التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ . . . }

في هذه الآيات الكريمة عطف - سبحانه - قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .

وإذ وإذا ظرفان للزمان ، الأول للماضي والثاني للمستقبل ، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد الماضي كقوله : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ . . . } وإن جاء إذا مع الماضي أفاد الاستقبال كقوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام . والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحاً به في آيات أخرى كما قال تعالى :

{ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } والملائكة جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملأك ، من ملك ، نحو شمال من شمل ، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك ، وقيل : إن ملاك من لأك إذا أرسل ، ومنه الألوكة ، أي : الرسالة .

والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة . قال تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } وقال تعالى : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } وقال-تعالى - { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } و ( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض ، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل . وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة .

ثم حكى - سبحانه - إجابة الملائكة فقال : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .

الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .

والسفك : الصب والإِهراق ، يقال : سفكت الدم والدمع سفكاً - من باب ضرب - صببته . والفاعل سافك وسفاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .

والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .

والتقديس : التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال .

فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية . والمعنى : أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .

وقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ } إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا . والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه . قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله - تعالى - { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا ؟

وقد رد الله - تعالى - على الملائكة بقوله : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله .

فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق - عز وجل - وتنبيه إلى أنه - تعالى - عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء ، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .

قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلو على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

قال أبو جعفر : زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن تأويل قوله : وَإذْ قَالَ رَبكَ وقال ربك ، وأن «إذ » من الحروف الزوائد ، وأن معناها الحذف . واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يعفر :

فإذَا وَذَلِكَ لامَهاهَ لِذِكْرِهِ وَالدّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحا بِفَسادِ

ثم قال : ومعناها : وذلك لامهاه لذكره . وببيت عبد مناف بن ربع الهذلي :

حَتّى إذَا أسْلَكُوهُمْ في قُتائِدَةٍ *** شَلاّ كمَا تَطْرُدُ الجَمّالَةُ الشّرُدَا

وقال : معناه : حتى أسلكوهم .

قال أبو جعفر : والأمر في ذلك بخلاف ما قال وذلك أن «إذ » حرف يأتي بمعنى الجزاء ، ويدل على مجهول من الوقت ، وغير جائز إبطال حرف كان دليلاً على معنى في الكلام . إذ سواء قيلُ قائلٍ هو بمعنى التطوّل ، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم . وقيلُ آخر في جميع الكلام الذي نطق به دليلاً على ما أريد به وهو بمعنى التطول . وليس لمدّعي الذي وصفنا قوله في بيت الأسود بن يعفر ، أن «إذا » بمعنى التطوّل وجه مفهوم بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله :

فإذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرِهِ

وذلك أنه أراد بقوله : فإذا الذي نحن فيه ، وما مضى من عيشنا . وأشار بقوله ذلك إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه لامهاه لذكره ، يعني لا طعم له ولا فضل ، لإعقاب الدهر صالح ذلك بفساد . وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع :

حتّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدَةٍ شَلاّ

لو أسقط منه «إذا » بطل معنى الكلام لأن معناه : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلاّ . فدل قوله : «أسلكوهم شلاّ » على معنى المحذوف ، فاستغنى عن ذكره بدلالة «إذا » عليه ، فحذف . كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل العرب في نظائر ذلك ، وكما قال النمر بن تولب :

فإنّ المَنِيّةَ مَنْ يَخْشَهَا *** فَسَوْفَ تُصَادِفُه أيْنما

وهو يريد : أينما ذهب . وكما تقول العرب : أتيتك من قبل ومن بعد تريد : من قبل ذلك ومن بعد ذلك . فكذلك ذلك في «إذا » كما يقول القائل : إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا فلا يريد : وإذا لم يكرمك فلا تكرمه . ومن ذلك قول الاَخر :

فَإِذَا وَذَلِكَ لا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ . . . فِي يَوْم أسألُ نَائِلا أو أنْكَدُ

نظير ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر . وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : وَإذْ قالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَة لو أبطلت «إذ » وحذفت من الكلام ، لاستحال عن معناه الذي هو به وفيه «إذ » .

فإن قال قائل : فما معنى ذلك ؟ وما الجالب ل«إذْ » ، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه ؟ قيل له : قد ذكرنا فيما مضى أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ بهذه الاَيات والتي بعدها موبخهم مقبحا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم ، ومذكرهم بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم بأسه أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصية الله ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته ومعرّفهم ما كان منه من تعطفه على التائب منهم استعتابا منه لهم . فكان مما عدد من نعمه عليهم ، أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، وسخر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع ، فكان في قوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنْتُمْ أمْواتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ معنى : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئا ، وخلقت لكم ما في الأرض جميعا ، وسوّيت لكم ما في السماء . ثم عطف بقوله : وَإذْ قالَ رَبكَ للمَلائِكَةِ على المعنى المقتضَى بقوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله : اذكروا نعمتي إذْ فعلت بكم وفعلت ، واذكروا فعلى بأبيكم آدم ، إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .

فإن قال قائل : فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت ؟ قيل : نعم ، أكثر من أن يحصى ، من ذلك قول الشاعر :

أجِدّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلَباتٍ وَلا بَيْدَانَ ناجيَةً ذَمُولاَ

وَلا مُتَدَارِكٍ وَالشّمْسُ طِفْلٌ ببَعْضِ نَوَاشغِ الوَادي حُمُولا

فقال : ولا متدارك ، ولم يتقدمه فعل بلفظه يعطف عليه ، ولا حرف معرّب إعرابه فيردّ «متدارك » عليه في إعرابه . ولكنه لما تقدمه فعل مجحود ب«لن » يدل على المعنى المطلوب في الكلام وعلى المحذوف ، استغنى بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف ، وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرا . لأن قوله :

أجِدّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلبَاتٍ

بمعنى : أجدك لست براءٍ ، فردّ «متداركا » على موضع «ترى » كأن «لست » والباء موجودتان في الكلام ، فكذلك قوله : وَإذْ قَالَ رَبكَ لما سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه ، وكان قوله : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للمَلائِكَةِ مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبههم على مواقعها ، ردّ إذ على موضع : وكُنتم أمواتا فأحياكم لأن معنى ذلك : اذكروا هذه من نعمي ، وهذه التي قلت فيها للملائكة . فلما كانت الأولى مقتضية «إذ » عطف ب«إذْ » على موضعها في الأولى كما وصفنا من قول الشاعر في «ولا متدارك » .

القول في تأويل قوله تعالى : للْمَلائِكَةِ .

قال أبو جعفر : والملائكة جمع ملك ، غير أن واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز ، وذلك أنهم يقولون في واحدهم مَلَك من الملائكة ، فيحذفون الهمز منه ، ويحرّكون اللام التي كانت مسكنة لو همز الاسم . وإنما يحركونها بالفتح ، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها ، فإذا جمعوا واحدهم ردّوا الجمع إلى الأصل وهمزوا ، فقالوا : ملائكة . وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها ، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة فيجري كلامهم بترك همزها في حال ، وبهمزها في أخرى ، كقولهم : رأيت فلانا ، فجرى كلامهم بهمز رأيت ، ثم قالوا : نرى وترى ويرى ، فجرى كلامهم في يفعل ونظائرها بترك الهمز ، حتى صار الهمز معها شاذّا مع كون الهمز فيها أصلاً . فكذلك ذلك في مَلَك وملائكة ، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم ، وبالهمز في جميعهم . وربما جاء الواحد مهموزا كما قال الشاعر :

فَلَسْتَ لانْسِيّ وَلَكِنْ لمألاكٍ تَحَدّرَ مِنْ جَوّ السمّاءِ يَصُوبُ

وقد يقال في واحدهم : مألك ، فيكون ذلك مثل قولهم : جبذ وجذب ، وشأمل وشمأل ، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة . غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم مألك ، أن يجمع إذ جمع على ذلك : مآلك ، ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا ، ولكنهم قد يجمعون ملائك وملائكة ، كما يجمع أشعث : أشاعث وأشاعثة ، ومسمع : مسامع ومسامعة . قال أمية بن أبي الصلت في جمعهم كذلك :

وَفِيها مِنْ عِبادِ اللّهِ قَوْمٌ مَلائِكُ ذلّلُوا وَهُمُ صِعابُ

وأصل الملأك : الرسالة ، كما قال عديّ بن زيد العبادي :

أبْلِغِ النّعْمَانَ عَنّي مَلأكا *** أنّهُ قَدْ طالَ حَبْسِي وَانْتِظارِي

وقد ينشد «مألكا » على اللغة الأخرى ، فمن قال : ملأكا ، فهو مفعل من لأك إليه يلأكُ : إذا أرسل إليه رسالة ملأكة . ومن قال : مألكا ، فهو مفعل من ألكت إليه آلكُ : إذا أرسلت إليه مألكة وأَلوكا ، كما قال لبيد بن ربيعة :

وَغُلامٍ أرْسَلَتْهُ أمّهُ *** بَألُوكٍ فَبَذَلْنا ما سألْ

فهذا من ألكت . ومنه قول نابغة بني ذبيان :

ألِكْنِي يا عُيَيْنَ إلَيْكَ قَوْلاً *** سَتُهْدِيهِ الرّوَاةُ إلَيْكَ عَنّي

وقال عبد بني الحسحاس :

ألِكْنِي إلَيْها عَمْرَكَ اللّهُ يا فَتَى *** بِآيَةِ ما جاءَتْ إلَيْنَا تَهادِيا

يعني بذلك : أبلغها رسالتي . فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة ، لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده .

القول في تأويل قوله تعالى : إِنّي جاعِلٌ في الأرْضِ .

اختلف أهل التأويل في قوله : إنّي جاعِلٌ ، فقال بعضهم : إني فاعل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك عن الحسن ، وأبي بكر ، يعني الهذلي عن الحسن وقتادة ، قالوا : قال الله للملائكة : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قال لهم : إني فاعل .

وقال آخرون : إني خالق . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن المنجاب بن الحارث قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، قال : كل شيء في القرآن «جعل » فهو خلق .

قال أبو جعفر : والصواب في تأويل قوله : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَة أي مستخلف في الأرض خليفة ومصير فيها خلفا ، وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة . وقيل إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي مكة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ابن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «دُحِيَتْ الأرْضُ مِنْ مَكّةَ . وكانت الملائكة تطوف بالبيت ، فهي أول من طاف به ، وهي الأرض التي قال الله : إني جاعل في الأرْضِ خَلِيفَةً ، وكان النبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتى هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا ، فإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام » .

القول في تأويل قوله تعالى : خَلِيفَةً .

والخليفة الفعيلة ، من قولك : خلف فلان فلانا في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال جل ثناؤه : ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ في الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يعني بذلك : أنه أبدلكم في الأرض منهم فجعلكم خلفاء بعدهم ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ، لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خلفا ، يقال منه : خلف الخليفة يخلُف خلافة وخليفا ، وكان ابن إسحاق يقول بما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم . وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها ، وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة يسكنها ، ولكن معناها ما وصفت قبل .

فإن قال لنا قائل : فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرا فكان بنو آدم بدلاً منه وفيها منه خلفا ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك .

فحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أوّل من سكن الأرض الجنّ ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، فقتلهم إبليس ومن معه ، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها ، فلذلك قال : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً .

فعلى هذا القول إني جاعل في الأرض خليفة من الجنّ يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها .

وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً الآية ، قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ، فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض .

وقال آخرون في تأويل قوله : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَة أي خلفا يخلف بعضهم بعضا ، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم ، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله .

وهذا قول حكي عن الحسن البصري ، ونظير له ما :

حدثني به محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط في قوله : إني جاعلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أتجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ قال : يعنون به بني آدم .

وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا ، وأجعل فيها خليفة ، وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق .

وهذا القول يحتمل ما حُكي عن الحسن ، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة له ، يحكم فيها بين خلقه بحكمه ، نظير ما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله جل ثناؤه قال للملائكة : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه .

وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه ، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه : ما ذاك الخليفة : إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه وأخرج منه خليفته .

وهذا التأويل وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حُكي عن الحسن من وجه ، فموافق له من وجه . فأما موافقته إياه فصرف متأوّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة . وأما مخالفته إياها فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها ، وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضا ، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم ، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة . والذي دعا المتأوّلين قوله : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً في التأويل الذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها إذ قال لهم ربهم : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفكُ الدّماءَ إخبارا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا غيره لأن المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله قد برأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء وطهره من ذلك ، علم أن الذي عنى به غيره من ذرّيته ، فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم ، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك ، وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا . وأغفل قائلو هذه المقالة ومتأوّلو الآية هذا التأويل سبيل التأويل ، وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها : إنّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه ، بل قالت : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء ، فقالت : يا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ كما قال ابن مسعود وابن عباس ، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل .

القول في تأويل قوله تعالى : قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ .

قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ ولم يكن آدم بعد مخلوقا ولا ذرّيته ، فيعلموا ما يفعلون عيانا ؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك ، أم قالت ما قالت من ذلك ظنّا ، فذلك شهادة منها بالظن وقول بما لا تعلم ، وذلك ليس من صفتها ، فما وجه قيلها ذلك لربها ؟ قيل : قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالاً ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك ، ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة .

فروي عن ابن عباس في ذلك ما :

حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة ، يقال لهم «الجن » خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، قال : وكان اسمه الحرث . قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ . قال : وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذ ألهبت . قال : وخلق الإنسان من طين ، فأوّل من سكن الأرض الجنّ ، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، وهم هذا الحيّ الذين يقال لهم «الجنّ » ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه ، وقال : قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد . قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه ، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله للملائكة الذين معه : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة مجيبين له : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء ؟ وإنما بُعثنا عليهم لذلك . فقال : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره ، قال : ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم من طين لازب واللازب : اللزج الصلب من حمأ مسنون منتن . قال : وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب . قال : فخلق منه آدم بيده . قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى ، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل أي فيصوّت قال : فهو قول الله : مِنْ صلْصَالٍ كالفَخّارِ يقول : كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمِتٍ ، قال : ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ، ويدخل من دبره ويخرج من فيه ، ثم يقول : لست شيئا للصلصلة ، ولشيء ما خلقت لئن سلطت عليك لأهلكنك ، ولئن سلطت عليّ لأعصينك . قال : فلما نفخ الله فيه من روحه ، أتت النفخة من قِبَل رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما .

فلما انتهت النفخة إلى سرّته نظر إلى جسده ، فأعجبه ما رأى من حسنه ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله : وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً قال : ضَجِرا لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء . قال : فلما تمت النفخة في جسده ، عطس فقال : الحمد لله ربّ العالمين ، بإلهام من الله تعالى . فقال الله له : يرحمك الله يا آدم . قال : ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات : اسجدوا لاَدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره ، فقال : لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنّا وأقوى خلقا ، خلقتني من نار وخلقته من طين . يقول : إن النار أقوى من الطين .

قال : فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله ، وآيسه من الخير كله ، وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته ، ثم علّم آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها . ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة ، يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم ، وقال لهم : أنْبئُونِي بأسْماءِ هَولاءِ يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إن كنتم تعلمون أني لِمَ أجعل في الأرض خليفة . قال : فلما علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم ، قالوا : سبحانك تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ، تبنا إليك لا علم لنا إلا ما علمتنا تبريا منهم من علم الغيب ، إلا ما علمتنا كما علمت آدم . فقال : يا آدَمُ أنْبئْهُمْ بأسْمَائِهمْ يقول : أخبرهم بأسمائهم فَلَمّا أنْبأهُمْ بأسْمائِهمْ قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ أيها الملائكة خاصة إنّي أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ولا يعلمه غيري وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ يقول : ما تظهرون وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يقول : أعلم السرّ كما أعلم العلانية ، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .

وهذه الرواية عن ابن عباس تنبىء عن أن قول الله جل ثناؤه : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَةِ إنّي جَاعل فِي الأرْضِ خَلِيفَةً خطاب من الله جل ثناؤه لخاصّ من الملائكة دون الجميع ، وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة ، الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم . وأن الله إنما خصهم بقيل ذلك امتحانا منه لهم وابتلاءً ليعرفهم قصور علمهم وفضل كثير ممن هو أضعف خلقا منهم من خلقه عليهم ، وأن كرامته لا تنال بقوى الأبدان وشدة الأجسام كما ظنه إبليس عدوّ الله . ويصرّح بأن قيلهم لربهم : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدّماءَ كانت هفوة منهم ورجما بالغيب ، وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك ، ووقفهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رجم الغيب بالظنون ، وتبرّءوا إليه أن يعلم الغيب غيره ، وأظهر لهم من إبليس ما كان منطويا عليه من الكبر الذي قد كان عنهم مستخفيا .

وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية ، وهو ما :

حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما فرغ الله من خلق ما أحبّ ، استوى على العرش ، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة . وكان إبليس مع ملكه خازنا ، فوقع في صدره كبر وقال : ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي هكذا قال موسى بن هارون ، وقد حدثني به غيره ، وقال : لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه ، اطلع الله على ذلك منه ، فقال الله للملائكة : إنّي جاعِل فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالُوا رَبّنا أتجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ ونَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إنّي أعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني من شأن إبليس . فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال : ربّ إنها عاذت بك فأعذتها . فبعث الله ميكائيل ، فعاذت منه فأعاذها ، فرجع فقال كما قال جبريل . فبعث ملك الموت ، فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره . فأخذ من وجه الأرض وخلط ، فلم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ، فصعد به فبلّ التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب : هو الذي يلتزق بعضه ببعض ثم ترك حتى أنتن وتغير ، وذلك حين يقول : مِنْ حَمأٍ مَسْنُونٍ قال : منتن ، ثم قال للملائكة إنّي خالِق بَشَرا مِن طِين فإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ منْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ سَاجدِينَ فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عليه ليقول له : تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه ؟ فخلقه بشرا ، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة . فمرّت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه ، وكان أشدّهم منه فزعا إبليس ، فكان يمرّ فيضربه ، فيصوّت الجسد كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة ، فذلك حين يقول : مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارٍ ويقول لأمر مّا خُلقت ودخل من فيه فخرج من دبره ، فقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا ، فإن ربكم صَمَد وهذا أجوف ، لئن سلطت عليه لأهلكنّه فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح ، قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح ، فدخل الروح في رأسه عطس ، فقالت له الملائكة : قل الحمد لله فقال : الحمد لله ، فقال له الله : رحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهَى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ إلاّ إبْلِيسَ أبى أنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ أي اسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرينَ قال الله له : ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ إذ أمرتك لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين ، قال الله له : اخْرُجْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ يعني ما ينبغي لك أنْ تَتَكّبَر فِيها فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ والصغار هو الذلّ . قال : وعلّم آدم الأسماء كلها ، ثم عرض الخلق على الملائكة فقال : أنْبِئُونِي بأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا له : سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ مَا عَلّمْتَنا إنّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قالَ الله : يا آدَمُ أنْبِئُهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إني أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وأعْلَمُ مَا تُبْدِونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال : قولهم : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فهذا الذي أبدوا ، وأعلم ما كنتم تكتمون ، يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر .

قال أبو جعفر : فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل ، وموافق معنى آخره معناها وذلك أنه ذكر في أوله أن الملائكة سألت ربها : ما ذاك الخليفة ؟ حين قال لها : إني جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً فأجابها أنه تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فقالت الملائكة حينئذٍ : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ ؟ فكان قول الملائكة ما قالت من ذلك لربها بعد إعلام الله إياها أن ذلك كائن من ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض ، فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه .

وأما موافقته إياه في آخره ، فهو قولهم في تأويل قوله : أنْبِئُونِي بأسْمَاءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء . وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك ، تبرّيا من علم الغيب : سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلاّ ما عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العلِيمُ الحَكِيمُ .

وهذا إذا تدبره ذو الفهم ، علم أن أوله يفسد آخره ، وأن آخره يبطل معنى أوله ، وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء ، فقالت الملائكة لربها : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفكُ الدّماءَ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء بمثل الذي أخبرها عنهم ربها ، فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور ، فأخبرتم به ، فأخبرونا بالذي قد طَوَى الله عنكم علمه ، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه . بل ذلك خلف من التأويل ، ودعوى على الله ما لا يجوز أن يكون له صفة . وأخشى أن يكون بعضُ نَقَلَةِ هذا الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة ، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العلم بخبري إياكم أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، حتى استجزتم أن تقولوا : أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسدُ فيها ويَسْفِكُ الدّماءَ فيكون التوبيخ حينئذٍ واقعا على ماظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم : إنه يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن . وذلك أن الله جل ثناؤه وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرية خليفته في الأرض ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء ، فقد كان طوى عنهم الخبر عما يكون من كثير منهم ، ما يكون من طاعتهم ربهم وإصلاحهم في أرضه وحقن الدماء ورفعه منزلتهم وكرامتهم عليه ، فلم يخبرهم بذلك ، فقالت الملائكة : أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ على ظنّ منها على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرت ، وظاهرهما أن جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء . فقال الله لهم إذ علّم آدم الأسماء كلها : أنْبئونِي بأسماءِ هَؤلاء إن كنتمْ صَادقِين أنكم تعلمون أن جميع بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء على ما ظننتم في أنفسكم ، إنكارا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم ، وهو من صفة خاص ذرية الخليفة منهم . وهذا الذي ذكرناه هو صفة منا لتأويل الخبر لا القول الذي نختاره في تأويل الآية .

ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم ، ما :

حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط ، قوله : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسدُ فيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ قال : يعنون الناس .

وقال آخرون في ذلك بما :

حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلائِكَةِ إنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً فاستخار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض وَنَحْنُ نَسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ، فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل ، وقوم صالحون ، وساكنوا الجنة .

قال : وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلًى ، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله : ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طَائِعِينَ .

وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها : أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن ولكن على الرأي منها والظن ، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها وردّ عليها ما رأت بقوله : إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من أنه يكون من ذرّية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله .

وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل ، وهو ما :

حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قال : كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك قوله : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها . وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل ، منهم الحسن البصري .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك عن الحسن ، وأبي بكر عن الحسن ، وقتادة قالا : قال الله لملائكته : إنّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قال لهم إني فاعل . فعرضوا برأيهم ، فعلمهم علما وطوى عنهم علما عَلِمَه لا يعلمونه . فقالوا بالعلم الذي علّمهم : أتَجْعَل فِيها مَنْ يُفْسِد فِيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء وَنَحْن نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّس لَكَ قالَ إنّي أعْلَم ما لا تَعْلَمُونَ . فلما أخذ في خلق آدم ، همست الملائكة فيما بينها ، فقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه ، وأكرم عليه منه . فلما خلقه ونفخ فيه من روحه ، أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا ، ففضله عليهم ، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه ، فقالوا : إن لم نكن خيرا منه فنحن أعلم منه ، لأنا كنا قبله ، وخلقت الأمم قبله ، فلما أعجبوا بعلمهم ابتلوا فعلم آدمَ الأسماءَ كلّها ثمّ عرَضهُمْ علَى الملائكةِ فقال أنْبِئُونِي بأسْماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قال : ففزع القوم إلى التوبة وإليها يفزع كل مؤمن فقالوا : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ العَلِيم الحَكِيم قالَ يا آدمَ أنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ فَلَمّا أنْبأهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ غَيْب السّمَوَاتِ وَالأرْض وأعْلَمُ ما تُبْدونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ لقولهم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منّا .

قال : علمه اسم كل شيء ، هذه الجبال ، وهذه البغال ، والإبل ، والجنّ ، والوحش ، وجعل يسمي كل شيء باسمه ، وعرضت عليه كل أمة فقالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ غَيْب السّمَوَاتِ مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ . وأما ما كتموا فقول بعضهم لبعض : نحن خير منه وأعلم .

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس في قوله : إنّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً الآية . قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة . قال : فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء ، وكان الفساد في الأرض . فمن ثم قالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِد فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ . . . الآية .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : أخبرنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله .

ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَولاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إلى قوله : إنّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قال : وذلك حين قالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَك قال : فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم : لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدم ، وعلّم آدم الأسماء كلها ، فقال للملائكة : أنْبِئونِي بِأسْمَاءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إلى قوله : وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وكان الذي أبدوا حين قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ وكان الذي كتموا بينهم قولهم : لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم . فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم .

وقال ابن زيد بما :

حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا ، وقالوا : ربنا لم خلقت هذه النار ، ولأيّ شيء خلقتها ؟ قال : لمن عصاني من خلقي . قال : ولم يكن لله خلق يومئذٍ إلا الملائكة والأرض ، ليس فيها خلق ، إنما خلق آدم بعد ذلك . وقرأ قول الله : هَلْ أتَى على الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ليت ذلك الحين . ثم قال : قالت الملائكة : يا رب أو يأتي علينا دهر نعصيك فيه ، لا يرون له خلقا غيرهم . قال : لا ، إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليقة يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض . فقالت الملائكة : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفكُ الدّماءَ وقد اخترتنا ؟ فاجعلنا نحن فيها فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك ، وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه . فقال : إني أعلم ما لا تعلمون ، يا آدم أنبئهم بأسمائهم فقال : فلان ، وفلان . قال : فلما رأوه ما أعطاه الله من العلم ، أقرّوا لاَدم بالفضل عليهم ، وأبى الخبيث إبليس أن يقرّ له ، قال : أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينِ قالَ فاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِيها .

وقال ابن إسحاق بما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، قال : لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به ، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحبّ وما تكره للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا وأحاط به علم الله منهم جمع الملائكة من سكان السموات والأرض ، ثم قال : إنّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلَيفَةً يقول : عامر أو ساكن يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم . ثم أخبرهم بعلمه فيهم ، فقال : يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي ، فقالوا جميعا : أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لا نعصي ولا نأتي شيئا كرهته ؟ قال : إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قال : إني أعلم فيكم ومنكم ، ولم يبدها لهم من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم ، مما يكون في الأرض ، مما ذكرت في بني آدم .

قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : ما كانَ لِيَ منْ عِلْمٍ بالمَلأ الأعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ إنْ يُوحَى إليّ إلاّ أنّمَا أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ إلى قوله : فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ . فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان من ذكره آدم حين أراد خلقه ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه . فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة : إنّي خالِقٌ بَشَرا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمِأٍ مَسْنُونٍ بيدّي تكرمةً له ، وتعظيما لأمره ، وتشريفا له حفظت الملائكة عهده ، ووعوا قوله ، وأجمعوا الطاعة ، إلا ما كان من عدوّ الله إبليس ، فإنه صمت على ما كان في نفسه من الحسد والبغي والتكبر والمعصية . وخلق الله آدم من أَدَمة الأرض ، من طين لازب من حمأ مسنون ، بيديه تكرمة له وتعظيما لأمره وتشريفا له على سائر خلقه .

قال ابن إسحاق : فيقال والله أعلم : خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالاً كالفخار ، ولم تمسه نار . قال : فيقال والله أعلم : إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس ، فقال : الحمد لله فقال له ربه : يرحمك ربك ووقع الملائكة حين استوى سجودا له حفظا لعهد الله الذي عهد إليهم ، وطاعة لأمره الذي أمرهم به . وقام عدوّ الله إبليس من بينهم ، فلم يسجد مكابرا متعظما بغيا وحسدا ، فقال له : يا إبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ إلى : لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنْكَ وَمِمّنْ تَبعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ . قال : فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية ، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة . ثم أقبل على آدم ، وقد علمه الأسماء كلها ، فقال : يا آدَمُ أنْبِئُهُمْ بأسْمَائِهِمْ فَلَمّا أنْبأهُمْ بأسْمَائِهِمْ قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلا مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ أي إنما أجبناك فيما علمتنا ، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به . فكان ما سمى آدمُ من شيء كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة .

وقال ابن جريج بما :

حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ .

وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا ربّ وأنت خالقهم فأجابهم ربهم : إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم ، ومن بعض من ترونه لي طائعا . يعرّفهم بذلك قصور علمهم عن علمه .

وقال بعض أهل العربية : قول الملائكة : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها على غير وجه الإنكار منهم على ربهم ، وإنما سألوه ليعلموا ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون . وقال : قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى الله ، لأن الجنّ قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت .

وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا ربّ خبرنا مسألة استخبار منهم لله لا على وجه مسألة التوبيخ .

قال أبو جعفر : وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه مخبرا عن ملائكته قيلها له : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ تأويل من قال : إن ذلك منها استخبار لربها بمعنى : أعلمنا يا ربنا ، أجاعل أنت في الأرض من هذه صفته وتارك أن تجعل خلفاءك منا ، ونحن نسبح بحمدك ، ونقدّس لك ؟ لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل ، وإن كانت قد استعظمت لما أخبرت بذلك أن يكون لله خلق يعصيه .

وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب ، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر ، وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة .

وأما وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدماء ، فغير مستحيل فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدّي ووافقهما عليه قتادة من التأويل . وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا ، فقالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها على ما وصفت من الاستخبار .

فإن قال لنا قائل : وما وجه استخبارها والأمر على ما وصفت من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن ؟ قيل : وجه استخبارها حينئذٍ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك ، وهل ذلك منهم ؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتى لا يعصوه .

وغير فاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عباس وتابعه عليه الربيع بن أنس من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض قبل آدم من الجن ، فقالت لربها : أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم ، لا على وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك ، فيكون ذلك منها إخبارا عما لم تطلع عليه من علم الغيب .

وغير خطأ أيضا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيل الملائكة ما قالت من ذلك على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلق يعصي خالقه .

وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع بن أنس وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر ويلزم سامعه به الحجة . والخبر عما مضى وما قد سلف ، لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئا يمتنع منه التشاغب والتواطؤ ، ويستحيل منه الكذب والخطأ والسهو . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع ، ولا فيما قاله ابن زيد . فأولى التأويلات إذ كان الأمر كذلك بالآية ، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالةٌ مما يصحّ مخرجه في المفهوم .

فإن قال قائل : فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء ، فمن أجل ذلك قالت الملائكة : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك ؟ قيل له : اكتفي بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه ، كما قال الشاعر :

فَلاَ تَدْفِنُونِي إنّ دَفْنِي مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خامِرِي أُمّ عامِرِ

فحذف قوله دعوني للتي يقال لها عند صيدها خامري أم عامر ، إذ كان فيما أظهر من كلامه دلالة على معنى مراده . فكذلك ذلك في قوله : قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله : إنّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض اكتفى بدلالته وحذف ، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر . ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى . فلما ذكرنا من ذلك اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله : قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ .

القول في تأويل قوله تعالى : وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ .

قال أبو جعفر : أما قوله : وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ فإنه يعني : إنا نعظمك بالحمد لك والشكر ، كما قال جل ثناؤه : فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وكما قال : وَالمَلائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وكل ذكر لله عند العرب فتسبيح وصلاة ، يقول الرجل منهم : قضيت سبحتي من الذكر والصلاة . وقد قيل إن التسبيح صلاة الملائكة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين ، فقال له : النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس فقال له : امض إلى عملك إن كان لك عمل ، فقال : ما أظنّ إلا سيمرّ عليك من ينكر عليك . فمرّ عليه عمر بن الخطاب ، فقال له : يا فلان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس فقال له مثلها . فقال : هذا من عملي . فوثب عليه فضربه حتى انتهى . ثم دخل المسجد فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر ، فقال : يا نبيّ الله مررت آنفا على فلان وأنت تصلي ، فقلت له : النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس فقال : سر إلى عملك إن كان لك عمل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «فهلاّ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ » فقام عمر مسرعا . فقال : «يا عُمَرُ ارْجِعْ فإنّ غَضَبَكَ عز وَرِضَاكَ حُكْمٌ ، إنّ لِلّهِ فِي السّمَوَاتِ السّبْعِ مَلائِكَةً يُصَلُونَ ، لَهُ غِنًى عَنْ صَلاةِ فُلانٍ » . فقال عمر : يا نبيّ الله وما صلاتهم ؟ فلم يردّ عليه شيئا . فأتاه جبريل ، فقال : يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء ؟ قال : «نَعَمْ » ، فقال : اقرأ على عمر السلام ، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزّة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحيّ الذي لا يموت .

قال أبو جعفر :

وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، وسهل بن موسى الرازي ، قالا : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا الجريري ، عن أبي عبد الله الجسري ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذرّ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده أو أن أبا ذرّ عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بأبي أنت ، أيّ الكلام أحبّ إلى الله ؟ فقال : «ما اصْطَفَى اللّهُ لِمَلائِكَتِهِ : سُبْحَانَ رَبي وَبِحَمْدِهِ ، سُبْحانَ رَبي وَبَحمْدِهِ » . في كل أشكال لما ذكرنا من الأخبار كرهنا إطالة الكتاب باستقصائها . وأصل التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه والتبرئة له من ذلك ، كما قال أعشى بني ثعلبة :

أقُولُ لَمّا جاءَنِي فَخْرُهُ *** سُبْحانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفاخِرِ

يريد : سبحان الله من فخر علقمة أي تنزيها لله مما أتى علقمة من الافتخار على وجه النكير منه لذلك .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع .

فقال بعضهم : قولهم : نسبح بحمدك : نصلي لك . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ونَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال : يقولون : نصلي لك .

وقال آخرون : نسبح بحمدك التسبيح المعلوم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ونَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ قال التسبيحَ التسبيحَ .

القول في تأويل قوله تعالى : وَنُقَدّسُ لَكَ .

قال أبو جعفر : والتقديس هو التطهير والتعظيم ومنه قولهم : سبّوح قدّوس ، يعني بقولهم سبوح : تنزيه لله وبقولهم قدوس : طهارة له وتعظيم ولذلك قيل للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إذا : وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ ننزّهك ونبرّئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ، ونصلي لك . ونقدس لك : ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك .

وقد قيل : إن تقديس الملائكة لربها صلاتها له كما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَنُقَدّسُ لَكَ قال : التقديس : الصلاة .

وقال بعضهم : نقدّس لك : نعظمك ونمجدك . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدّب ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال : نعظمك ونمجدك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَنُقَدّسُ لَكَ قال : نعظمك ونكبرك .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق : وَنَحنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه .

وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : وَنُقَدّسُ لَكَ قال : التقديس : التطهير .

وأما قول من قال : إن التقديس الصلاة أو التعظيم ، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير من أجل أن صلاتها لربها تعظيم منها له وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به .

ولو قال مكان : «ونقدس لك » : «ونقدسك » ، كان فصيحا من الكلام ، وذلك أن العرب تقول : فلان يسبح الله ويقدسه ، ويسبح لله ويقدس له بمعنى واحد ، وقد جاء بذلك القرآن ، قال الله جل ثناؤه : كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرا وقال في موضع آخر : يُسَبّحُ لِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي أَلارْضِ .

القول في تأويل قوله تعالى : قالَ إنّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ .

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم : يعني بقوله : أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ مما اطلع عليه من إبليس ، وإضماره المعصية لله وإخفائه الكبر ، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .

وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : إني أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني من شأن إبليس .

وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد . وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إني أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .

وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن مجاهد بمثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن مجاهد ، مثله .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة عن مجاهد في قوله : إني أعلم ما لا تعلمون قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .

وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري ، قال : حدثنا حسن بن بشر عن حمزة الزيات ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : إني أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبْلِيسَ كتمانه الكبر أن لا يسجد لاَدم .

وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : إنّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية .

وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : قال مجاهد في قوله : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها . وقال مرة آدم .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدّث عن أبيه في قوله : إنّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها ، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه والثوري عن عليّ بن بذيمة ، عن مجاهد في قوله : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي فيكم ومنكم ولم يبدها لهم من المعصية والفساد وسفك الدماء .

وقال آخرون : معنى ذلك أني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهل الطاعة والولاية لله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قال : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة .

وهذا الخبر من الله جل ثناؤه ، ينبىء عن أن الملائكة التي قالت : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ استفظعت أن يكون لله خلق يعصيه ، وعجبت منه إذ أخبرت أن ذلك كائن فلذلك قال لهم ربهم : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني بذلك : والله أعلم أنك لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه وأنا أعلم أنه في بعضكم ، وتصفون أنفسكم بصفة أعلم خلافها من بعضكم وتعرّضون بأمر قد جعلته لغيركم . وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته من الفساد وسفك الدماء قالت لربها : يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفة من غيرنا يكون من ذريته من يعصيك أم منا ؟ فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كشحا إبليسُ من استكباره على ربه . فقال لهم ربهم : إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم . وذلك هو ما كان مستورا عنهم من أمر إبليس وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر . وعلى قيلهم ذلك ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عوتبوا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً } .

عَطَفَتْ الواو قصة خلق أول البشر على قصة خلق السماوات والأرض انتقالاً بهم في الاستدلال على أن الله واحد وعلى بطلان شركهم وتخلصاً من ذكر خلق السماوات والأرض إلى خلق النوع الذي هو سلطان الأرض والمتصرف في أحوالها ، ليُجمع بين تعدد الأدلة وبين مختلف حوادث تكوين العوالم وأصلها ليعلم المسلمون ما عَلِمَه أهل الكتاب من العلم الذي كانوا يُباهون به العربَ وهو ما في سفر التكوين من التوراة .

واعلم أن موقع الدليل بخلق آدم على الوحدانية هو أن خلق أصل النوع أمر مدرك بالضرورة لأن كل إنسان إذا لَفَتَ ذهنه إلى وجوده علم أنه وجود مسبوق بوجود أصل له بما يشاهد من نشأة الأبناء عن الآباء فيوقن أن لهذا النوع أصلاً أولَ ينتهي إليه نشوءه ، وإذ قد كانت العبرة بخلق ما في الأرض جميعاً أُدْمِجت فيها منة وهي قوله : { لكم } [ البقرة : 29 ] المقتضية أن خلق ما في الأرض لأجلهم تَهَيَّأتْ أنفسهم لسماع قصة إيجاد منشأ الناس الذين خُلقت الأرض لأجلهم ليُحاط بما في ذلك من دلائل القدرة مع عظيم المنة وهي منة الخلق التي نشأت عنها فضائل جمة ومِنَّة التفضيل ومنة خلافة الله في الأرض ، فكان خَلق أصلنا هو أبدع مظاهر إحيائنا الذي هو الأصل في خلق ما في الأرض لنا ، فكانت المناسبة في الانتقال إلى التذكير به واضحة مع حسن التخلص إلى ذكر خبره العجيب ، فإيراد واو العطف هنا لأجل إظهار استقلال هذه القصة في حد ذاتها في عظم شأنها .

و ( إذ ) من أسماء الزمان المبهمَة تدل على زمان نسبة ماضية وقعتْ فيه نسبةٌ أخرى ماضية قارنتها ، ف ( إذْ ) تحتاج إلى جملتين جملة أصلية وهي الدالة على المظروف وتلك هي التي تكون مع جميع الظروف ، وجملة تبين الظرف ما هو ، لأن ( إذ ) لما كانت مبهمة احتاجت لما يبين زمانها عن بقية الأزمنة ، فلذلك لزمت إضافتها إلى الجمل أبداً ، والأكثر في الكلام أن تكون إذ في محل ظرف لزَمن الفعل فتكون في محل نصب على المفعول فيه ، وقد تخرج ( إذ ) عن النصب على الظرفية إلى المفعولية كأسماء الزمان المتصرفة على ما ذهب إليه صاحب « الكشاف » وهو مختار ابن هشام خلافاً لظاهركلام الجمهور ، فهي تصير ظرفاً مبهماً متصرفاً ، وقد يضاف إليها اسم زمان نحو يومئذٍ وساعتئذٍ فتجر بإضافة صورية ليكون ذكرها وسيلة إلى حذف الجملة المضافةِ هي إليها ، وذلك أن ( إذ ) ملازمة للإضافة فإذا حذفت جملتها عَلِم السامع أن هنالك حذفاً ، فإذا أرادوا أن يحذفوا جملة مع اسم زمان غير ( إذ ) خافوا أن لا يهتدي السامع لشيء محذوف حتى يتطلب دليله فجعلوا إذْ قرينة على إضافةٍ وحذفوا الجملة لينبهوا السامع فيتطلب دليل المحذوف .

وهي في هذه الآية يجوز أن تكون ظرفاً وكذلك أعربها الجمهور وجعلوها متعلقة بقوله : { قالوا } وهو يفضي إلى أن يكون المقصود من القصة قولَ الملائكة وذلك بعيد لأن المقصود من العبرة هو خطاب الله لهم وهو مبدأ العبرة وما تضمنته من تشريف آدم وتعليمه بعد الامتنان بإيجاد أصل نوع الناس الذي هو مناط العبرة من قوله : { كيف تكفرون } [ البقرة : 28 ] الآيات ، ولأنه لا يتأتى في نظيرها وهو قوله الآتي : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } [ البقرة : 34 ] إذ وجود فاء التعقيب يمنع من جعل الظرف متعلقاً بمدخولها ، ولأن الأظهر أن قوله : { قالوا } حكاية للمراجعة والمحاورة على طريقة أمثاله كما سنحققه . فالذي ينساق إليه أسلوب النظم فيه أن يكون العطف على جملة : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] أي خلق لكم ما في الأرض وقال للملائكة إني خالق أصل الإنسان لِما قدمناه من أن ذكر خلق ما في الأرض وكونِه لأجلنا يهيىء السامع لترقب ذكر شأننا بعد ذكر شأن ما خُلق لأجلنا من سماء وأرض ، وتكون { إذ } على هذا مزيدة للتأكيد قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى وأنشد قول الأسود بن يعفر :

فإذْ وذلك لامهاهَ لذكره *** والدهرُ يُعقِب صالحاً بفساد

( هكذا رواه فإذْ على أن يكون في البيت زحاف الطي ، وفي رواية فإذا فلا زحاف ، والمهاه بهاءين الحُسْن ولا يشكل عليه أن شأن الزيادة أن تكون في الحروف لأن إذ وإذا ونحوهما عوملت معاملة الحروف ) ، أو أن يكون عطف القصة على القصة ويؤيده أنها تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى ، ألا ترى أنها ذكرت أيضاً في قوله تعالى : { وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ولم تذكر فيما بينهما وتكون { إذْ } اسم زمان مفعولاً به بتقدير اذكر ، ونظيره كثير في القرآن ، والمقصود من تعليق الذكر والقصة بالزمان إنما هو ما حصل في ذلك الزمان من الأحوال . وتخصيص اسم الزمان دون اسم المكان لأن الناس تعارفوا إسناد الحوادث التاريخية والقصص إلى أزمان وقوعها .

وكلام الله تعالى للملائكة أطلق على ما يفهمون منه إرادته وهو المعبر عنه بالكلام النفسي فيحتمل أنه كلام سمعوه فإطلاق القول عليه حقيقة وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة ، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة ، فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم " اشتكت النار إلى ربها " وقوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وقول أبي النجم : « إذ قالت الآطال للبطن الحق » ، ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين .

والملائكة جمع ملك وأصل صيغة الجمع ملائكة والتاء لتأكيد الجمعية لما في التاء من الإيذان بمعنى الجماعة ، والظاهر أن تأنيث ملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصرين منهم إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله واعتقده العرب أيضاً قال تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه } [ النحل : 57 ] فملائك جمع ملأك كشمائل وشمأل ، ومما يدل عليه أيضاً قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره :

ولَسْت لإِنْسِيَ ولكِنْ لِمَلأَكٍ *** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّب{[106]}

ثم قالوا ملك تخفيفاً .

وقد اختلفوا في اشتقاقه فقال أبو عبيدة هو مفعل من لأك بمعنى أرسل ومنه قولهم في الأمر بتبليغ رسالة ألكني إليه أي كن رسولي إليه وأصل ألكني ألإكني وإن لم يعرف له فعل . وإنما اشتق اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل الله إما بتبليغ أو تكوين كما في الحديث : " ثم يرسل إليه ( أي للجنين في بطن أمه ) الملك فينفخ فيه الروح " ، فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول ، وقال الكسائي هو مقلوب ووزنه الآن معفل وأصله مأْلك من الألوك والأَلوكة وهي الرسالة ويقال مأْلَكُ ومأْلَُكة ( بفتح اللام وضمها ) فقلبوا فيه قلباً مكانياً فقالوا ملأَك فهو صفة مشبهة . وقال ابن كيسان هو مشتق من الملك ( بفتح الميم وسكون اللام ) والملك بمعنى القوة قال تعالى : { عليها ملائكة غلاظ شداد } [ التحريم : 6 ] والهمزة مزيدة فوزنه فعْأَل بسكون العين وفتح الهمزة كشَمْأَل ، ورد بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة ، ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل ، فرجح مذهب أبي عبيدة ، ونقل القرطبي عن النضر بن شميل أنه قال لا اشتقاق للمَلَك عند العرب يريد أنهم عَرَّبوه من اللغة العبرانية ويؤيده أن التوراة سمت المَلَك مَلاَكاً بالتخفيف ، وليس وجود كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغتين بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة أخرى .

والملائكة مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل للتشكل في كيفيات ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له فلذلك لا تضىء إذا اتصلت بالعالم الأرضي وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يظهر بعضُهم لبعض رسله وأنبيائه على وجه خرق العادة . وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها فتتولى التدبير لها ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها وهي مضادة لتوجهات الشياطين ، فالخواطر الخيرية من توجهات الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية وبعكسها خواطر الشر .

والخليفة في الأصل الذي يخلف غيره أو يكون بدلاً عنه في عمل يعمله ، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالعَلاَّمة . والمراد من الخليفة هنا إما المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل والوصي ، أي جاعل في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حَالاً في الأرض ولا عاملاً فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات الأرض ، ولأن الله تعالى لم يترك عملاً كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلافَ غيره من الحيوان ، وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبلُ بطائفة من المخلوقات يسمَّون الحِن والبِن بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول ، وبموحدة مكسورة ونون في الثاني وقيل اسمهم الطَّم والرَّم بفتح أولهما ، وأحسبه من المزاعم ، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس : هيَّان بن بَيَّان إشارة إلى غير موجود أو غير معروف .

ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطَّم والرَّم كان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التِيتَان وأن زفس وهو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم . وكل هذا ينافيه سياق الآية فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جَعْلَ الخليفة دليل على أن جعْل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوف مستقِراً في المكان من قبل ، فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي ، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسَن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم ، فكانت الآية من هذا الوجه إيماءً إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك ، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والمُلْك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } [ النساء : 64 ] ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، من جُفاة الأعراب ودُعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سُدًى .

وللخليفة شروط محل بيانها كتب الفقه والكلام ، وستجيء مناسبتها في آيات آتية .

والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ والأول أظهر ، فيكون المراد بالمخبَر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتاباً بحضرة جليس إني مرسل كتاباً إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان ، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم ، وعلى الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله : { جاعل } للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتاً لآدم ساعتئذٍ .

وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما عَلِم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس ، وليكون كالاستشارة لهم تكريماً لهم فيكونُ تعليماً في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليَسُنَّ الاستشارة في الأمور ، ولتنبيه الملائكة على ما دقَّ وخفي من حكمة خلق آدم كذا ذكر المفسرون .

وعندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكونَ حقيقةً مقارنةً في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموساً أُشْرِبَتْه نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء مَّا ، تؤثر تآلُفاً بين ذلك الكائن وبين المقارن . ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعاً لذوات مَقامَ أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئاً أي إنشاءَ ذاتٍ أن يقول له كن فيكون ، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات ، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قَبول العلم من خصائص الإنسان علَّم آدم الأسماء عندما خلقه .

وهذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضاً للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل ، ولهذا أيضاً طَلبت منا الشريعة تخيُّر أكمل الحالات وأفضلِ الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب ، وتقدم هذا في الكلام على البسملة ، وسنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } في سورة آل عمران ( 159 ) .

وأسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبىء عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض ، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) ، ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبيء محمد صلى الله عليه وسلم مع تكريمه بشرف حضور المخاطَبة .

{ قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } .

هذا جواب الملائكة عن قول الله لهم : { إني جاعل في الأرض خليفة } فالتقدير فقالوا على وزان قوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } [ البقرة : 34 ] وفُصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جرياً به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية قال زهير :

قيل لهم ألا اركبوا ألاتا*** قالوا جميعاً كلهم آلافا

أي فاركبوا ولم يقل فقالوا . وقال رؤبة بن العجاج :

قالت بنات العم يا سلمى وإن *** كان فقيراً مُعدماً قالت وإنن

وإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع وهو كثير في التنزيل وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر والأصل ، وهذا مما لم أسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي .

ومما عطف بالفاء قوله تعالى : { فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } فقال الملأ في سورة المؤمنين ( 23 ، 24 ) وقد يعطف بالواو أيضاً كما في قوله : { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه } الخ في سورة المؤمنون ( 32 ، 33 ) وذلك إذا لم يكن المقصود حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية ممّا جرى في أوقات متفرّقة أو أمكنة متفرّقة . ويظهر ذلك لك في قوله تعالى : { قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } [ غافر : 25 ] إلى قوله : { وقال فرعون ذروني أقتل موسى } ( 26 ) ثم قال تعالى : { وقال موسى إني عذت بربي وربكم } ( 27 ) ثم قال : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون } ( 28 ) الآية في سورة غافر ، وليس قوله : { قالوا أتجعل } جواباً لإذ عاملاً فيها لما قدمناه آنفاً من أنه يفضي إلى أن يكون قولهم : { أتجعل فيها } هو المقصود من القصة وأن تصير جملة { إذ } تابعة له إذ الظرف تابع للمظروف .

والاستفهام المحكي عن كلام الملائكة محمول على حقيقته مضمن معنى التعجب والاستبعاد من أن تتعلق الحكمة بذلك فدلالة الاستفهام على ذلك هنا بطريق الكناية مع تطلب ما يزيل إنكارهم واستبعادهم فلذلك تعين بقاء الاستفهام على حقيقته خلافاً لمن توهم الاستفهام هنا لمجرد التعجب ، والذي أقدم الملائكة على هذا السؤال أنهم علموا أن الله لما أخبرهم أراد منهم إظهار علمهم تجاه هذا الخبر لأنهم مفطورون على الصدق والنزاهة من كل مؤاربة فلما نشأ ذلك في نفوسهم أفصحت عنه دلالة تدل عليه يعلمها الله تعالى من أحوالهم لا سيما إذا كان من تمام الاستشارة أن يبدي المستشار ما يراه نصحاً وفي الحديث : " المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم " يعني إذا تكلم فعليه أداء أمانة النصحية .

وعبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهو الاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره .

وعُطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به . وتكرير ضمير ( الأرض ) للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار .

والإفساد تقدم في قوله تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 12 ] .

والسفك الإراقة وقد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء وأما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء . وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده ، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب وعن الامتثال إلى العصيان فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة ، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ثم إن النطق يستطيع إظهار خلاف الواقع وترويج الباطل ، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضاً صلاح عظيم وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها فيحصل فعل مختلط من صالح وسيء ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة ، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات ، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات ، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة ، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة .

وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله ، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت ، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة . وبه أيضاً تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر ، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة ، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد ، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان .

وأوثر التعبير بالفعل المضارع في قوله : { من يفسد } { ويسفك } لأن المضارع يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة لأن الفساد والسفك ليسا بمستمرين من البشر .

وقولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } دليل على أنهم علموا أن مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع وهم علموا مراد الله ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد ، وقد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله } [ محمد : 22 ، 23 ] وقال : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنَّسْل واللَّهُ لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] .

ولا يَرد هنا أن هذا القول غيبة وهم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في مَشُورة ونحوها كالخِطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشارِ في شأنه من النقائص ، ورجحاننِ تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحدٍ بما يَكْره ، ولأن الموصوف بذلك غيرُ معين إذ الحكم على النوع ، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة .

و { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .

الواو متعينة للحالية إذ لا موقع للعطف هنا وإن كان ما بعد الواو من مقولهم ومحكياً عنهم لكن الواو من المَحْكِي وليست من الحكاية لأن قولهم { ونحن نسبح بحمدك } يحْتمل معنيين أحدهما أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى الله تعالى واتهامَ عِلمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسَدُّ منه رأياً وأرجح عقلاً فيشير ثم يفوّض كما قال أهل مشورة بِلْقِيس إذ قالت : { أَفْتُوني في أمري ما كنتُ قاطعة أمراً حتى تشهدون قالوا نحن أُولُوا قوة وأُولُوا بأسٍ شديد } أي الرأي أن نحاربه ونصده عما يريد من قوله { وأُتُوني مسلمين } [ النمل : 31 ] والأمرُ إليك { فانظري ماذا تَأْمُرين } [ النمل : 32 ، 33 ] ، وكما يفعل التلميذ مع الأستاذ في بحثه معه ثم يصرح بأنه مَبْلغ علمه ، وأن القول الفصل للأستاذ ، أو هو إعلان بالتنزيه للخالق عن أن يخفى عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم ، وبراءةٌ من شائبة الاعتراض ، والله تعالى وإن كان يعلم براءَتهم من ذلك إلا أن كلامهم جرى على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير ، أو لأنَّ في نفس هذا التصريح تبركاً وعبادة ، أو إعْلاَن لأهل الملإ الأعلى بذلك .

فإذا كان كذلك كان العطف غير جائز لأن الجملة المحكية بالقول إذا عطفت عليها جملة أخرى من القول فالشأن أن لا يقصد العطف على تقدير عامل القول إلا إذا كان القولان في وقتين كما في قوله تعالى : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ] على أحد الوجوه في عطف جملة { نعم الوَكيل } عند من لا يَرَوْن صحة عطف الإنشاء على الخبر وإن كان الحق صحة عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وأنه لا ينافي حُسن الكلام ، فلذلك لم يكن حظ للعطف ، ألا ترى أنهم إذا حَكَوا حادثاً مُلِمًّا أو مُصاباً جَمًّا أعقبوه بنحو حسبنا الله ونعم الوكيل أو إنا لله وإنا إليه راجعون أو نحو ذلك{[107]} ولا يعطفون مثل ذلك فكانت الواو واو الحال للإشارة إلى أن هذا أمر مستحضر لهم في حال قولهم : { أتجعل فيها من يفسد } وليس شيئاً خطر لهم بعد أن توغلوا في الاستبعاد والاستغراب .

الاحتمال الثاني : أن يكون الغرض من قولهم { ونحن نسبح بحمدك } التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف لأن الجملة الاسمية دلت على الدوام وجملة { من يفسد فيها } دلت على توقع الفساد والسفك فكان المراد أن استخلافه يقع منه صلاح وفساد والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع منه الفساد فتكون حالاً مقررة لمدلول جملة { أتجعل فيها من يفسد } تكملة للاستغراب ، وعاملها هو { تجعل } وهذا الذي أشار إليه تمثيل « الكشاف » . والعامل في الحال هو الاستفهام لأنه مما تضمن معنى الفعل لا سيما إذا كان المقصود منه التعجب أيضاً إذ تقدير { أتجعل فيها } الخ نتعجب من جعله خليفة .

والتسبيح قول أو مجموع قول مع عمل يدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه ولذلك سمى ذكر الله تسبيحاً ، والصلاة سبحة ويطلق التسبيح على قول سبحان الله لأن ذلك القول من التنزيه وقد ذكروا أن التسبيح مشتق من السبح وهو الذهاب السريع في الماء إذ قد توسع في معناه إذ أطلق مجازاً على مر النجوم في السماء قال تعالى : { وكل في فلك يسبحون } [ يس : 40 ] وعلى جري الفرس قالوا فلعل التسبيح لوحظ فيه معنى سرعة المرور في عبادة الله تعالى ، وأظهر منه أن يكون سبح بمعنى نَسب للسبح أي البعد وأريد البعد الاعتباري وهو الرفعة أي التنزيه عن أحوال النقائص وقيل سمع سبح مخففاً غير مضاعف بمعنى نزه ، ذكره في « القاموس » .

وعندي أن كون التسبيح مأخوذاً من السبح على وجه المجاز بعيد والوجه أنه مأخوذ من كلمة سبحان ولهذا التزموا في هذا أن يكون لوزن فعّل المضاعف فلم يسمع مخففاً .

وإذا كان التسبيح كما قلنا هو قول أو قول وعمل يدل على التعظيم فتعلق قوله { بحمدك } به هنا وفي أكثر المواضع في القرآن ظاهر لأن القول يشتمل على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه فالباء للملابسة أي نسبح تسبيحاً مصحوباً بالحمد لك وبذلك تنمحي جميع التكلفات التي فسروا بها هنا .

والتقديس التنزيه والتطهير وهو إما بالفعل كما أطلق المقدس على الراهب في قول امرىء القيس يصف تعلق الكلاب بالثور الوحشي :

فأدركنه يأخذن بالساق والنسا *** كما شبرق الولدان ثوب المقدس{[108]}

وإما بالاعتقاد كما في الحديث : " لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها " أي لا نزهها الله تعالى وطهرها من الأرجاس الشيطانية .

وفعل قدس يتعدى بنفسه فالإتيان باللام مع مفعوله في الآية لإفادة تأكيد حصول الفعل نحو شكرت لك ونصحت لك وفي الحديث عند ذكر الذي وجد كلباً يلهث من العطش " فأخذ خفه فأدلاه في الركية فسقاه فشكر الله له " أي شكره مبالغة في الشكر لئلا يتوهم ضعف ذلك الشكر من أنه عن عمل حسنة مع دابة فدفع هذا الإيهام بالتأكيد باللام وهذا من أفصح الكلام ، فلا تذهب مع الذين جعلوا قوله : { لك } متعلقاً بمحذوف تقديره حامدين أو هو متعلق بنسبح واللام بمعنى لأجلك على معنى حذف مفعول { نسبح } أي نسبح أنفسنا أي ننزهها عن النقائص لأجلك أي لطاعتك فذلك عدول عن فصيح الكلام ، ولك أن تجعل اللام لام التبيين التي سنتعرض لها عند قوله تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] .

فمعنى { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } نحن نعظمك وننزهك والأول بالقول والعمل والثاني باعتقاد صفات الكمال المناسبة للذات العلية ، فلا يتوهم التكرار بين ( نسبح ) و ( نقدس ) .

وأوثرت الجملة الاسمية في قوله : { ونحن نسبح } لإفادة الدلالة على الدوام والثبات أي هو وصفهم الملازم لجبلتهم ، وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي دون حرف النفي يحتمل أن يكون للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام أي نحن الدائمون على التسبيح والتقديس دون هذا المخلوق والأظهر أن التقديم لمجرد التقوى نحو هو يعطي الجزيل .

{ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

جواب لكلامهم فهو جار على أسلوب المقاولة في المحاورات كما تقدم ، أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد .

واعلم أن صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال وأن في ذلك كله مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب واطلاعاً على نموذج من غايات علم الله تعالى وإرادته وقدرته بما يظهره البشر من مبالغ نتائج العقول والعلوم والصنائع والفضائل والشرائع وغير ذلك . كيف ومن أبدع ذلك أن تركب الصفتين الذميمتين يأتي بصفات الفضائل كحدوث الشجاعة من بين طرفي التهور والجبن . وهذا إجمال في التذكير بأن علم الله تعالى أوسع مما علموه فهم يوقنون إجمالاً أن لذلك حكمة ومن المعلوم أن لا حاجة هنا لتقدير وما تعلمون بعد { ما لا تعلمون } لأنه معروف لكل سامع ولأن الغرض لم يتعلق بذكره وإنما تعلق بذكر علمه تعالى بما شذ عنهم . وقد كان قول الله تعالى هذا تنهية للمحاورة وإجمالاً للحجة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم وأنه حين أراد أن يجعل آدم خليفة كانت إرادته عن علم بأنه أهل للخلافة ، وتأكيد الجملة بأن لتنزيل الملائكة في مراجعتهم وغفلتهم عن الحكمة منزلة المترددين .


[106]:- قال أبو عبيدة البيت لشاعر جاهلي من عبد القيس يمدح بعض الملوك كما في الصحاح، وقيل الممدوح النعمان، وقال ابن السيرافي: البيت لأبي وجزة يمدح عبد الله بن الزبير. قلت ذكر ابن السيرافي في شرح أبيات صلاح المنطق القولين ولم يقتصر على ما نسبه إله شارح القاموس، وأنشده الكسائي لعلقمة بن عبدة يمدح بن جبلة بن أبي شمر.
[107]:- مثل قول الفرزدق: أتعدل أحسابا كراما حماتها *** بأحسابكم إني إلى الله راجع
[108]:- شبرق: مزق أي يأخذون من ثوبه تبركا به. وقيل أراد من المقدس الذي رجع من زيادة بيت المقدس.