربعين يوماً نطفة ومثلها علقة ومثلها مضغة ثم ينفخ فيه الروح فتلك أربعة أشهر، وقد تنقص الأشهر أربعة أيام فزيدت عليها وجبرت بما أتم أقرب العقود إليها؛ وفي صحيح مسلم رضي الله تعالى عنه تقدير المدة الأولى "باثنين وأربعين يوماً" وفي رواية: "خمس وأربعين" وفي رواية: "بضع وأربعين" فإذا حمل البضع على ست وزيد ما قد تنقصه الأشهر صارت أربعة أشهر وعشراً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما كان من شأن الراغبين في التزوج بمن يتوفى زوجها المسارعة إلى خطبتها بين الله للمؤمنين ما يتعلق بذلك من الأحكام والآداب اللائقة بهم وبكرامة النساء في مدة العدة فقال: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم}... فالمراد بالنساء المعتدات لوفاة أزواجهن، قالوا ومثلهن المطلقات طلاقا بائنا، وأما الرجعيات فلا يجوز التعريض لهن لأنهن لم يخرجن عن عصمة بعولتهن بالمرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا شأن المرأة.. ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة؛ فيوجههم توجيها قائما على أدب النفس، وأدب الاجتماع، ورعاية المشاعر والعواطف، مع رعاية الحاجات والمصالح: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم}.. إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت، وبمشاعر أسرة الميت، ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين، أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه.. وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة. لأن هذا الحديث لم يحن موعده، ولأنه يجرح مشاعر، ويخدش ذكريات. ومع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض -لا التصريح- بخطبة النساء. أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها. وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن التعريض مثل أن يقول: إني أريد التزويج. وإن النساء لمن حاجتي. ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة".. كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحا ولا تلميحا. لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها: {علم الله أنكم ستذكرونهن}.. وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري، حلال في أصله، مباح في ذاته، والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه. والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها. ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور، وطهارة الضمير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على الجملة التي قبلها، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق وعدة الوفاة، وأن أمد العدة محترم، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها، حرصاً على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه.
وقوله: {ما عرضتم به} ما موصولة، وما صدقها كلام، أي كلام عرضتم به، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام، وقد بينه بقوله: {من خطبة النساء} فدل على أن المراد كلام. ومادة فعَّل فيه دالة على الجعل مثل صوَّر... فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب. ونظير هذا قولهم جَنَبَه، أي جعله في جانب. فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئاً، غير المدلول عليه بالتركيب وضعاً، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي، فعلم ألابد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، وتلك المناسبة: إما ملازمة أو مماثلة، وذلك كما يقول العافى لرجل كريم: جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك، وقد عبر عن إرادتهم مثل هذا أمية بن أبي الصلت في قوله: إذَا أَثَنى عليكَ المرءُ يوماً *** كفاهُ عن تَعَرُّضه الثَّنَاء... وقوله: {واعلموا أن الله غفور حليم} تذييل، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض لأنه حليم بكم، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة كما قدمنا، وأن الذريعة تقتضي تحريمه، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس للوجوه التي قدمناها، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز لا مغفرة الذنب؛ لأن التعريض ليس بإثم، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب والتجاوز عن المشاق، وشأن التذييل التعميم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{و لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} الخطبة من الخطاب، وهي مخاطبة المرأة أو ذويها في أمر زواجها،
والتعريض... [إنما] يبدو من لحن القول وإشارته والمقام ما يريده...كأنه يحوم به حول الشيء وعلى جوانبه ولا يظهر مراده.
والنساء المراد بهن في الآية هن المتوفى عنهن أزواجهن في أثناء العدة.
والإكنان في النفس أن يخفي إرادة الزواج والرغبة فيه مع الإصرار عليه، واعتزامه من غير إعلانه لأحد.
و معنى الجملة الكريمة: أنه لا إثم في التعريض بخطبة المتوفى عنهن أزواجهن، كما أنه لا إثم في الرغبة في الزواج منهن مع إكنان ذلك وستره من غير كشف وإعلان؛ لأن الكشف والإعلان قد يؤذي الميت، وهو فوق ذلك لا يليق بأهل المروءة من الرجال...
و التصريح بالخطوبة لا يجوز، حتى لا يؤذي أهل الميت، وحتى لا يدفعها إلى الامتناع عن الحداد على زواجها، فوق أن ذلك نقص في الخلق. وفساد في الذوق لا يصدر عن ذي إحساس كريم، فالتعريض فقط هو المباح في الخطبة في حال عدة الوفاة، وأساليب التعريض متباينة يبينها المقام...
{علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا} في هذه الجملة الكريمة يشير سبحانه وتعالى إلى طبائع النفس البشرية فيمنعها من الانسياق فيما يردي ويفسد، ويبيح لها ما لا ضرر فيه، وقد يكون فيه ما تطيب به نفوس، وتطمئن إليه قلوب...
و إن الذي نميل إليه أن {سرا} وصف لمحذوف أي لا تواعدوهن وعدا سريا بأي شكل من الأشكال، وفي أي موضوع من الموضوعات، لأن الإسرار يدفع إلى الخلوة فتكون الحال في مكان النهي حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما" والمعنى على هذا: لا تندفعوا وراء رغباتكم فتلتقوا بهن سرا وتقولوا معهن ما تستحيون من قوله جهرا، إما لأنه قبيح لا يعلن، وإما لأنه في غير وقته فيستنكر القول فيه فور الوفاة، وذلك فوق قبح الخلوة في ذاتها...
{واعلموا أن الله غفور حليم} في هذا الكلام الكريم الحكيم تحذير وتقريب، وتخويف ورحمة، إذ بين سبحانه أنه يعلم خلجات القلوب، وخطرات النفوس، وما تخفي الصدور وما يستكن فيها، وما يعلن، وإن للنفس هواجس وخواطر، فإذا همت النفس أو جالت فيها أمور تستهجن ولا تستحسن، كأن يجول بخاطره أن يكلم المعتدة من وفاة في أمر منكر لا يسوغ في الدين، ولا في العرف، ولا في الأخلاق، فليعلم أن الله عليه رقيب يعلم تلك الخواطر، فليحذره، لكيلا يبرزها إلى الوجود، فيندفع وراءها، وإنه إذا قمعها وقدع نفسه عنها، وجعلها في محيط قلبه لا تخرج منه، فإن ذلك يكون في عفو الله تعالى، ولذا قال سبحانه: {و اعلموا أن الله غفور حليم} يغفر الله فلا يأخذ العبد إلا بما يفعل ولا يأخذه بما يجول بخاطره، ولا بما تحدثه به نفسه، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء. تبارك الله سبحانه، هو المنتقم الجبار العفو القدير، الغفور الرحيم...
التشريع لأنه من إله رحيم لا يهدر عواطف النفس البشرية، لا من ناحية الذي يرغب في أن يتزوج، ولا من ناحية المرأة التي تستشرف أن تتزوج، فيعالج هذه المسألة بدقة وبحزم وبحسم معا فيقول –جل شأنه-: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكروهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور رحيم 235}... إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل للعواطف تنفيسا من هذه الناحية، والتنفيس ليس مجرد تعبير عن العاطفة، ولكنه رعاية للمصلحة، فمن الجائز أنه لو حزم التعريض لكان في ذلك ضياع فرصة الزواج للمرأة، أو قد يفوت هذا المنع الفرصة على من يطلبها من الرجال؛ لذلك يضع الحق القواعد التي تفرض على الرجل والمرأة معا أدب الاحتياط، وكأنه يقول لنا: أنا أمنعكم أن تخطبوا في العدة أو تقولوا كلاما صريحا وواضحا فيها، لكن لا مانع من التلميح من بعيد... مثلا يثنى الرجل على المرأة؛ ويعدد محاسنها بكلام لا يعد خروجا على آداب الإسلام مثل هذا الكلام هو تلميح وتعريض، وفائدته أنه يعبر عما في نفس قائله تجاه المطلقة فتعرف رأيه فيها، ولو لم يقل ذلك فربما سبقه أحد إليها وقطع عليه السبيل لإنفاذ ما في نفسه، ومنعه من أن يتقدم لخطبتها بعد انتهاء العدة، وقد يدفعه ذلك لأن يفكر تفكيرا آخر: للتعبير بأسلوب وشكل خاطئ. إذن فالتعريض له فائدة في أنه يُعرف المطلقة رأي فلان فيها حتى إن جاءها غيره لا توافق عليه مباشرة. وهكذا نرى قبساً من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، بأن جعل العدة كمنطقة حرام تحمي المرأة، وجعل التعريض فرصة للتعبير عن العاطفة التي تؤسس مصلحة من بعد ذلك...
إن الحق يقول: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء}... أي لا جناح عليكم أن وضعتم في أنفسكم أمرا يخفى على المرأة، وللمسلم أن يكنن ويخفي في نفسه ما يشاء، ولكن ما الذي يُدري ويعلم المطلقة أنها في بالك يا من أسررت أمرها في نفسك؟ إنك لابد أن تلمح وأن تعرض بأسلوب يليق باحترام المرأة...
ويقول الحق: {علم الله أنكم ستذكرونهن}، إن الذي خلقك يعلم أنها مادامت في بالك، ومات زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أملا بالنسبة لك، فلو أنه ضيق عليك لعوق عواطفك، ولضاعت منك الفرصة لأن تتخذها زوجة من بعد ذلك، ولهذا أباح الحق التعريض حتى لا يقع أحدكم في المحظور وهو {لا تواعدوهن سرا} بأن تأخذوا عليهن العهد ألا يتزوجن غيركم، أو يقول لها: تزوجيني. بل عليه أن يعرض ولا يفصح ولا يصرح. إن المواعدة في السر أمر منهي عنه، لكن المسموح به هو التعريض بأدب، {إلا أن تقولوا قولا معروفا} كأن يقول: (يا سعادة من ستكون له زوجة مثلك). ومثل ذلك من الثناء الذي يُطرب المرأة. ونعلم جميعا أن المرأة في مثل حال المطلقة أو المتوفى عنها زوجها تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلام ومراده...
ويتابع الحق: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} وهكذا نرى أن مجرد العزم الأكيد أمر نهى عنه. والعزم مقدم على الفعل فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل أقوى وأشد وأنهى، فلك أن تنوى الزواج منها وتتوكل على الله، لكن لا تجعله أمرا مفروغا منه، إلا بعد أن تتم عدتها، فإن بلغ الكتاب أجله وانتهت عدتها فاعزموا النكاح.
فكأن عقدة النكاح تمر بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: وهي التعريض أو التلميح. والمرحلة الثانية: هي العزم الذي لا يصح ولا يستقيم أن يتم إلا بعد انتهاء فترة العدة. والمرحلة الثالثة: هي العقد...
والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق في هذا الأمر الجاد، فإن كان التفكير قد هدى إلى العزم فإن للإنسان أن يعقد بعد انتهاء العدة، وإن كان التفكير قد اهتدى إلى الابتعاد وصرف النظر عن مثل هذا الأمر فللإنسان ما يريد.
ويريد الحق من هذه المراحل أن يعطي الفرصة في التراجع إن اكتشف أحد الطرفين في الآخر أمرا لا يعجبه. وكل هذه الخطوات تدل على أن العقد لا يكون إلا بعزم، فلا يوجد عقد دون عزم، إن الحق يريد من المسلم ألا يقدم على عقدة النكاح إلا بعد عزم. والعزم معناه التصميم على أنك تريد الزواج بحق الزواج وبكل مسئولياته، وبكل مهر الزواج، ومشروعيته، وإعفافه؛ فالزواج بدون أرضية العزم مصيره الفشل...
ومعنى العزم: أن تفكر في المسألة بعمق وروية في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد، ثم لك أن تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء لا مجرد شهوة طارئة ليست لها أرضية من عزيمة النفس عليها...
لذلك يذيل الحق هذه الآية الكريمة بقوله: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم}. وهو سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية وأنها قد تضعف في بعض الأحيان، فإن كان قد حدث منها شيء فالله يعطيها الفرصة في أن يتوب صاحبها لأنه سبحانه هو الغفور الحليم...