ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بكلمة الحق فى وجوه المستكبرين ، فقال .
{ وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } .
أى : وقل : أيها الرسول - لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم ، وكان أمرهم فرطا ، قل لهم : هذا الذى جئتكم به من قرآن هو الحق من ربكم وخالقكم . . فقوله : { الحق مِن رَّبِّكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف .
أو أن لفظ { الحق } مبتدأ ، والجار والمجرور خبره . أى : الحق الذى جئتكم به فى هذا القرآن العظيم ، كائن مبدؤه من ربكم ، وليس من أحد سواه .
وليس المراد من قوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } التخيير بين الإيمان والكفر ، بل المراد به التهديد والتخويف ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } . . إلخ .
أى : قل لهم جئتكم من ربكم بالحق الذى يجب اتباعه ، فمن شاء أن يؤمن به فليفعل فإن عاقبته الخير والثواب ، ومن شاء أن يكفر به فليكفر فإن عاقبته الخسران والعقاب ، كما بين - سبحانه - ذلك فى قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } .
والسرادق : كل ما أحاط بغيره ، كالحائط أو السور الذى يحيط بالبناء ، فيمنع من الوصول إلى ما بداخله .
أى : إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بهذا الحق نارا مهولة عظيمة ، أحاط بهم سياجها إحاطة تامة ؛ بحيث لا يستطيعون الخروج منه ، وإنما هم محصورون بداخله . كما ينحصر الشئ بداخل ما يحدق به من كل جانب .
وقوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } بيان لما ينزل بهم من عذاب عندما يطلبون الغوث مما هم فيه من كروب .
والمهل فى اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض . كالحديد ، والرصاص ، والنحاس ، ونحو ذلك كما يطلق - أيضا - على الماء الغليظ كدردى الزيت أى : ما تعكر منه . وقيل . هو نوع من القطران أو السم .
والمرتفق : المتكأ ، من الارتفاق وهو الاتكاء على مرفق اليد .
أى : إن هؤلاء الكافرين ، إن يطلبوا الغوث عما هم فيه من كرب وعطش ، يغاثوا بماء كالمهل فى شدة حرارته ونتنه وسواده ، هذا الماء { يشوى الوجوه } أى : يحرقها .
{ بئس الشراب } ذلك الماء الذى يغاثون به { وساءت } النار منزلا ينزلون به ، ومتكأ يتكئون عليه .
فالآية الكريمة تصور ما ينزل بهؤلاء الظالمين من عذاب ، تصويرا ترتجف من هوله الأبدان ، ويدخل الرعب والفزع على النفوس .
قال بعضهم : " فإن قيل ، أى إغاثة لهم فى ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال - سبحانه - ، { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } ؟
فالجواب : إن هذا من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ونظيره من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب .
وخيل قد دلفت لها بخيل . . . تحية بينهم ضرب وجيع
أى : لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع ، وإذا كان هؤلاء الظالمون لا يغاثون إلا بماء كالمهل ، علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم مطلقا " .
والمخصوص بالذم فى قوله : { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } محذوف ، بئس الشراب ذلك الماء الذى يغاثون به ، وساءت النار مكانا للارتفاق والاتكاء .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد للناس : هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ؛ ولهذا قال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا } أي : أرصدنا { لِلظَّالِمِينَ } وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي : سورها .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم{[18142]} عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لسُرَادِق النار أربعة جُدُر ، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة " .
وأخرجه الترمذي في " صفة النار " وابن جرير في تفسيره ، من حديث دراج أبي السَّمح به{[18143]}
[ وقال ابن جريج : قال ابن عباس : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } قال : حائط من نار ]{[18144]}
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن أمية ، حدثني محمد بن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البحر هو جهنم " قال : فقيل له : [ كيف ذلك ؟ ]{[18145]} فتلا هذه الآية - أو : قرأ هذه الآية - : { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ثم قال : " والله لا أدخلها أبدًا أو : ما دمت حيًا - ولا تصيبني منها قطرة " {[18146]} .
وقوله : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } قال ابن عباس : " المهل " : ماء غليظ مثل{[18147]} دردي الزيت .
وقال مجاهد : هو كالدم والقيح . وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حَرّه : وقال آخرون : هو كل شيء أذيب .
وقال قتادة : أذاب ابنُ مسعود شيئًا من الذهب في أخدود ، فلما انماع وأزبد قال : هذا أشبه شيء بالمهل .
وقال الضحاك : ماء جهنم أسود ، وهي سوداء وأهلها{[18148]} سود .
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر ، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار ؛ ولهذا قال : { يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي : من حره ، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه ، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سُرادِق النار عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ماء كالمهل " . قال{[18149]} كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه " {[18150]} وهكذا رواه الترمذي في " صفة النار " من جامعه ، من حديث رِشْدِين بن سعد{[18151]} عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، به{[18152]} ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث " رشدين " ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه ، ، هكذا قال ، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب ، عن ابن لَهِيعة ، عن دَرّاج ، والله أعلم{[18153]} .
وقال عبد الله بن المبارك ، وبَقِيَّة بن الوليد ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بُسْر ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } [ إبراهيم : 16 ، 17 ] قال : " يقرب إليه فيَتَكرّهه ، فإذا قرب منه شَوَى وجهَه ووقعت فروةُ رأسه ، فإذا شربه{[18154]} قطع أمعاءه ، يقول الله تعالى : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ } .
وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا{[18155]} منها فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارًّا مرً بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها . ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون . فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم{[18156]} وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود .
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه{[18157]} الصفات [ الذميمة ]{[18158]} القبيحة : { بِئْسَ الشَّرَابُ } أي : بئس هذا الشراب{[18159]} كما قال في الآية الأخرى : { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [ محمد : 15 ] وقال تعالى : { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 5 ]{[18160]} أي : حارة ، كما قال : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ]
{ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [ أي : وساءت النار ]{[18161]} منزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق{[18162]} كما قال في الآية الأخرى : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66 ]
{ وقل الحق من ربكم } الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و{ من ربكم } حالا . { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر ، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وان كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته . { إنا اعتدنا } هيأنا . { للظالمين نارا أحاط بهم سُرادقُها } فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من النار . وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط . وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار { وإن يستغيثوا } من العطش . { يُغاثوا بما كالمهل } كالجسد المذاب . وقيل كدرديّ الزيت وهو على طريقة قوله : فاعتبوا بالصيلم . { يشوي الوجوه } إذا قدم ليشرب من فرط حرارته ، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف . { بئس الشراب } المهل . { وساءت } النار . { مرتفقاً } متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد ، وهو لمقابلة قوله وحسنت مرتفقا وألا فلا ارتفاق لأهل النار .
بعد أن أمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بما فيه نقض ما يفتلونه من مقترحاتهم وتعريضٌ بتأييسهم من ذلك أمره أن يصارحهم بأنه لا يعدل عن الحق الذي جاءه من الله ، وأنه مبلغه بدون هوادة ، وأنه لا يرغب في إيمانهم ببعضه دون بعض ، ولا يتنازل إلى مشاطرتهم في رغباتهم بشطر الحق الذي جاء به ، وأن إيمانهم وكفرهم موكول إلى أنفسهم ، لا يحسبون أنهم بوعد الإيمان يستنزلون النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أوحى إليه .
و { الحق } خبر مبتدأ محذوف معلوم من المقام ، أي هذا الحق . والتعبير ب { ربكم } للتذكير بوجوب توحيده .
والأمر في قوله : { فليؤمن } وقوله : { فليكفر } للتسوية المكنى بها عن الوعد والوعيد .
وقدم الإيمان على الكفر لأن إيمانهم مرغوب فيه .
وفاعل المشيئة في الموضعين ضمير عائد إلى ( من ) الموصولة في الموضعين .
وفعل « يؤمن ، ويكفر » مستعملان للمستقبل ، أي من شاء أن يوقع أحد الأمرين ولو بوجه الاستمرار على أحدهما المتلبس به الآن فإن العزم على الاستمرار عليه تجديد لإيقاعه .
وجملة { إنا أعتدنا للظالمين ناراً } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما دل عليه الكلام من إيكال الإيمان والكفر إلى أنفسهم وما يفيده من الوعيد كلاهما يثير في النفوس أن يقول قائل : فماذا يلاقي من شاء فاستمر على الكفر ، فيجاب بأن الكفر وخيم العاقبة عليهم .
والمراد بالظالمين : المشركون قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
وتنوين { ناراً } للتهويل والتعظيم .
والسرادق بضم السين قيل : هو الفسطاط ، أي الخيمة . وقيل : السرادق : الحُجزة بضم الحاء وسكون الزاي ، أي الحاجز الذي يكون محيطاً بالخَيمة يمنع الوصول إليها ، فقد يكون من جنس الفسطاط أديماً أو ثوباً وقد يكون غير ذلك كالخندق . وهو كلمة معربة من الفارسية . أصلها ( سراطاق ) قالوا : ليس في كلام العرب اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان . والسرادق : هنا تخييل لاستعارة مكنية بتشبيه النار بالدار ، وأثبت لها سُرادق مبالغة في إحاطة دار العذاب بهم ، وشأن السرادق يكون في بيوت أهل الترف ، فإثباته لدار العذاب استعارة تهكمية .
والاستغاثة : طلب الغوث وهو الإنقاذ من شدة وبتخفيف الألم . وشمل { يستغيثوا } الاستغاثة من حر النار يطلبون شيئاً يُبرد عليهم ، بأن يصبوا على وجوههم ماء مثلاً ، كما في آية الأعراف { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء } [ الأعراف : 50 ] . والاستغاثة من شدة العطش الناشىء عن الحر فيسألون الشراب . وقد أومأ إلى شمول الأمرين ذكر وصفين لهذا الماء بقوله : { يشوي الوجوه بئس الشراب } .
والإغاثة : مستعارة للزيادة مما استغيث مِن أجله على سبيل التهكم ، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده .
والمُهل بضم الميم له معاننٍ كثيرة أشبهها هنا أنه دُردي الزيت فإنه يزيدها التهاباً قال تعالى : { يوم تكون السماء كالمهل } [ المعارج : 8 ] .
والتشبيه في سواد اللوْن وشدة الحرارة فلا يزيدهم إلا حرارة ، ولذلك عقب بقوله : { يشوي الوجوه } وهو استئناف ابتدائي .
والوجه أشد الأعضاء تألماً من حر النار قال تعالى : { تلفح وجوههم النار } [ المؤمنون : 104 ] .
وجملة { بئس الشراب } مستأنفة ابتدائية أيضاً لتشنيع ذلك المَاء مشروباً كما شُنع مغتسَلاً . وفي عكسه الماءُ الممدوح في قوله تعالى : { هذا مغتسل بارد وشراب } [ ص : 42 ] .
والمخصوص بذم { بئس } محذوف دل عليه ما قبله . والتقدير : بئس الشراب ذلك الماء .
وجملة { وساءت مرتفقاً } معطوفة على جملة { يشوي الوجوه } ، فهي مستأنفة أيضاً لإنشاء ذم تلك النار بما فيها .
والمرتفق : محل الارتفاق ، وهو اسم مكان مشتق من اسم جامد إذ اشتق من المِرْفَقِ وهو مجمع العضد والذراع . سمي مرفقاً لأن الإنسان يحصل به الرفق إذا أصابه إعياء فيتكىء عليه . فلما سمي به العضو تنوسي اشتقاقه وصار كالجامد ، ثم اشتق منه المُرتفق . فالمرتفق هو المُتكأ ، وتقدم في سورة يوسف .
وشأن المرتفَق أن يكون مكان استراحة ، فإطلاق ذلك على النار تهكم ، كما أطلق على ما يزاد به عذابهم لفظ الإغاثة ، وكما أطلق لى مكانهم السرادق .
وفعل ( سَاء ) يستعمل استعمالَ ( بئس ) فيَعمَل عمل ( بئس ) ، فقوله : { مرتفقاً } تمييز . والمخصوص بالذم محذوف كما تقدم في قوله : { بئس الشراب } .