ثم كشف - سبحانه - عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال - تعالى - : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } .
والسحت : هو كل ما خبث كسبه وقبح مصدره ، كالتعامل بالربا وأخذ الرشوة وما إلى ذلك من وجوه الكسب الحرام .
وقد بسط الإِمام القرطبي هذا المعنى فقال : والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة .
قال - تعالى - { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي : - فيهلككم ويستأصلكم بعذاب - ويقال للحالق : أسحت أي استأصل . وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع . يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطي مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" " كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به " قالوا يا رسول الله وما السحت ؟ قال : " الرشوة في الحكم " " .
وقال بعضهم : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه . وذلك بأن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها .
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم - أيضا - أنهم كثيروا السماع للكذب ، وكثيروا الأكل للمال الحرام بجميع صورة وألوانه . ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا ، ولا تؤمل فيه رشدا .
وقوله : ( سماعون ) خبر لمبتدأ محذوف أي : هم سماعون . وكرر تأكيدا لما قبله ، وتمهيداً لما بعده وهو قوله : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } .
وجاءت هاتان الصفتان - سماعون وأكالون - بصيغة المبالغة ، للإِيذان بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم . فهم يستمرئون سماع الباطل من القول ، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل :
إن اليهود بصفة خاصة قد اشتهروا في كل زمان بتقبل السحت ، وقد أرشد الله - تعالى - نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .
أي : فإن جاءكم هؤلاء اليهود متحاكمين إليك - يا محمد - في قضاياهم ، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله ، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم ، فيما احتكموا فيه إليك قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشيء من كيدهم ، لأن الله حافظك وناصرك عليهم ، وإن اخترت الحكم في قضاياهم ، فليكن حكمك بالعدل الذي أمرت به ، لأن الله - تعالى - يحب العادلين في أحكامهم .
والفاء في قوله : { فَإِن جَآءُوكَ } للإِفصاح أي : إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
وجاء التعبير بإن المفيدة للشك - مع أنهم قد جاءوا إليه - للإيذان بأنهم كانوا مترددين في التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأنهم ما ذهبوا إليه ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم ، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه .
قال أبو السعود : وقوله : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ } بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما . وتقديم حال الإِعراض ، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه ، حيث كان مظنة الضرر ، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم ؛ فتشتد عداوتهم ومضارتهم له ، فأمنه الله بقوله : { فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } من الضر .
وكان التعبير بإن أيضا في قوله { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ } للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ليس حريصاً على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه ، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون ، والدليل على ذلك أن التوراة التي بين أيديهم فيها حكم الله ، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤملين أن يقضي بينهم بغير ما أنزل الله ، فيشيعوا ذلك بين الناس ، ويعلنوا عدم صدقه في نبوته ، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين .
وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضي بينهم .
يقال : أقسط الحاكم في حكمه ، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أي عادل ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتي :
1 - أن أكل السحت حرام سواء أكان عن طريق الرشوة أم عن طريق محرم سواها .
ولقد كان السابقون من السلف الصالح يتحرون الحلال . وينفرون من الحرام ، بل ومن الشبهات ، وكانوا يرون أن تأييد الحق ودفع الباطل واجب عليهم ، وأنه لا يصح أن يأخذوا عليه أجرا .
قال ابن جرير : شفع مسروق لرجل في حاجة فأهدى إليه جارية ، فغضب مسروق غضباً شديدا وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ، ولا أكلمه فيما بقي من حاجتك . سمعت ابن مسعود يقول : من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، أو يرفع بها ظلما ، فأهدى له ، فقيل ، فهو سحت .
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به " قيل يا رسول الله وما السحت ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " الرشوة في الحكم " " .
وعن الحكم بن عبد الله قال : قال لي أنس بن مالك : إذا انقلبت إلى أبيك فقل له : إياك والرشوة فإنها سحت . وكان أبوه على شرط المدينة .
قال بعض العلماء : والرشوة قد تكون في الحكم وهي محرمة على الراشي والمرتشي . وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الراشي والمرتشي والذي يمشي بينهما " لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقاً من جهة أنه قبل الرشوة على أن يحكم بما يعرض عليه الحكم به . وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة . ومن جهة أنه حكم بالباطل .
وقد تكون الرشوة في غير الحكم مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محرمة على معطيها ، فقد روى عن الحسن أنه قال :
" لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه " وروى عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا : " لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم " .
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة ، أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره ، فلم يرق ذلك العباس وقال شعرا يتضمن التعجيب من هذا التصرف . فقال صلى الله عليه وسلم " اقطعوا لسانه " فزادوه حتى رضى . فهذا نوع من الرشوة رخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه يدفعه إلأى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه .
2 - استدل بعض العلماء بقوله - تعالى - : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الحكم بين أهل الكتاب أو الإِعراض عنهم ، وأن حكم التخيير غير منسوخ ، لأن ظاهر الآية يفيد ذلك .
ويرى فريق من العلماء أن هذا التخيير قد نسخ بقوله - تعالى - بعد ذلك { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } قالوا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا ثم أمر بعد ذلك بإجراء الأحكام عليهم .
وقد رد القائلون بثبوت التخيير على القائلين بالنسخ بأن التخيير ثابت بهذه الآية .
أما قوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له .
ويرى فريق ثالث من العلماء : أن التخيير ورد في المعاهدين الذين ليسوا من أهل الذمة كبني النضير وبني قريظة ، فهؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم :
وقوله - تعالى - { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } ورد في أهل الذمة الذين لهم ما لنا وعليهم ما علينا . وعلى هذا فلا نسخ في الآية .
قال الآلوسي : قال أصحابنا : أهل الذمة محمولون على أحكام الإِسلام في البيوع ولمواريث وسائر العقود ، إلا في بيع الخمر والخنزير ، فإنهم يقرون عليه ، ويمنعون من الزنا كالمسلمين ، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين ، واختلف في مناكحتهم ، فقال أبو حنيفة : يقرون عليها ، وخالفه - في بعض ذلك . محمد وزفر . وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا ؛ فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم ، وتمام التفصيل في كتب الفروع .
3 - أخذا العلماء من هذه الآية - أيضاً - أن الحاكم ينفذ حكمه فيما حكم فيه لأن اليهود حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض قضاياهم ، فحكم فيهم بما أنزل الله ، ونفذ هذا الحكم عليهم .
قال بعضهم : إنه صلى الله عليه وسلم قد حكم بينهم بشريعة موسى - عليه السلام - ولكن هذا الحكم كان قبل أن تنزل عليه الحدود .
أما الآن وقد أكمل الله الدين ، وتقررت الشريعة ، فلا يجوز لأي حاكم أن يحكم بغير الأحكام الإِسلامية لا فرق بين المسلمين وغيرهم .
هذا ، وبعد أن وصف الله - تعالى - اليهود وأشباهم بجملة من الصفات القبيحة ، وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم فيهم بشرع الله وبين أن يعرض عنهم .
بعد كل ذلك أنكر عليهم مسالكهم الخبيثة ، وعجب كل عاقل من حالهم فقال - تعالى - : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين }
ثم يمضي في بيان حال القوم ، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك ، قبل أن يبين لرسول الله [ ص ] كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين :
( سماعون للكذب ، أكالون للسحت . فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين ) . .
كرر أنهم سماعون للكذب . مما يشي بأن هذه أصبحت خصله لهم . . تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل ، وتنقبض لسماع لحق والصدق . . وهذه طبيعة القلوب حين تفسد ، وعادة الأرواح حين تنطمس . . ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفه ، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات . . وما أروج الباطل في هذه الآونه وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونه !
وهؤلاء : سماعون للكذب . أكالون للسحت . . والسحت كل مال حرام . . والربا والرشوه وثمن الكلمه والفتوى ! في مقدمة ما كانوا يأكلون ، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان ! وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركه ويمحقها . وما اشد أنقطاع البركه وزوالها من المجتمعات المنحرفه . كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله .
ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه - فإن شاء أعرض عنهم - ولن يضروه شيئاً - وإن شاء حكم بينهم . فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط ، غير متأثر بأهوائهم ، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم . .
والرسول [ ص ] والحاكم المسلم ، والقاضي المسلم ، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن ؛ وإنما يقوم بالقسط لله . لأن الله يحب المقسطين . فإذا ظلم الناس وإذا خانوا ، وإذا انحرفوا ، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم . لإنه ليس عدلاً لهم ؛ وإنما هو لله . . وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام ، في كل مكان وفي كل زمان .
وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر . إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتمياً . فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله . وأهلها جميعاً ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعه . مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام ؛ وهوألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام ؛ وعلى ما يختص بالنظام العام . فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم ، كامتلاك الخنزير وأكله ، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم . ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم . وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقه لأنها وارده في كتابهم وهكذا . كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء ، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعاً : مسلمين وغير مسلمين . فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام . . .
وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير ، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله [ ص ] ؛ مثال ذلك ما رواه مالك ، عن نافع ، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - : " إن اليهود جاءوا إلى رسول الله [ ص ] فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله [ ص ] ما تجدون في التوراه في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال عبدالله بن سلام : كذبتم . إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آيه الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال عبدالله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم ! . فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله [ ص ] فرجما . فرأيت الرجل يحني على المرأه يقيها الحجارة " . .
[ أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري ]
ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس قال :
" أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهليه ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي [ ص ] فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا ضميا منكم لنا ، وفرقا منكم . فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ! فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله [ ص ] حكما بينهم . ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ! فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ! فدسوا إلى رسول الله [ ص ] ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله [ ص ] فلما جاءوا رسول الله [ ص ] أخبر الله رسوله [ ص ] بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) ، إلى قوله : ( الفاسقون ) . . ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل . . [ أخرجه أبو داود من حديث أبى الزناد عن أبيه ] . . وفي رواية لابن جرير عين فيها " العزيزة " وهي بنو النضير " والذليلة " وهي بنو قريظة . . مما يدل - كما قلنا - على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم . .
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : الباطل { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي : الحرام ، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد{[9861]} أي : ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه ؟ وأنى يستجيب له .
ثم قال لنبيه : { فَإِنْ جَاءُوكَ } أي : يتحاكمون إليك { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا } أي : فلا عليك ألا تحكم بينهم ؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق ، بل ما وافق{[9862]} هواهم .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني : هي منسوخة بقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } [ المائدة : 49 ] ، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق{[9863]} العدل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
أمن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من ضررهم إذا أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم ، والمعنى أنك منصور ظاهر الأمر على كل حال ، وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين { لن يضروكم }{[4554]} ثم قال تعالى : { وإن حكمت } أي اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما { فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل ، يقال أقسط الرجل إذا عدل وحكم بالحق وقسط إذا جار ، ومنه قوله : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } [ الجن : 15 ] ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه .
قوله : { سمّاعون للكذب } خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم سمّاعون للكذب . والظاهر أنّ الضّمير المقدّر عائد على الفريقين : المنافقين واليهودِ ، بقرينة الحديث عن الفريقين .
وحذفُ المسند إليه في مثل هذا المقام حذف اتّبع فيه الاستعمال ، وذلك بعد أن يذكروا متحدّثاً عنه أو بعدَ أن يصدر عن شيء أمر عجيب يأتون بأخبار عنه بجملة محذوفٍ المبتدأ منها ، كقولهم للّذي يصيب بدون قصد « رَمْيَة من غير رَام » ، وقول أبي الرقَيش :
سريع إلى ابن العمّ يلطُمُ وجهه *** وليس إلى داعي الندى بسريع
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النّعل زلّت
سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيّتي *** أياديَ لم تُمنَنْ وإن هي جَلَّت
والسمَّاع : الكثيرُ السمع ، أي الاستماعِ لما يقال له . والسَّمع مستعمل في حقيقته ، أي أنّهم يُصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كَذِبا ، أي أنّهم يحفلون بذلك ويتطلّبونه فيكثر سماعهم إيّاه . وفي هذا كناية عن تفشّي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق ، لأنّ كثرة السمع تستلزم كثرة القول . والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أنّ حكم الزّنى في التّوراة التّحميمُ .
وجملة { سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك } خبر ثان عن المبتدأ المحذوف . والمعنى أنّهم يقبلون ما يأمرهم به قوم آخرون من كَتم غرضهم عن النّبيء صلى الله عليه وسلم حتّى إن حكم بما يهوَون اتّبعوه وإن حكم بما يخالف هواهم عصَوه ، أي هم أتباع لقوم متستّرين هم القوم الآخرون ، وهم أهل خيبر وأهل فَدَك الّذين بعثوا بالمسألة ولم يأت أحد منهم النّبيء صلى الله عليه وسلم واللام في { لِقوم } للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل في المفعول .
وجملة { يحرّفون الكلم } صفة ثانية { لقوم آخرين } أو حال ، ولك أن تجعلها حالاً { من الّذين يسارعون في الكفر } . وتقدّم الكلام في تحريف الكلم عند قوله تعالى : { من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النّساء ( 46 ) ، وأنّ التّحريف الميل إلى حرف ، أي جانب ، أي نقله من موضعه إلى طرف آخر .
وقال هنا مِن بعد مواضعه ، وفي سورة النساء ( 46 ) عَن مواضعه ، لأنّ آية سورة النّساء في وصف اليهود كلّهم وتحريفهم في التّوراة . فهو تغيير كلام التّوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التّوراة أو في ألفاظها . فكان إبعاداً للكلام عن مواضعه ، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوّض بغيره أو لم يعوّض . وأمّا هاته الآية ففي ذكر طائفة معيّنة أبطلوا العمل بكلام ثابتتٍ في التّوراة إذْ ألغوا حكم الرّجم الثّابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام ، فهذا أشدّ جرأة من التّحريف الآخر ، فكان قوله : { من بعد مواضعه } أبلغَ في تحريف الكلام ، لأنّ لفظ ( بعد ) يقتضي أنّ مواضع الكلم مستقرّة وأنّه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التّوراة .
والإشارة الّتي في قوله : { إن أوتيتم هذا } إلى الكلم المحرّف . والإيتاء هنا : الإفادة كقوله : { وآتاه الله المُلك والحكمة } [ البقرة : 251 ] .
والأخذ : القبول ، أي إن أُجبتم بمثل ما تهوَون فاقبلوه وإن لم تجَابوه فاحذروا قبوله . وإنّما قالوا : فاحذروا ، لأنّه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم الّتي مَضَوْا عليها وفي حكّامهم الحاكمين بها .
وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل ، وعلامة ذلك التّقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه . فذلك معنى قوله : { فلَن تملك له من الله شيئاً } ، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدّعوة للنّاس كافّة .
وهذا التّركيب يدلّ على كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر مّا .
ومدلول مفرداته أنّك لا تملك ، أي لا تقدر على أقلّ شيء من الله ، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون ، لأنّ مادّة المِلك تدلّ على تمام القدرة ، قال قَيْس بن الخطيم :
مَلكتُ بها كَفِّي فأنْهَر فَتْقَهَا
أي شددت بالطعنة كفّي ، أي ملكتها بكفّي ، وقال النّبيء صلى الله عليه وسلم لعُيَينة بن حِصْن " أوَ أمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة " وفي حديث دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم عشيرته " فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً "
و { شيئاً } منصوب على المفعولية . وتنكير { شيئاً } للتقليل والتّحقير ، لأنّ الاستفهام لمّا كان بمعنى النّفي كان انتفاء ملك شيء قليلٍ مقتضياً انتفاءَ ملك الشيء الكثير بطريق الأولى .
والقول في قوله : { أولئك الّذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم } كالقول في قوله : { ومن يرد الله فتنته } . والمراد بالتطهير التهيئة لقبول الإيمان والهدَى أو أراد بالتطهير نفس قبول الإيمان .
والخزي تقدّم عند قوله تعالى : { إلاّ خزي } في سورة البقرة ( 85 ) ، وقوله : { ربنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته } في سورة آل عمران ( 192 ) .
وأعاد { سَمَّاعون للكذب } للتّأكيد وليرتّب عليه قوله { أكّالون للسحت } .
ومعنى { أكَّالون للسحت } أخَّاذون له ، لأنّ الأكل استعارة لتمام الانتفاع . والسحت بضمّ السين وسكون الحاء الشيء المسحوت ، أي المستأصل . يقال : سحته إذا استأصَله وأتلفه . سمّي به الحرام لأنّه لا يُبارك فيه لصاحبه ، فهو مسحوت وممحوق ، أي مقدّر له ذلك ، كقوله { يمحق الله الرّبا } [ البقرة : 276 ] ، قال الفرزدق :
وعَضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدع *** من المال إلاّ مُسْحَت أو مجَنَّف
والسحت يشمل جميع المال الحرام ، كالربا والرّشوة وأكل مال اليتيم والمغصوب .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو جعفر ، وخلف « سحْت » بسكون الحاء وقرأه الباقون بضمّ الحاء إتْباعاً لضمّ السّين .
{ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله حب المقسطين } .
تفريع على ما تضمّنه قوله تعالى : { سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك } وقوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } ، فإنّ ذلك دلّ على حِوار وقع بينهم في إيفاد نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحكيم في شأن من شئونهم مالت أهواؤهم إلى تغيير حكم التّوراة فيه بالتّأويل أو الكتمان ، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النّبيء صلى الله عليه وسلم ما يعتضدون به . وظاهر الشرط يقتضي أنّ الله أعلم رسوله باختلافهم في حكم حدّ الزّنا ، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون . وقد قال بذلك بعض المفسّرين فتكون هذه الآية من دلائل النّبوءة . ويحتمل أنّ المراد : فإن جاؤوك مرّة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم .
وقد خيّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم . ووجه التخيير تعارض السببين ؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكمَ بينهم ، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلاّ يعرّض الحكم النبوي للاستخفاف .
وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشقّ المقتضي أنّه يحكم بينهم إشارة إلى أنّ الحكم بينهم أولى . ويؤيّده قوله بعد { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحبّ المقسطين } أي بالحقّ ، وهو حكم الإسلام بالحدّ . وأمّا قوله : { وإن تُعرض عنهم فلن يضرّوك شيئاً } فذلك تطمين للنّبيء صلى الله عليه وسلم لئلاّ يقول في نفسه : كيف أعرض عنهم ، فيتّخذوا ذلك حجّة علينا . يقولون : ركنّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنّا فلا نسمع دعوتكم من بعد . وهذا ممّا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه يؤول إلى تنفير رؤسائِهم دهماءَهم من دعوة الإسلام فطمّنه الله تعالى بأنّه إنْ فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرّة . ولعلّ في هذا التطمين إشعاراً بأنّهم لا طمع في إيمانهم في كلّ حال . وليس المراد بالضرّ ضرّ العداوة أو الأذى لأنّ ذلك لا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم ، خلافاً لما فسّر به المفسّرون هنا .
وتنكير { شيئاً } للتحقير كما هو في أمثاله ، مثل { فلَن تملك له من الله شيئاً } وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة لأنّه في نية الإضافة إلى مصدر ، أي شيئاً من الضرّ ، فهو نائب عن المصدر . وقد تقدّم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : { ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة البقرة ( 155 ) .
والآية تقتضي تخيير حكّام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكّموهم ؛ لأنّ إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكّام مساو إباحته للرسول . واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكّام المسلمين في خصومات غير المسلمين . وقد دلّ الاستقراء على أنّ الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكّام ملّتهم ، فإذا تحاكموا إلى حكّام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكلّ ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنّه يجب الحكم بينهم ( وعلى هذا فالتخيير الذي في الآية مخصوص بالإجماع ) . وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات .
فمن العلماء من قال : حكم هذا التخيير مُحْكم غير منسوخ ، وقالوا : الآية نزلت في قصّة الرجم ( الّتي رواها مالك في الموطأ والبخاري ومن بعده ) وذلك أنّ يهودياً زنى بامرأة يهوديّة ، فقال جميعهم : لنسأل محمّداً عن ذلك . فتحاكموا إليه ، فخيّره الله تعالى . واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم : كان اليهود بالمدينة يومئذٍ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة ، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلاً تحت ذمّة الإسلام ، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام ، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم . وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار ، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فَدَك وهما يومئذٍ من دار الحرب في موادعة .
وقال الجمهور : هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضاً . وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي . قال مالك : الأعراض أولى . وقيل : لا يحكم بينهم في الحدود ، وهذا أحد قولي الشافعي . وقيل : التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، وهو قول أبي حنيفة ، وقاله ابن عبّاس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسديّ ، وعمر بن عبد العزيز ، والنخَعي ، وعطاء ، الخراساني ، ويبعده أنّ سياق الآيات يقتضي أنّها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخاً لأوّلها .
وقوله : { وإنْ حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل . والعدل : الحكم الموافق لشريعة الإسلام . وهذا يحتمل أنّ الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التّوراة لأنّها شريعة منسوخة بالإسلام . وهذا الّذي رواه مالك . وعلى هذا فالقصّة الّتي حكّموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنّه قَصَر حكمه على أن بيّن لليهود حقيقة شرعهم في التّوراة ، فاتّضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرْع الإسلام ؛ فهو حُكم على اليهود بأنّهم كتموا . ويكون مَا وقع في حديث « الموطأ » والبخاري : أنّ الرجل والمرأة رُجما ، إنّما هو بحكم أحبارهم . ويحتمل أنّ الله أمره أن يحكُم بينهم بما في التّوراة لأنّه يوافق حكم الإسلام ؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها . ويحتمل أنّ الله رخّص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكَّموه . وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي . وقائل هذا يقول : هذا نُسخ بقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، وهو قول جماعة من التّابعين . ولا داعي إلى دعوى النسخ ، ولعلّهم أرادوا به ما يشمل البيان ، كما سنذكره عند قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 48 ] .
والّذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم : أنّ الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام ، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم . ولذلك فالأمور الّتي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام :
القسم الأوّل : ما هو خاصّ بذات الذمّيّ من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها ممّا هو من الحلال والحرام . وهذا لا اختلاف بين العلماء في أنّ أيمّة المسلمين لا يتعرّضون لهم بتعطيله إلاّ إذا كان فيه فساد عامّ كقتل النّفس .
القسم الثّاني : ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام ، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال الّتي يستحلّونها ويحرّمها الإسلام . وهذه أيضاً يقرّون عليها ، قال مالك : لا يقام حَدّ الزنا على الذميّين ، فإن زنى مسلم بكتابية يحدّ المسلم ولا تحدّ الكتابية . قال ابن خُويز منداد : ولا يُرسل الإمام إليهم رسولاً ولا يُحضِر الخصمَ مجلسه .
القسم الثّالث : ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض . وقد أجمع علماء الأمّة على أنّ هذا القسم يجري على أحكام الإسلام ، لأنّا لم نعاهدهم على الفسادِ ، وقد قال تعالى : { والله لا يحبّ الفساد } [ البقرة : 205 ] ، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرّمات .
القسم الرّابع : ما يجري بينهم من المعاملات الّتي فيها اعتداء بعضهم على بعض : كالجنايات ، والديون ، وتخاصم الزوجين . فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرّض لهم ، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين . فقال مالك : يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوباً ، لأنّ في الاعتداء ضرباً من الظلم والفساد ، وكذلك قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمّد ، وزفر . وقال أبو حنيفة : لا يَحكم بينهم حتّى يتراضى الخصمان معاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سماعون}: قوالون {للكذب}: للزور.
{أكالون للسحت}: الرشوة في الحكم، كانت اليهود قد جعلت لهم جعلا في كل سنة، على أن يقضوا لهم بالجور.
{فإن جاءوك} يا محمد في الرجم، {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}: بالعدل. {إن الله يحب المقسطين} [آية:42]، يعني الذين يعدلون في الحكم، ثم نسختها الآية التي جاءت بعد، وهي قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} إليك في الكتاب أن الرجم على المحصن والمحصنة، ولا ترد الحكم، {ولا تتبع أهواءهم}...
لم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالمدينة وادع يهود كافة على غير جزية، وأن قول الله عز وجل: {فَإِن جَاءوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمُ أَوَ اَعْرِضْ عَنْهُمْ} أنما نزلت في اليهود الموادعين الذين لم يعطوا جزية، ولم يقروا بأن يجري عليهم الحكم. وقال البعض: نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، والذي قالوا يشبه ما قالوا لقول الله عز وجل: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيهَا حُكْمُ اَللَّهِ} وقوله تبارك وتعالى: {وَأَنُ اَحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَلا تَتَّبِعَ اَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمُ أَنْ يَّفْتِنُوكَ}: يعني ـ والله تعالى أعلم ـ أن يتولوا عن حكمك بغير رضاهم، وهذا يشبه أن يكون ممن أتى حاكما غير مقهور على الحكم.
والذين حاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منهم ورجل زنيا موادعون، وكان في التوراة الرجم، ورجوا أن لا يكون من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجم، فجاءوا بهما فرجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هؤلاء اليهود الذين وصفت لك يا محمد صفتَهم، سَمَّاعون لقِيل الباطل والكذب، ومن قيل بعضهم لبعض: محمد كاذب، ليس بنبيّ، وقِيل بعضهم: إن حكم الزاني المحصَن في التوراة الجلد والتحميم، وغير ذلك من الأباطيل والإفك، ويقبلون الرشا، فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه عن قتادة: "سَمّاعُونَ للكَذِبِ أكّالُونَ للسّحْتِ "قال: كان هذا في حكام اليهود بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرشا... عن مسروق، قال: سألت عبد الله عن السحت، فقال: الرجل يطلب الحاجة فيقضيها، فيهدي إليه فيقبلها...
وأصل السحت: كلَب الجوع، يقال منه: فلان مسحوت المعدة: إذا كان أكولاً لا يُلَفى أبدا إلا جائعا. وإنما قيل للرّشوة السحت، تشيبها بذلك كأن بالمسترشِي من الشره إلى أخذ ما يُعطاه من ذلك مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشره إلى الطعام...
"فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ": إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد، وهم قوم المرأة البغية، محتكمين إليك، فاحكم بينهم إن شئت بالحقّ الذي جعله الله حكما له، فيمن فعَل فِعْل المرأة البغية منهم، أو أعرض عنهم، فدع الحكم بينهم إن شئت والخيار إليك في ذلك.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قتيل قتل في يهود منهم قتله بعضهم. عن ابن عباس: أن الآيات في المائدة، قوله: "فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُم..." إلى قوله: المُقْسِطِينَ" إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدّى الدية كاملة، وإن قريظة كانوا يؤدّون نصف الدية. فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقّ في ذلك، فجعل الدية في ذاك سواء. والله أعلم أيّ ذلك كان...
ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية؛ هل هو ثابت اليوم، وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمة والعهد إذا احتكموا إليهم مثل الذي جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية، أم ذلك منسوخ؟ فقال بعضهم: ذلك ثابت اليوم لم ينسخه شيء، وللحكام من الخيار في كل دهر بهذه الآية مثل ما جعله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل التخيير منسوخ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم بالحقّ، وليس له ترك النظر بينهم... عن السديّ، قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها "وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ".
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابت لم ينسخ، وإن للحكام من الخيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا وترك الحكم بينهم والنظر مثل الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية.
وإنما قلنا: ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين أن حكم هذه الآية منسوخ زعموا أنه نسخ بقوله: "وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ"، وقد دللنا في كتابنا: «كتاب البيان عن أصول الأحكام» أن النسخ لا يكون نسخا إلا ما كان نفيا لحكم غيره بكلّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعا على صحته بوجه من الوجوه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ومعناه: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذ حكمت بينهم باختيارك الحكم بينهم إذا اخترت ذلك ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدم إعلام المقول له ذلك من قائله أن له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلوما بذلك أن لا دلالة في قوله: "وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ" أنه ناسخ قوله: "فإنْ جاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ وَإنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرّوكَ شَيْئا وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ" لما وصفنا من احتمال ذلك ما بينا، بل هو دليل على مثل الذي دلّ عليه قوله: "وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ". وإذا لم يكن في ظاهر التنزيل دليل على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكمَ الآخر، ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يصحّ بأن أحدهما ناسخ صاحبه، ولا من المسلمين على ذلك إجماع، صحّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيد أحدهما صاحبه ويوافق حكمه حكمه ولا نسخ في أحدهما للآخر.
"وَإنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرّوكَ شَيْئا": وإن تعرض يا محمد عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب فتدع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك، فلا تحكم فيه بينهم، فلن يضرّوك شيئا، يقول: فلن يقدروا لك على ضرّ في دين ولا دنيا، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم.
"وَإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ": وإن اخترت الحكم والنظر يا محمد بين أهل العهد إذا أتوك، فاحكم بينهم بالقسط، وهو العدل، وذلك هو الحكم بما جعله الله حكما في مثله على جميع خلقه من أمة نبينا صلى الله عليه وسلم.
"إنّ اللّهَ يُحِبّ المُقْسِطِينَ": إن الله يحبّ العاملين في حكمه بين الناس، القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمر أنبياءه صلوات الله عليهم، يقال منه: أقسط الحاكم في حكمه إذا عدل وقضى بالحقّ. وأما قسط فمعناه: الجور، ومنه قول الله تعالى: "وأمّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنّمَ حَطَبا" يعني بذلك: الجائرين على الحقّ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر التحريف، ذكر أثره وهو الحكم به فقال مكرراً لوصفهم زيادة في توبيخهم وتقبيح شأنهم: {سمّاعون} أي هم في غاية الشهوة والانهماك في سماعهم ذلك {للكذب أكّالون} أي على وجه المبالغة {للسحت} أي الحرام الذي يسحت البركة أي يستأصلها، وهو كل ما لا يحل كسبه، وذلك أخذهم الرشى ليحكموا بالباطل على نحو ما حرفوه وغيره من كلام الله، قال الشيخ أبو العباس المرسي: ومن آثر من الفقراء السماع لهواه، وأكل ما حرمه مولاه، فقد استهوته نزعة يهودية، فإن القوال يذكر العشق والمحبة والوجد، وما عنده منها شيء.
ولما كانوا قد يأخذون الرشوة ولا يقدرون على إبرام الحكم بما أرادوه، فيطمعون في أن يفعلوا ذلك بواسطة ترافعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيترافعون إليه، فإن حكم بينهم بما أرادوا قبلوه واحتجوا به على من لعله يخالفهم، وإن حكم بما لم يريدوه قالوا: ليس هذا في ديننا -طمعاً في أن يخليهم فلا يلزمهم بما حكم، أعلمه الله تعالى بما يفعل في أمرهم، وحذره غوائل مكرهم، فقال مفوضاً الخيرة إليه في أمر المعاهدين إلى مدة- وأما أهل الجزية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلى حاكمنا -مسبباً عن أكلهم الحرام وسماعهم الكذب}: فإن جاءوك {أي طمعاً في أن تؤتيهم ما حرفوا إليه الكلم {فاحكم بينهم} أي إن شئت بما أنزل الله عليك من الحق {أو اعرض عنهم} أي كذلك.
ولما كان قوله: {وإن} دالاً بعطفه على غير معطوف عليه أن التقدير: فإن حكمت بينهم لم ينفعوك شيئاً لإقبالك عليهم، قال: وإن {تعرض عنهم} أي الكفرة كلهم من المصارحين والمنافقين {فلن يضروك شيئاً} أي لإعراضك عنهم واستهانتك بهم.
ولما كان هذا التخيير غير مراد الظاهر في جواز الحكم بينهم عند الترافع إلينا وعدمه، بل معناه عدم المبالاة بهم، أعرض عنهم أولاً، فحقيقته بيان العاقبة على تقديري الفعل والترك، علَّمه كيف يحكم بينهم، فقال عاطفاً على ما قدرته: {وإن حكمت} أي فيهم {فاحكم} أي أوقع الحكم {بينهم بالقسط} أي العدل الذي أراكه الله- على أن الآية ليست في أهل الذمة، والحكم في ترافع الكفار إلينا أنه كان منهم أو من أحدهم التزام لأحكامنا أم منا التزام للذب عنهم وجب، لقوله تعالى {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} وإلا لم يجب، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المقسطين} أي الفاعلين للعدل السوي من غير حيف أصلاً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم قال في وصفهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أعاد وصفهم بكثرة سماع الكذب لتأكيد ما قبله، والتمهيد لما بعده – كما قالوا-: والإعادة للتأكيد وتقرير المعنى، وإفادة اهتمام المتكلم به، مما ينبعث عن الغريزة، ويعرف التأثير والتأثر به من الطبيعة، ولعله عام في جميع لغات البشر. وإذا قلنا إن اللام في الآية الأولى للتعليل، وفي هذه الآية للتقوية، ينتفي التكرار، إذ المعنى هناك: يسمعون كلام الرسول والمؤمنين لأجل أن يجدوا مجالا للكذب ينفرون الناس به من الإسلام، والمعنى هنا أنهم يسمع بعضهم الكذب من بعض سماع قبول، فهم يكذب بعضهم على بعض كما يكذبون على غيرهم، ويقبل بعضهم الكذب من بعض. فأمرهم كله مبني على الكذب، الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد. وهكذا شأن الأمم الذليلة المهينة، تلوذ بالكذب في كل أمر، وترى أنها تدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر.
وكذلك يفشو فيها أكل السحت، لأنها تعيش بالمحاباة، وتألف الدناءة وتؤثر الباطل على الحق. فسر ابن مسعود السحت بالرشوة في الدين، وابن عباس بالرشوة في الحكم، وعلي بالرشوة مطلقا، قيل له: الرشوة في الحكم؟ قال: ذلك الكفر. وقال عمر: بابان من السحت يأكلهما الناس – الرشا في الحكم ومهر الزانية. فأفاد أن السحت أعم من الرشوة ومن فسره بالرشوة المطلقة أو المقيدة فقد أراد به أنه المراد من الآية باعتبار نزولها في أحبار اليهود ورؤسائهم لا المعنى اللغوي العام. وقيل: السحت الحرام مطلقا، أو الربا، أو الحرام الذي فيه عار ودناءة كالرشوة. واختلف علماء العربية في معناه الأصلي الذي اختير هذا اللفظ لأجله. فقال الزجاج هو من سحته وأسحته بمعنى استأصله بالهلاك، ومنه قوله تعالى: {قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب} [طه:61] فعلى هذا يكون المراد بالسحت ما يسحت الدين والشرف لقبحه وضرره، أو لسوء عاقبته وأثره. وقال الفراء: أصل السحت شدة الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يكاد يرى إلا جائعا. وعلى هذا يكون المراد به الحرام أو الكسب الدنيء الذي يحمل عليه الشره.
قرأ ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة السحت بضم السين وفتح الحاء والباقون بضمهما معا. السحت والسحت كل حرام قبيح الذكر، وقيل ما خبث من المكاسب وحرم فلزم عنه العار وقبيح الذكر، كثمن الكلب والخمر والخنزير. وسحت الشيء يسحته (كفتح يفتح) قشره قليلا، وسحت الشحم عن اللحم قشرته عنه مثل سخفته... وقال اللحياني سحت رأسه سحتا وأسحته استأصله حلقا. وأسحت ماله استأصله وأفسده. – إلى أن قال – والسحت (بالفتح) شدة الأكل والشرب، ورجل سحت (بالضم) وسحيت ومسحوت: رغيب واسع الجوف لا يشبع. اه المراد من اللسان. فعلم منه أن أصل معنى السحت إزالة القشر عن العود بالتدريج وما في معناه كحلق الشعر، ومن العرب من لا يقول: اسحت الشيء. إلا إذا استأصله بالقشر. ويمكن إرجاع معنى عدم الشبع إلى هذا المعنى كأن المعدة لسرعة هضمها تستأصل الطعام. وسمي الكسب الخسيس والحرام سحتا لأنه يستأصل المروءة أو الدين، والرشوة تستأصل الثروة، وتفسد أم المعاملة، وتستبدل الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم في عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من الرشوة وغيرها من الخسائس، كدأب سائر الأمم في عهد فسادها وانحطاطها، وقد صارت حالهم الآن أحسن من حال كثير من الذين يعيبونهم بما كان من سلفهم.
ومن عجائب غفلة البشر عن أنفسهم أن يعيبك أحدهم بنقيصة ينسبها إلى أحد أجدادك الغابرين، على علم منه بأنك عار عنها، أو متصف بالمحمدة التي هي ضدها، وهو متصف بنقيصة جدك التي يعيبك بها! فإن كثيرا ممن يعدهم المسلمون من أحبارهم ورؤساء الدين فيهم، وكثيرا من حكامهم الشرعيين والسياسيين يكذبون كثيرا ويقبلون الكذب ويأكلون السحت، حتى أنهم يأخذون الرشوة من طلبة العلم ليشهدوا لهم زورا بأنهم صاروا من العلماء الأعلام، ويعطونهم ما يسمونه (شهادة العلمية) كما يمنحهم حكامهم الرتب العلمية. وقد تجرأ بعض طلبة الأزهر مرة على شيخنا الأستاذ الإمام فعرض عليه ثلاثين جنيها ليساعده في امتحان شهادة العالمية لعلمه بأنه غير مستعد للامتحان ولا أهل للشهادة، فلم يملك الأستاذ نفسه من الانفعال أن ضربه ضربا موجعا، وقال: أتطلب في هذه السن أن أغش المسلمين بك لتفسد عليهم دينهم بجهلك، بهذه الجنيهات الحقيرة في نظري العظيمة في نظرك، وأنا الذي لم أتدنس في عمري حتى ولا بقبول الهدية ممن أنقذتهم من الموت؟. ولو كنت ممن يتساهل في هذا لكنت من أوسع الناس ثروة. أو ما هذا مؤداه.
{فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم. وقد اختلف العلماء في هذا التخيير: أهو خاص بتلك الواقعة التي نزلت فيها الآية، وهي حد الزنا هل هو الجلد أو الرجم، أو دية القتيل، إذ كان بنو النضير يأخذون دية كاملة على قتلاهم لقوتهم وشرفهم، وبنو قريظة يأخذون نصف الدية لضعفهم، وقد تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل الدية سواء أم هوة خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة وغيرهم، إذ كان أولئك اليهود معاهدين، أم الآية عامة في جميع القضايا من جميع الكفار، عملا بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ المرجح المختار من الأقوال في الآية أن التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة. وعلى هذا لا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم في بلادهم وإن تحاكموا إليهم، بل هم مخيرون، يرجحون في كل وقت ما يرون فيه مصلحة. وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا. وليس في الآية نسخ كما قال بعض من زعم أنها عامة في جميع الكفار، وقد نسخ من عمومها التخيير في الحكم بين الذميين. قال بعضهم إن التخيير منسوخ بقوله تعالى في هذا السياق {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ} [المائدة: 49] ونقول لا يعقل أن تنزل آيات في سياق واحد كما هو ظاهر في هذه الآيات فيكون بعضها ناسخا لبعض. وإنما تلك الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله من القسط. وسيأتي بيان ذلك.
{وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا} أي وإن اخترت الإعراض عنهم، فأعرضت ولم تحكم بينهم، فلن يستطيعوا أن يضروك شيئا من الضر، وإن ساءتهم الخيبة، وفاتهم ما يرجون من خفة الحكم وسهولته. ولعل هذا تعليل للتخيير. {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي وإن اخترت الحكم فاحكم بينهم بالقسط أي العدل لا بما يبغون. وقد شرحنا معناه اللغوي وبينا ما عظم الله من أمره في القيام به والشهادة به في تفسير الآية 134 من سورة النساء ج5 تفسير) والآية التاسعة من هذه السورة. والمقسطون هم المقيمون للقسط بالحكم به أو الشهادة أو غير ذلك. وفصلنا القول في الحكم بالعدل في تفسير {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58] فيراجع في المنار أو (ص 174-175 من ج 5 تفسير).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي في بيان حال القوم، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك، قبل أن يبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين:
(سماعون للكذب، أكالون للسحت. فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً. وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين)..
كرر أنهم سماعون للكذب. مما يشي بأن هذه أصبحت خصله لهم.. تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل، وتنقبض لسماع لحق والصدق.. وهذه طبيعة القلوب حين تفسد، وعادة الأرواح حين تنطمس.. ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات.. وما أروج الباطل في هذه الآونة وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة!
وهؤلاء: سماعون للكذب. أكالون للسحت.. والسحت كل مال حرام.. والربا والرشوة وثمن الكلمة والفتوى! في مقدمة ما كانوا يأكلون، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان! وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركة ويمحقها. وما أشد انقطاع البركة وزوالها من المجتمعات المنحرفة. كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله.
ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه -فإن شاء أعرض عنهم- ولن يضروه شيئاً -وإن شاء حكم بينهم. فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط، غير متأثر بأهوائهم، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم..
والرسول صلى الله عليه وسلم والحاكم المسلم، والقاضي المسلم، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن؛ وإنما يقوم بالقسط لله. لأن الله يحب المقسطين. فإذا ظلم الناس وإذا خانوا، وإذا انحرفوا، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم. لأنه ليس عدلاً لهم؛ وإنما هو لله.. وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام، في كل مكان وفي كل زمان.
وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر. إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتمياً. فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله. وأهلها جميعاً ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة. مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام؛ وهو ألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام؛ وعلى ما يختص بالنظام العام. فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم، كامتلاك الخنزير وأكله، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم. ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم. وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا. كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعاً: مسلمين وغير مسلمين. فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام...
وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..والسمَّاع: الكثيرُ السمع، أي الاستماعِ لما يقال له. والسَّمع مستعمل في حقيقته، أي أنّهم يُصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كَذِبا، أي أنّهم يحفلون بذلك ويتطلّبونه فيكثر سماعهم إيّاه. وفي هذا كناية عن تفشّي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق، لأنّ كثرة السمع تستلزم كثرة القول. والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أنّ حكم الزّنى في التّوراة التّحميمُ.
.. وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل، وعلامة ذلك التّقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه. فذلك معنى قوله: {فلَن تملك له من الله شيئاً}، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدّعوة للنّاس كافّة.
وهذا التّركيب يدلّ على كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر مّا.
ومدلول مفرداته أنّك لا تملك، أي لا تقدر على أقلّ شيء من الله، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون، لأنّ مادّة المِلك تدلّ على تمام القدرة.
وقد خيّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم. ووجه التخيير تعارض السببين؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكمَ بينهم، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلاّ يعرّض الحكم النبوي للاستخفاف.
وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشقّ المقتضي أنّه يحكم بينهم إشارة إلى أنّ الحكم بينهم أولى. ويؤيّده قوله بعد {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحبّ المقسطين} أي بالحقّ، وهو حكم الإسلام بالحدّ. وأمّا قوله: {وإن تُعرض عنهم فلن يضرّوك شيئاً} فذلك تطمين للنّبيء صلى الله عليه وسلم لئلاّ يقول في نفسه: كيف أعرض عنهم، فيتّخذوا ذلك حجّة علينا. يقولون: ركنّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنّا فلا نسمع دعوتكم من بعد. وهذا ممّا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه يؤول إلى تنفير رؤسائِهم دهماءَهم من دعوة الإسلام فطمّنه الله تعالى بأنّه إنْ فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرّة. ولعلّ في هذا التطمين إشعاراً بأنّهم لا طمع في إيمانهم في كلّ حال. وليس المراد بالضرّ ضرّ العداوة أو الأذى لأنّ ذلك لا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم، خلافاً لما فسّر به المفسّرون هنا.
وتنكير {شيئاً} للتحقير كما هو في أمثاله، مثل {فلَن تملك له من الله شيئاً} وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة لأنّه في نية الإضافة إلى مصدر، أي شيئاً من الضرّ، فهو نائب عن المصدر. وقد تقدّم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: {ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع} في سورة البقرة (155).
والآية تقتضي تخيير حكّام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكّموهم؛ لأنّ إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكّام مساو إباحته للرسول. واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكّام المسلمين في خصومات غير المسلمين. وقد دلّ الاستقراء على أنّ الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكّام ملّتهم، فإذا تحاكموا إلى حكّام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكلّ ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنّه يجب الحكم بينهم (وعلى هذا فالتخيير الذي في الآية مخصوص بالإجماع). وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات.
فمن العلماء من قال: حكم هذا التخيير مُحْكم غير منسوخ، وقالوا: الآية نزلت في قصّة الرجم (الّتي رواها مالك في الموطأ والبخاري ومن بعده) وذلك أنّ يهودياً زنى بامرأة يهوديّة، فقال جميعهم: لنسأل محمّداً عن ذلك. فتحاكموا إليه، فخيّره الله تعالى. واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم: كان اليهود بالمدينة يومئذٍ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلاً تحت ذمّة الإسلام، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم. وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فَدَك وهما يومئذٍ من دار الحرب في موادعة.
وقال الجمهور: هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضاً. وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي. قال مالك: الأعراض أولى. وقيل: لا يحكم بينهم في الحدود، وهذا أحد قولي الشافعي. وقيل: التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]، وهو قول أبي حنيفة، وقاله ابن عبّاس، ومجاهد، وعكرمة، والسديّ، وعمر بن عبد العزيز، والنخَعي، وعطاء، الخراساني، ويبعده أنّ سياق الآيات يقتضي أنّها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخاً لأوّلها.
وقوله: {وإنْ حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط} أي بالعدل. والعدل: الحكم الموافق لشريعة الإسلام. وهذا يحتمل أنّ الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التّوراة لأنّها شريعة منسوخة بالإسلام. وهذا الّذي رواه مالك. وعلى هذا فالقصّة الّتي حكّموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنّه قَصَر حكمه على أن بيّن لليهود حقيقة شرعهم في التّوراة، فاتّضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرْع الإسلام؛ فهو حُكم على اليهود بأنّهم كتموا. ويكون مَا وقع في حديث « الموطأ» والبخاري: أنّ الرجل والمرأة رُجما، إنّما هو بحكم أحبارهم. ويحتمل أنّ الله أمره أن يحكُم بينهم بما في التّوراة لأنّه يوافق حكم الإسلام؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها. ويحتمل أنّ الله رخّص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكَّموه. وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي. وقائل هذا يقول: هذا نُسخ بقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]، وهو قول جماعة من التّابعين. ولا داعي إلى دعوى النسخ، ولعلّهم أرادوا به ما يشمل البيان، كما سنذكره عند قوله: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 48].
والّذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم: أنّ الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم. ولذلك فالأمور الّتي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأوّل: ما هو خاصّ بذات الذمّيّ من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها ممّا هو من الحلال والحرام. وهذا لا اختلاف بين العلماء في أنّ أيمّة المسلمين لا يتعرّضون لهم بتعطيله إلاّ إذا كان فيه فساد عامّ كقتل النّفس.
القسم الثّاني: ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال الّتي يستحلّونها ويحرّمها الإسلام. وهذه أيضاً يقرّون عليها، قال مالك: لا يقام حَدّ الزنا على الذميّين، فإن زنى مسلم بكتابية يحدّ المسلم ولا تحدّ الكتابية. قال ابن خُويز منداد: ولا يُرسل الإمام إليهم رسولاً ولا يُحضِر الخصمَ مجلسه.
القسم الثّالث: ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض. وقد أجمع علماء الأمّة على أنّ هذا القسم يجري على أحكام الإسلام، لأنّا لم نعاهدهم على الفسادِ، وقد قال تعالى: {والله لا يحبّ الفساد} [البقرة: 205]، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرّمات.
القسم الرّابع: ما يجري بينهم من المعاملات الّتي فيها اعتداء بعضهم على بعض: كالجنايات، والديون، وتخاصم الزوجين. فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرّض لهم، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين. فقال مالك: يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوباً، لأنّ في الاعتداء ضرباً من الظلم والفساد، وكذلك قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمّد، وزفر. وقال أبو حنيفة: لا يَحكم بينهم حتّى يتراضى الخصمان معاً.