ثم لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد به على أهل الكتاب إذا ما جادلوه أو خاصموه ليحسم الأمر معهم ومع غيرهم من المشركين وليمضي فى طريقه الواضح المستقيم فقال - تعالى - { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } .
وقوله { حَآجُّوكَ } من المحاجة وهى أن يتبادل المتجادلان الحجة ، بأن يقدم كل واحد حجته ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعم أنه الحق الذى لا شك فيه .
والمعنى : فإن جادلك - يا محمد - أهل الكتاب ومن لف لفهم بالأقاويل المزورة والمغالطات الباطلة بعد أن قامت الحجج على صدقك . فلا تسر معهم في لجاجتهم ، ولا تلتفت إلى أكاذيبهم ، بل قل لهم { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } أى أخلصت عبادتي لله وحده ، وأطعته وانقدت له ، وكذلك من اتبعنى وآمن بى قد أسلم وجهه له وأخلص له العبادة .
والمراد بالوجه هنا الذات ، وعبر بالوجه عن سائر الذات لأنه أشرف أعضاء الشخص ، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة ، وهو مجمع محاسن الجسم فالتعبير به عن الجسم كله تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل .
و { وَمَنِ } في قوله { وَمَنِ اتبعن } في محل رفع عطفا على الضمير المتصل في { أَسْلَمْتُ } أى أسلمت أنا ومن اتبعنى ، وجاء العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد لوجود الفاصل بينهما .
وقوله { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ } عطف على الجملة الشرطية ، والمراد بالأميين الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب .
والاستفهام فى قوله { أَأَسْلَمْتُمْ } للحض على أن يسلموا وجوههم لله ، ويتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم كما اتبعه المسلمون .
والمعنى : فإن جادلوك في الدين - يا محمد - بعد أن تبين لكل عاقل صدقك ، فقل لهؤلاء المعاندين إني أسلمت وجهي لله وكذلك أتباعي أسلموا وجوههم لله ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلموا تسلموا فقد تبين لكن أني على حق ، ومن شأن العاقل أنه إذا تبين له الحق أن يدخل فيه وأن يترك العناد والمكابرة .
قال صاحب الكشاف : وقوله { أَأَسْلَمْتُمْ } يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان طريقا إلا سلكته : هل فهمتها لا أم لك . ومنه قوله - تعالى - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر . وفي هذا الاستفهام استقصار - أى عد المخاطب قاصرا - وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف في إذعانه للحق .
ثم بين - سبحانه - ما يترتب على إسلامهم من نتائج ، وما يترتب على إعراضهم من شرور تعود عليهم فقال : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ والله بَصِيرٌ بالعباد } .
أى : فإن أسلموا وجوههم لله وصدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد اهتدوا إلى طريق الحق ، لأن هذا الإسلام هو الدين الذى ارتضاه الله للناس وإن أعرضوا عن هذا الطريق المستقيم ، فإن إعراضهم لن يضرك - أيها الرسول الكريم - لأن الذى عليك إنما هو تبليغ الناس ما أمرك الله بتبليغه إياهم . وهو - سبحانه - بصير بخلقه لا تخفى عليه خافية من أقوالهم أو أفعالهم ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه .
وعبر بالماضى فى قوله { فَقَدِ اهتدوا } مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وقوله { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } قائم مقام جواب الشرط أى وإن تولوا لا يضرك توليهم شيئا إذا ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه .
وقوله { والله بَصِيرٌ بالعباد } تذييل فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم عن كفرهم ، وإشارة إلى أحوالهم ، وإنذار بسوء مصيرهم ، لأنه - سبحانه - عليم بنفوس الناس جميعا وسيجازى كل إنسان بما يستحقه ، وفيه كذلك وعد للمؤمنين بحسن العاقبة ، وجزيل الثواب .
قال ابن كثير : وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة فى غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله - تعالى - { قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وقال - تعالى - { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بنى آدم من عربهم وعجمهم ، كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك ، فعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذى نفسي بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهدى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أهل النار " .
وقال صلى الله عليه وسلم " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقال : " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " وعن أنس - رضى الله عنه - أن غلاما يهوديا كان يضع للنبى صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض . فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه ، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : " يا فلان قل لا إله إلا الله ، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم القول . فنظر إلى أبيه ، فقال له أبوه أطع أبا القاسم . فقال الغلام أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذى أخرجه بي من النار " رواه البخاري في الصحيح . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد بينت للناس في كل زمان ومكان أن دين الإسلام هو الدين الحق الذى ارتضاه الله لعباده وشهد بذلك خالق هذا الكون - عز وجل - وكفى بشهادته شهادة كما شهد بذلك الملائكة المقربون والعلماء المخلصون . كما بينت أن كثيرا من الذين أوتوا الكتاب يعلمون هذه الحقيقة ولكنهم يكتمونها ظلما وبغيا ، كما بينت - أيضاً - أن الذين يدخلون فى هذا الدين يكونون بدخولهم قد اهتدوا إلى الطريق القويم ، وأن الذين يعرضون عنه سيعاقبون بما يستحقونه بسبب هذا الإعراض عن الحق المبين .
ثم لقن نبيه [ ص ] فصل الخطاب في موقفه من أهل الكتاب والمشركين جميعا . ليحسم الأمر معهم عن بينة ، ويدع أمرهم بعد ذلك لله ، ويمضي في طريقه الواضح متميزا متفردا :
( فإن حاجوك فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا . وإن تولوا فإنما عليك البلاغ . والله بصير بالعباد )
إنه لا سبيل إلى مزيد من الإيضاح بعد ما تقدم . فإما اعتراف بوحدة الألوهية والقوامة ، وإذن فلا بد من الإسلام والاتباع . وإما مماحكة ومداورة . وإذن فلا توحيد ولا إسلام .
ومن ثم يلقن الله - تعالى - رسوله [ ص ] كلمة واحدة تبين عقيدته كما تبين منهج حياته :
( فإن حاجوك )- أي في التوحيد وفي الدين - ( فقل : أسلمت وجهي لله ) أنا ( ومن اتبعن ) . . والتعبير بالاتباع ذو مغزى هنا . فليس هو مجرد التصديق . إنما هو الأتباع . كما أن التعبير بالإسلام الوجه ذو مغزىكذلك . فليس هو مجرد النطق باللسان أو الاعتقاد بالجنان . إنما هو كذلك الاستسلام . استسلام الطاعة والاتباع . . وإسلام الوجه كناية عن هذا الاستسلام . والوجه أعلى وأكرم ما في الإنسان . فهي صورة الانقياد الطائع الخاضع المتبع المستجيب .
هذا اعتقاد محمد [ ص ] ومنهج حياته . والمسلمون متبعوه ومقلدوه في اعتقاده ومنهج حياته . . فليسأل إذن أهل الكتاب والأميين سؤال التبين والتمييز ووضع الشارة المميزة للمعسكرين على وضوح لا اختلاط فيه ولا اشتباه :
( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ؟ ) . .
فهم سواء . هؤلاء وهؤلاء . المشركون وأهل الكتاب هم مدعوون إلى الإسلام بمعناه الذي شرحناه . مدعوون للإقرار بتوحيد ذات الله ، ووحدة الألوهية ووحدة القوامة . مدعوون بعد هذا الإقرار إلى الخضوع لمقتضاه . وهو تحكيم كتاب الله ونهجه في الحياة .
فالهدى يتمثل في صورة واحدة . هي صورة الإسلام . بحقيقته تلك وطبيعته . وليس هنالك صورة أخرى ، ولا تصور آخر ، ولا وضع آخر ، ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء . . إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء . .
( وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ) . .
فعند البلاغ تنتهي تبعة الرسول وينتهي عمله . وكان هذا قبل أن يأمره الله بقتال من لا يقبلون الإسلام حتى ينتهوا : إما إلى اعتناق الدين والخضوع للنظام الذي يتمثل فيه . وإما إلى التعهد فقط بالطاعة للنظام في صورة أداء الجزية . . حيث لا إكراه على الاعتقاد . .