ثم لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد به على أهل الكتاب إذا ما جادلوه أو خاصموه ليحسم الأمر معهم ومع غيرهم من المشركين وليمضي فى طريقه الواضح المستقيم فقال - تعالى - { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } .
وقوله { حَآجُّوكَ } من المحاجة وهى أن يتبادل المتجادلان الحجة ، بأن يقدم كل واحد حجته ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعم أنه الحق الذى لا شك فيه .
والمعنى : فإن جادلك - يا محمد - أهل الكتاب ومن لف لفهم بالأقاويل المزورة والمغالطات الباطلة بعد أن قامت الحجج على صدقك . فلا تسر معهم في لجاجتهم ، ولا تلتفت إلى أكاذيبهم ، بل قل لهم { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } أى أخلصت عبادتي لله وحده ، وأطعته وانقدت له ، وكذلك من اتبعنى وآمن بى قد أسلم وجهه له وأخلص له العبادة .
والمراد بالوجه هنا الذات ، وعبر بالوجه عن سائر الذات لأنه أشرف أعضاء الشخص ، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة ، وهو مجمع محاسن الجسم فالتعبير به عن الجسم كله تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل .
و { وَمَنِ } في قوله { وَمَنِ اتبعن } في محل رفع عطفا على الضمير المتصل في { أَسْلَمْتُ } أى أسلمت أنا ومن اتبعنى ، وجاء العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد لوجود الفاصل بينهما .
وقوله { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ } عطف على الجملة الشرطية ، والمراد بالأميين الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب .
والاستفهام فى قوله { أَأَسْلَمْتُمْ } للحض على أن يسلموا وجوههم لله ، ويتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم كما اتبعه المسلمون .
والمعنى : فإن جادلوك في الدين - يا محمد - بعد أن تبين لكل عاقل صدقك ، فقل لهؤلاء المعاندين إني أسلمت وجهي لله وكذلك أتباعي أسلموا وجوههم لله ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلموا تسلموا فقد تبين لكن أني على حق ، ومن شأن العاقل أنه إذا تبين له الحق أن يدخل فيه وأن يترك العناد والمكابرة .
قال صاحب الكشاف : وقوله { أَأَسْلَمْتُمْ } يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان طريقا إلا سلكته : هل فهمتها لا أم لك . ومنه قوله - تعالى - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر . وفي هذا الاستفهام استقصار - أى عد المخاطب قاصرا - وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف في إذعانه للحق .
ثم بين - سبحانه - ما يترتب على إسلامهم من نتائج ، وما يترتب على إعراضهم من شرور تعود عليهم فقال : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ والله بَصِيرٌ بالعباد } .
أى : فإن أسلموا وجوههم لله وصدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد اهتدوا إلى طريق الحق ، لأن هذا الإسلام هو الدين الذى ارتضاه الله للناس وإن أعرضوا عن هذا الطريق المستقيم ، فإن إعراضهم لن يضرك - أيها الرسول الكريم - لأن الذى عليك إنما هو تبليغ الناس ما أمرك الله بتبليغه إياهم . وهو - سبحانه - بصير بخلقه لا تخفى عليه خافية من أقوالهم أو أفعالهم ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه .
وعبر بالماضى فى قوله { فَقَدِ اهتدوا } مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وقوله { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } قائم مقام جواب الشرط أى وإن تولوا لا يضرك توليهم شيئا إذا ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه .
وقوله { والله بَصِيرٌ بالعباد } تذييل فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم عن كفرهم ، وإشارة إلى أحوالهم ، وإنذار بسوء مصيرهم ، لأنه - سبحانه - عليم بنفوس الناس جميعا وسيجازى كل إنسان بما يستحقه ، وفيه كذلك وعد للمؤمنين بحسن العاقبة ، وجزيل الثواب .
قال ابن كثير : وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة فى غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله - تعالى - { قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وقال - تعالى - { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بنى آدم من عربهم وعجمهم ، كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك ، فعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذى نفسي بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهدى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أهل النار " .
وقال صلى الله عليه وسلم " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقال : " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " وعن أنس - رضى الله عنه - أن غلاما يهوديا كان يضع للنبى صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض . فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه ، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : " يا فلان قل لا إله إلا الله ، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم القول . فنظر إلى أبيه ، فقال له أبوه أطع أبا القاسم . فقال الغلام أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذى أخرجه بي من النار " رواه البخاري في الصحيح . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد بينت للناس في كل زمان ومكان أن دين الإسلام هو الدين الحق الذى ارتضاه الله لعباده وشهد بذلك خالق هذا الكون - عز وجل - وكفى بشهادته شهادة كما شهد بذلك الملائكة المقربون والعلماء المخلصون . كما بينت أن كثيرا من الذين أوتوا الكتاب يعلمون هذه الحقيقة ولكنهم يكتمونها ظلما وبغيا ، كما بينت - أيضاً - أن الذين يدخلون فى هذا الدين يكونون بدخولهم قد اهتدوا إلى الطريق القويم ، وأن الذين يعرضون عنه سيعاقبون بما يستحقونه بسبب هذا الإعراض عن الحق المبين .
{ فَإنْ حَآجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّهِ وَمَنِ اتّبَعَنِ وَقُلْ لّلّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن حاجّك يا محمد النفر من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه ، فخاصموك فيه بالباطل ، فقل : انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي ، وإنما خصّ جلّ ذكره بأمره بأن يقول : أسلمت وجهي لله ، لأن الوجه أكرم جوارح ابن آدم عليه ، وفيه بهاؤه وتعظيمه فإذا خضع وجهه لشيء ، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه . وأما قوله : { وَمَنِ اتّبَعَنِي } فإنه يعني : وأسلم من اتبعني أيضا وجهه لله معي ، ومن معطوف بها على التاء في
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { فإنْ حاجّوكَ } أي بما يأتونك به من الباطل من قولهم : خلقنا ، وفعلنا ، وجعلنا ، وأمرنا ، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحقّ ، فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعني .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمّيّينَ أأسْلَمْتُمْ فإنْ أسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدُوا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وقل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ، والأميين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلمتم ؟ يقول : قل لهم : هل أفردتم التوحيد ، وأخلصتم العبادة والألوهة لربّ العالمين دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم ، وإقراركم بربوبيتهم ، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ، ولا إله سواه ، فإن أسلموا يقول : فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله ، وإخلاص العبادة والألوهة له ، فقد اهتدوا ، يعني : فقد أصابوا سبيل الحقّ ، وسلكوا محجة الرشد .
فإن قال قائل : وكيف قيل : فإن أسلموا فقد اهتدوا عقيب الاستفهام ، وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل : هل تقوم ؟ فإن تقم أكرمك ؟ . قيل : ذلك جائز إذا كان الكلام مرادا به الأمر ، وإن خرج مخرج الاستفهام ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ } يعني انتهوا ، وكما قال جل ثناؤه مخبرا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى : { يا عيسَى ابنَ مَريمَ هلْ يَستطيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلينَا مائدةً مِنَ السماءِ } . وإنما هو مسألة ، كما يقول الرجل : هل أنت كافّ عنا ؟ بمعنى : اكفف عنا ، وكما يقول الرجل للرجل : أين أين ؟ بمعنى ؟ أقم فلا تبرح ، ولذلك جُوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله : «هَلْ أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ ؟ آمِنُوا » ففسرها بالأمر ، وهي في قراءتنا على الخبر¹ فالمجازاة في قراءتنا على قوله : { هَلْ أدُلكُمْ } وفي قراءة عبد الله على قوله : «آمِنُوا » على الأمر ، لأنه هو التفسير .
وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكتابَ والأُميّينَ } الذين لا كتاب لهم : { أأسْلَمْتُمْ فإنْ أسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمّيّينَ } قال : الأميون : الذين لا يكتبون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وإن تَوَلّوْا فَإنّما عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإنْ تَوَلّوْا } وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام ، وإخلاص التوحيد لله ربّ العالمين ، فإنما أنت رسول مبلغ ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي ، وأداء ما كلفتك من طاعتي . { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ } يعني بذلك ، والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه ، فيطيعك بالإسلام ، وبمن يتولى منهم عنه معرضا ، فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه فيعصيك بإبائه الإسلام .
تفريع على قوله : { إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } [ آل عمران : 19 ] الآية فإنّ الإسلام دين قد أنكروه ، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجّة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين ، وأنّهم ليسوا على أقلّ مما جاء به دين الإسلام .
والمحاجة مُفاعلة ولم يجىء فِعلها إلاَّ بصيغة المفاعلة . ومعنى المحاجّة المخاصمة ، وأكثر استعمال فعل حاجّ في معنى المخاطمة بالباطل : كما في قوله تعالى : { وحاجّهُ قومه } [ الأنعام : 80 ] وتقدم عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } في سورة [ البقرة : 258 ] .
فالمعنى : فإن خاصموك خاصمَ مكابرة فقل أسلمت وجهي لله .
وضمير الجمع في قوله : { فإن حاجوك } عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل معلوم من المقام ، وهو مقام نزول السورة ، أعني قضية وفد نجران ؛ فإنّهم الذين اهتمّوا بالمحاجّة حينئذ . فأما المشركون فقد تباعدَ ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الهجرة ، فانقطعت محاجّتهم ، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة .
وقد لقّن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله : { أسلمت وجهي لله } والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى : { كل شيء هالك إلاّ وجهه } [ القصص : 88 ] أي ذاته .
وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرايق ثلاث : إحداها أنّه متاركة وإعْراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بياناً ، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا ، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية ، فليست محاجّتكم إياي إلاّ مكابرة وإنكاراً للبديهيات والضروريات ، ومباهته ، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد . قال الفخر : فإن المُحِقّ إذا ابتُلي بالمُبْطل اللَّجوج يقول : أمّا أنا فمنقاد إلى الحق . وإلى هذا التفسير مال القرطبي .
وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة : { أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن } وقوله : { أأسلمتم } دون أن يقال : فأعرض عنهم وقُل سلام ، ضَرْباً من الإدماج ؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادةَ الدعوة إلى الإسلام ، بإظهار الفرق بين الدينين .
والقصد من ذلك الحرصُ على اهتدائهم ، والإعذارُ إليهم ، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } خارج عن الحاجة ، وإنّما هو تكرّر للدعوة ، أي اتْرُكْ محاجَّتهم ولا تَترك دعوتهم .
وليس المراد بالحِجاج الذي حاجَّهم به خصوصَ ما تقدم في الآيات السابقة ، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علِموه فمنهُ ما أشير إليه في الآيات السابقة ، ومنه ما طُوي ذكره .
الطريقة الثانية أنّ قوله : { فقل أسلمت وجهي } تلخيص للحجة ، واستدراج لتسليمهم إياها ، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقاً ، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني : إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليه السلام إلاّ زيادات زادتها شرائعهم ، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله : { ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] أمَرَه هنا أن يجادل الناس بمثل قوله إبراهيم : فإبراهيم قال : { إنّي وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] ومحمد عليه الصلاة والسلام قال : " أسلمت وجهي لله " أي فقد قلتُ ما قاله الله ، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك ، فكيف تنكرون أنّي على الحق ، قال : وهذا من باب التمسّك بالإلزامات وداخل تحت قوله : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] .
الطريقة الثالثة ما قاله الفخر وحاصله مع بيانه أن يكون هذا مرتبطً بقوله : { إن الذين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] أي فإن حاجّوك في أنّ الدين عند الله الإسلام ، فقل : إنّي بالإسلام أسلمتُ وجهي لله فلا ألتفتُ إلى عبادة غيره مثلكم ، فديني الذي أرسلتُ به هو الدين عند الله ( أي هو الدين الحقّ وما أنتم عليه ليس ديناً عند الله ) .
وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسّرين جعلوا قوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } خارجاً عن الحجة ؛ إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملّة إبراهيم ، ويكون مراداً منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحْضيض كقوله : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] أي قل لأولئك : أتُسلمون .
وعندي أنّ التعليق بالشرط لما اقتضى أنّه للمستقبل فالمراد بفعل : « حاجُّوك » الاستمرار على المحاجّة : أي فإن استمرّ وفدُ نجران على محاجّتهم فقل لهم قولاً فَصْلاً جامعاً للفَرْق بين دينك الذي أرسلتَ به وبين ما هُم متديّنون به . فمعنى { أسلمت وجهي لله } أخلصت عبوديتي له لا أوَجِّه وجهي إلى غيره ، فالمراد أنّ هذا كُنْه دين الإسلام ، وتَبيَّن أنَّه الدين الخالص ، وأنّهم لا يُلْفُوْن تَدَيّنهم على هذا الوصفِ .
وقوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم } معطوف على جملة الشرط المفرّعة على ما قبلها ، فيدخل المعطوف في التفريع ، فيكون تقديرُ النظم : ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب فقُل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميّين : أأسلمتم ، أي فكرِّرْ دعوتهم إلى الإسلام .
والاستفهامُ مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] . وجيء بصيغة الماضي في قوله : { أأسلمتم } دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر ، للتنبيه على أنّه يَرجو تحقق إسلامهم ، حتى يكونَ كالحاصل في الماضي .
اعلم أنّ قوله : { أسلمت وجهي لله } كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبّروا مطاويها فيهتدي الضالون ، ويزداد المسلمون يقيناً بدينهم ؛ إذ قد علمنا أنّ مجيء قوله : { أسلمت وجهي لله } عقب قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقوله : { فإن حاجوك } وتعقيبه بقوله : { أأسلمتم } أنّ المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة ، وتختصر المقاولة ، ويسهل عَرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة ، ليعلموا ما هم عليه من الديانة .
وبَيّنتْ هذه الكلمة أنّ هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه ؛ فإنّ اسمه الإسلام ، وهو مفيد معنى معروفاً في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم ، وقد حذف مفعوله ونُزِّل الفعل منزلة الفعل اللاّزم فعلم أنّ المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليهِ ، فكأنّه يقول : أسلمتُني أي أسلمتُ نفسي ، فبُين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلاّ يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد ، فعبّر عنه بقوله : ( وجهي ) أي نفسي : لظهور ألاّ يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد ، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود ، بل المعنى البَيِّن هو أن يراد بالوجه كامل الذات ، كقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] .
وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكاً له ، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله ، وتحت هذا معاننٍ جمّة هي جماع الإسلام : نحصرها في عشرة :
المعنى الأول : تمام العبودية لله تعالى ، وذلك بألاّ يعبد غير الله ، وهذا إبطال للشرك لأنّ المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه لله بل أسلم بعضَها .
المعنى الثاني : إخلاصُ العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى ، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يُقدّم مرضاةَ غير الله تعالى على مرضاة الله .
الثالث : إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضَى به الله ، ولا يصدر عنه قول إلاّ فيما أذن الله فيه أن يقال ، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة ، والأمرُ بالمعروف ، والنهيُ عن المنكر ، على حسب المقدرة والعلممِ ، والتَّصدِي للحجة لتأييد مراد الله تعالى ، وهي صفة امتاز بها الإسلام ، ويندفع بهذا المعنى النفاق ، والملق ، قال تعالى في ذكر رسوله : { وما أنا من المتكلّفين } [ يس : 86 ] .
الرابع : أن يكون ساعياً لِتَعَرُّف مرادِ الله تعالى من الناس ، ليُجري أعماله على وفقه ، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنّهم مرسلون من الله ، وتلقّيها بالتأمّل في وجود صدقها ، والتمييز بينها وبين الدعاوي الباطلة ، بدون تحفّز للتكذيب ، ولا مكابرة في تلقّي الدعوة ، ولا إعراضٍ عنها بداعي الهوى وهو الإفحام ، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة .
الخامس : امتثال ما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه ، على لسان الرسل الصادقين ، والمحافظة على اتّباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف ، وأن يذود عنه من يريد تغييره .
السادس : ألاّ يجعل لنفسه حُكماً مع الله فيما حكم به ، فلا يتصدّى للتحكّم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذِ البعض . كما حكى الله تعالى : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله لِيحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } [ النور : 48 ، 49 ] ، وقد وصف الله المسلمين بقوله : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أنْ يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم } [ الأحزاب : 36 ] ، فقد أعرض الكفّار عن الإيمان بالبعث ؛ لأنّهم لم يشاهدوا ميّتاً بُعث .
السابع : أن يكون متطلّباً لمراد الله ممّا أشكل عليه فيه ، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله : بتطلّبه من إلحاقه بنظائره التامةِ التنظيرِ بما عُلم أنّه مراد الله ، كما قال الله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقّه في الدين والاجتهاد ، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] .
الثامن : الإعراض عن الهوى المذموم في الدين ، وعن القولِ فيه بغير سلطان : { ومن أضَلُّ ممن اتّبع هواه بغير هُدًى من الله } [ القصص : 50 ] .
التاسع : أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضاً ، وجماعاتِها ، ومعاملتها الأممَ كذلك ، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات .
العاشر : التصديق بما غُيّب عنّا ، مما أنبأنا الله به : من صفاته ، ومن القضاء والقدر ، وأنّ الله هو المتصرّف المطلق .
وقوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم } إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى ، فأمّا المشركون فبعدهم عنه أشدّ البعد ظاهر ، وأمّا النصارى فقد ألَّهوا عيسى ، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله ؛ لأنّهم عبدوا مع الله غيره ، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك ، فأسّسوا الدين على حسب ما يلذّ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم .
وأما اليهود فإنّهم وإن لم يشركوا بالله قد نقضوا أصول التقوى ، فسفّهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم ، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله ، وغيّروا الأحكام اتّباعاً للهوى ، وكذّبوا الرسل ، وقتلوا الأحبار ، فأنَّى يَكون هؤلاء قد أسلموا لله ، وأكبر مُبطل لذلك هو تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه .
ثم إنّ قوله : { فإن أسلموا فقد اهتدوا } معناه : فإن التزموا النزول إلى التحقّق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا ، ولم يبق إلا أن يتّبعوك لتَلقي ما تُبَلِّغِهم عن الله ؛ لأنّ ذلك أول معاني إسلام الوجه لله ، وإن تولّوا وأعرضوا عن قولك لهم : آسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبِعة ، فإنّما عليك البلاغ ، فقوله : { فإنما عليك البللاغ } وقع موقع جواب الشرط ، وهو في المعنى علة الجواب ، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع ، أي لا تحزن ، ولا تظنّن أنّ عدم اهتدائهم ، وخيبتَك في تحصيل إسلامهم ، كان لتقصير منك ؛ إذ لم تُبعث إلاّ للتبليغ ، لا لتحصيل اهتداء المبلَّغ إليهم .
وقوله : { والله بصير بالعباد } أي مطّلع عليهم أتمّ الأطّلاع ، فهو الذي يتولّى جَزاءهم وهو يعلم أنّك بلّغت ما أمرت به .
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف « اتبعني » بإثبات ياء المتكلم في الوصل دون الوقف . وقرأه الباقون بإثبات الياء في الوصل والوقف .