ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل المشركين فقال تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ . . . } .
أي : أن هؤلاء المشركين ، لا يكتفون بإنكارهم البعث وبجحود نعم الله - تعالى - ، بل أضافوا إلى ذلك ، أنهم يثبتون له - سبحانه وينسبون إليه كذبا وزورا - ما يكرهونه لأنفسهم ، فهم يكرهون أن يشاركهم أحد في أموالهم أو في مناصبهم ؛ ومع ذلك يشركون مع الله - تعالى - في العبادة آلهة أخرى ، ويكرهون أراذل الأموال ، ومع ذلك يجعلون لله - تعالى - أراذل أموالهم . ويجعلون لأصنامهم أكرمها ، ويكرهون البنات ، ومع ذلك ينسبونهن إليه - سبحانه - . فالجملة الكريمة تنعى عليهم أنانيتهم ، وسوء أدبهم مع خالقهم - عز وجل - وقوله - سبحانه - { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى . . . } ، تصوير بليغ لما جبلوا عليه من كذب صريح ، وبهتان واضح .
ومعنى : { تصف } ، تقول وتذكر بشرح وبيان وتفصيل ، حتى لكأنها تذكر أوصاف الشئ ، وجملة { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } ، بدل من { الكذب } .
والحسنى : تأنيث الأحسن ، والمراد بها زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا ، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب وأعظمه ، كما كان لهم في الدنيا ذلك ، فقد روى أنهم قالوا : إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فيما يخبر عنه من أمر البعث ، فلنا الجنة . . .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين يجعلون لله - تعالى - ما يكرهونه من الأولاد والأموال والشركاء ، وتنطق ألسنتهم بالكذب نطقا واضحا صريحا ؛ إذ زعموا أنه إن كانت الآخرة حقا ، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب .
وهذا الزعم قد حكاه القرآن عنهم فى آيات متعددة منها قوله - تعالى - { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ، وقوله - تعالى - : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً . . . } ، قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه . جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم ، فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته . كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر .
وقال بعض العلماء : والتعبير القرآني في قوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } ، يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته ، أو كأنها صورة له ، تحكيه وتصفه بذاتها ، كما تقول : فلان قوامه يصف الرشاقة . . ؛ لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة ، مفصح عنها .
كذلك قال - سبحانه - { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب . . . } ، فهي بذاتها تعبير عن الكذب ، لطول ما قالت الكذب ، ولكثرة ما عبرت عنه ، حتى صارت رمزا عليه ، ودلالة له .
وقوله - سبحانه - : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } ، تكذيب لهم فيما زعموه من أن لهم الحسنى ، ووعيد لهم بإلقائهم في النار .
وكلمة { لا جرم } ، وردت في القرآن الكريم في خمسة مواضع ، متلوة " بأن " و " اسمها " وليس بعدها فعل . وجمهور النحاة على أنها مركبة من " لا " و { جرم } ، تركيب " خمسة عشر " . ومعناها بعد التركيب ، معنى حق وثبت . والجملة بعدها فاعل ، أي : حق وثبت كونهم لهم النار ، وأنهم مفرطون فيها .
وقوله - سبحانه - : { مفرطون } ، قرأها الجمهور - بسكون الفاء وفتح الراء - بصيغة اسم المفعول ، من أفرطه بمعنى قدمه . يقال : أفرطته إلى كذا . أي : قدمته إليه .
قال القرطبى : والفارط الذي يتقدم غيره إلى الماء . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا فرطكم على الحوض " أي : متقدمكم . . . .
أو من أفرط إذا نسيه وتركه . تقول : أفرطت فلانا خلفي ، إذا تركته ونسيته .
والمعنى : أن هؤلاء الذين يزعمون أن لهم الحسنى في الآخرة ، كذبوا في زعمهم ، وفجروا في إفكهم ، فإنهم ليس لهم شيء من ذلك ، وإنما الأمر الثابت الذي لا شك فيه ، أن لهم في الآخرة النار ، وأنهم مفرطون فيها ، مقدمون إليها بدون إمهال ، ومتروكون فيها بدون اكتراث بهم ، كما يترك الشيء الذي لا قيمة له . قال - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } . وقرأ نافع : { وأنهم مفرطون } - بسكون الفاء وكسر الراء - ، بصيغة اسم الفاعل . من " أفرط " اللازم بمعنى : أسرف وتجاوز الحد . يقال : أفرط فلان في كذا ، إذا تجاوز الحدود المشروعة .
فيكون المعنى : لا جرم أن لهم النار ، وأنهم مفرطون ومسرفون في الأقوال والأعمال التي جعلتهم حطبا لها ، ووقودا لنيرانها ، كما قال - تعالى - :
وقوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، أي : من البنات ، ومن الشركاء ، الذين هم [ من ]{[16505]} عبيده ، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله .
وقوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا ، وإن كان ثمَّ معاد ففيه أيضا لهم الحسنى ، وإخبار عن قيل من قال منهم ، كقوله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 9 ، 10 ] ، وكقوله{[16506]} : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ فصلت : 50 ] ، وقوله : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ{[16507]} بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا [ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ] } [ مريم : 77 ، 78 ]{[16508]} وقال إخبارا عن أحد الرجلين : أنه { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ{[16509]} مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [ الكهف : 35 ، 36 ] - فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل ، بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل ، كما ذكر ابن إسحاق : أنه وُجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حِكَم ومواعظ ، فمن{[16510]} ذلك : تعملون السيئات{[16511]} ويجزون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى{[16512]} من الشوك العنب{[16513]} .
وقال مجاهد ، وقتادة : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، أي :{[16514]} الغلمان .
وقال ابن جرير : { أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، أي : يوم القيامة ، كما قدمنا بيانه ، وهو الصواب ، ولله الحمد .
ولهذا قال الله تعالى رادا عليهم في تمنيهم [ ذلك ] ، {[16515]} { لا جَرَمَ } ، أي : حقا لا بد منه ، { أَنَّ لَهُمُ النَّارَ } ، أي : يوم القيامة ، { وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } .
قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون .
وهذا كقوله تعالى : { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [ الأعراف : 51 ] . {[16516]}
وعن قتادة أيضا : { مُفْرَطُونَ } ، أي : معجلون إلى النار ، من الفَرَط ، وهو : السابق إلى الوِرْد ، ولا منافاة ؛ لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار ، وينسون فيها ، أي : يخلدون .
{ ويجعلون لله ما يكرهون } ، أي : ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ، والشركاء في الرياسة ، والاستخفاف بالرسل ، وأراذل الأموال . { وتصف ألسنتهم الكذب } ، مع ذلك وهو : { أن لهم الحسنى } ، أي : عند الله كقوله : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } ، وقرئ : { الكذب } ، جمع كذوب ، صفة للألسنة . { لا جرم أن لهم النار } ، رد لكلامهم ، وإثبات لضده . { وأنهم مُفرَطون } ، مقدمون إلى النار ، من أفرطته في طلب الماء ، إذا قدمته . وقرأ نافع بكسر الراء على أنه من الإفراط في المعاصي . وقرئ بالتشديد مفتوحا ، من فرطته في طلب الماء ، ومكسورا من التفريط في الطاعات .
هذا ضغث على إبّالة من أحوالهم في إشراكهم تخالف قصّة قوله تعالى : { ويجعلون لله البنات } [ سورة النحل : 57 ] باعتبار ما يختصّ بهذه القصّة من إضافتهم الأشياء المكروهة عندهم إلى الله مما اقتضته كراهتهم البنات بقوله تعالى : { ولهم ما يشتهون } [ سورة النحل : 57 ] ، فكانَ ذلك الجعل ينطوي على خصلتين من دين الشّرك ، وهما : نسبة البنوّة إلى الله ، ونسبة أخسّ أصناف الأبناء في نظرهم إليه ، فخصّت الأولى بالذكر بقوله { ويجعلون لله البنات } مع الإيماء إلى كراهتهم البنات كما تقدّم . وخصّت هذه بذكر الكراهية تصريحاً ، ولذلك كان الإتيان بالموصول والصلة { ما يكرهون } هو مقتضى المقام الذي هو تفظيع قولهم وتشنيع استئثارهم . وقد يكون الموصول للعموم فيشير إلى أنهم جعلوا لله أشياء يكرهونها لأنفسهم مثل الشريك في التصرّف ؛ وأشياء لا يرضونها لآلهتهم ونسبوها لله كما أشار إليه قوله تعالى : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون } [ سورة الأنعام : 136 ] .
وفي الكشاف : « يجعلون لله أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها » . فهو مراد من عموم الموصول ، فتكون هذه القصة أعمّ من قصّة قوله تعالى : { ويجعلون لله البنات } ، ويكون تخصيصها بالذكر من جهتين : جهة اختلاف الاعتبار ، وجهة زيادة أنواع هذا الجعل .
وجملة { وتصف ألسنتهم الكذب } عطف قصة على قصة أخرى من أحوال كفرهم .
ومعنى { تصف } تذكر بشرح وبيان وتفصيل ، حتى كأنها تذكر أوصاف الشيء . وحقيقة الوصف : ذكر الصفات والحُلَى . ثم أطلق على القول المبيّن المفصل . قال في « الكشاف » في الآية الآتية في أواخر هذه السورة : « هذا من فصيح الكلام وبليغه . جعل القول كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد صورت الكذب بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر » ا هـ .
وقد تقدم في قوله تعالى : { سبحانه وتعالى عما يصفون } في سورة الأنعام ( 100 ) . وسيأتي في آخر هذه السورة { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } [ سورة النحل : 116 ] . ومنه قول المعرّي :
سرى برق المعرّة بعد وهن *** فباتَ برامةٍ يصف الكَلاَلا
أي يشكو الإعياء من قطع مسافة طويلة في زمن قليل ، وهو من بديع استعاراته .
والمراد من هذا الكذب كل ما يقولونه من أقوال خاصتهم ودهمائهم باعتقاد أو تهكّم . فمن الأول قول العاصي بن وائل المحكي في قوله تعالى : { وقال لأوتينّ مالاً وولداً } [ سورة مريم : 77 ] وفي قوله تعالى : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [ سورة فصلت : 50 ] . ومن الثاني قولهم في البليّة : أن صاحبها يركبها يوم القيامة لكيلا يُعيى .
وانتصب { الكذب } على أنه مفعول { تصف } .
و{ أن لهم الحسنى } بدل من { الكذب } أو { الحسنى } صفة لمحذوف ، أي الحالة الحسنى .
وجملة { لا جرم أن لهم النار } جواب عن قولهم المحكي . ومعنى لا جرم لا شكّ ، أي حقاً .
و { مُفْرِطُونَ } بكسر الراء المخففة في قراءة نافع : اسم فاعل من أفرط ، إذا بلغ غاية شيء ما ، أي مفرطون في الأخذ من عذاب النار .
وقرأه أبو جعفر بكسر الراء مشددة من فرّط المضاعف . وقرأه البقية بفتح الراء مخففة على زنة اسم المفعول ، أي مجعولون فرطاً بفتحتين وهو المقدم إلى الماء ليسقي .
والمراد : أنهم سابقون إلى النار معجّلون إليها لأنهم أشدّ أهل النار استحقاقاً لها ، وعلى هذا الوجه يكون إطلاق الإفراط على هذا المعنى استعارة تهكّمية كقول عمرو بن كلثوم :
أراد فبادرنا بقتالكم حين نزلتم بنا مغيرين علينا .
وفيها مع ذكر النار في مقابلتها مُحسن الطباق . على أن قراءة نافع تحتمل التفسير بهذا أيضاً لِجواز أن يقال : أفرط إلى الماء إذا تقدّم له .