اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ ءَاذَنتُكُمۡ عَلَىٰ سَوَآءٖۖ وَإِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٞ مَّا تُوعَدُونَ} (109)

قوله :{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ } آذَنْتُكُمْ أعلمتكم ، فالهمزة فيه للنقل ، قال الزمخشري : آذن منقول{[29953]} من أذن : إذا علم{[29954]} ، لكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار{[29955]} ، ومنه قوله :

{ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ }{[29956]} وقول ابن حلزة :

3742- آذَنْتَنَا بِبَيْنهَا أَسْمَاءُ{[29957]} *** . . .

وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة{[29958]} .

قوله : { على سَوَآءٍ } في محل نصب على الحال من الفاعل والمفعول معاً ، أي : مستوين بما أعلمتكم به لم نطوه على أحد منهم{[29959]} .

فصل{[29960]}

قال أبو مسلم : الإنذار على السواء الدعاء على الحرب مجاهرة كقوله : { فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ }{[29961]} وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر من أشرك أنّ حالهم مخالف لسائر حال الكفار في المجاهرة ، فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك{[29962]} . وقيل : المعنى : فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على سواء في الإبلاغ والبيان ، لأني بعثت معلماً ، والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا { رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً }{[29963]} وقيل : ( ليستوي في الإيمان ){[29964]} . وقيل : { آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ } أي : على مهل أي : لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم ، بل أمهل وأؤخر رجاء إسلامكم .

قوله : { وَإِنْ أدري } العامة على إرسال الياء ساكنة ، إذ لا موجب لغير ذلك . وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ » «وَإنْ أَدْرِيَ لَعَلَّهُ فتْنَةُ » بفتح الياءين{[29965]} ، وخرجت على التشبيه بياء الإضافة على أن ابن مجاهد أنكر هذه القراءة البتة{[29966]} . وقال ابن جنيّ : هو غلط ، لأن «أن » نافية لا عمل لها{[29967]} . ونقل أبو البقاء عن غيره أنه قال في تخريجها : أنه ألقي{[29968]} حركة الهمزة على الياء فتحركت ، وبقيت الهمزة ساكنة ، فأبدلت ألفاً{[29969]} لانفتاح ما قبلها ، ثم أبدلت همزة متحركة ، لأنها في حكم المبتدأ بها ، والابتداء بالساكن محال{[29970]} . وهذا تخريج متكلف لا حاجة إليه ، ونسبة راويها عن ابن عباس إلى الغلط أولى من هذا التكلف فإنها قراءة شاذة ، وهذا التخريج وإن وقع{[29971]} في الأولى فلا يجري في الثانية شيئاً . وسيأتي قريب من ادعاء قلب الهمزة ألفاً ثم قلب الألف همزة في قوله : { مِنْسَأَتَهُ }{[29972]} -إن شاء الله- ، وبذلك يسهل الخطب في التخريج المذكور والجملة الاستفهامية في محل نصب ب «أدْرِي » ، لأنها معلقة لها عن العمل ، وأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة ، ولو وسط لكان التركيب : أقريب ما توعدون أم بعيد ، ولكنه أخر مراعاة لرؤوس الآي{[29973]} . و «مَا تُوعَدُونَ » يجوز أن يكون مبتدأ وما قبله خبر عنه ومعطوف عليه ، وجوّز أبو البقاء فيه أن يرتفع فاعلاً ب «قَرِيبٌ » قال : لأنه اعتمد على الهمزة . قال : ويخرج على قول البصريين أن يرتفع ب «بَعِيدٌ » لأنه أقرب إليه{[29974]} . يعني أنه يجوز أن تكون المسألة من التنازع فإِن كُلاًّ من الوصفين يصح تسلطه على «مَا تُوعَدُونَ » من حيث المعنى .

فصل

المعنى{[29975]} : وما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ، يعني : القيامة أو من عذاب الدنيا . وقيل : الذي آذنهم به من الحرب لا يعلم هو قريب أم بعيد لئلا يقدر أن يتأخر ، وذلك أنَّ السورة مكية ، وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة . وقيل : ما يوعدون من غلبة المسلمين عليهم{[29976]} .


[29953]:في ب: مفعول. وهو تحريف.
[29954]:أذن بالشيء إذنا وأذنا وأذانة: علم، وآذانه الأمر وآذانه به: أعلمه، وآذنتك بالشيء أعلمتكه، وآذنته: أعلمته. قال الله عز وجل: {فقل آذنتكم على سواء} اللسان (أذن).
[29955]:قال أبو عبيدة: ("وآذنتك على سواء" إذا أنذرت عدوك وأعلمته ذلك ونبذت إليه الحرب حتى تكون أنت وهو على سواء وحذر فقد آذنته على سواء) مجاز القرآن 2/43.
[29956]:من قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من عند الله ورسوله} [البقرة: 279].
[29957]:صدر بيت من بحر الخفيف قاله الحارث بن حلزة اليشكري وعجزه: رب ثاو يمل منه الثواء *** ...... وهو مطلع معلقته. وقد تقدم.
[29958]:عند قوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279]. انظر اللباب 2/138-139.
[29959]:وذلك أن الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول، وذلك نحو جاء زيد ضاحكا. فتكون بيانا لهيئة الفاعل الذي هو زيد. ونحو ضربت عبد الله باكيا، فتكون بيانا لهيئة المفعول الذي هو عبد الله. وقد تكون الحال منهما معا، فإن كانتا متفرقتين نحو قائم وقائم فأنت مخير إن شئت فرقت بينهما، فقلت: ضربت زيدا قائما قائما، تجعل أحدهما للفاعل والآخر للمفعول. وإن شئت جمعت بينهما فقلت: ضربت زيدا قائمين، لأن الاشتراك قد وقع في الحال والعامل واحد، وصار كأنك قلت: ضربت قائما زيدا قائما، واستغنيت بالتثنية عن التفريق، و من ذلك قول عنترة: متى ما تلقني فردين ترجف *** روانف أليتيك وتستطارا وكالآية التي معنا فقوله: "على سواء" حال من الفاعل والمفعول معا في "آذنتكم" وهما: التاء والكاف والميم. وقد جوز مكي وابن الأنباري وجها آخر وهو أن يكون قوله: "على سواء" منصوبا لأنه صفة لمصدر محذوف، وتقديره: آذنتكم إيذانا على سواء. مشكل إعراب القرآن 2/88، البيان 2/166- 167، التبيان 2/930، شرح المفصل 22/232-233.
[29960]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/232-233.
[29961]:من قوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58].
[29962]:في ب: زيادة بعد قوله في ذلك: أي: أعلمتكم وأن لا صلح بيننا على سواء أي: إنذارا بينا ليتأهبوا لما يراد بكم، أي: آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به.
[29963]:من قوله تعالى: {ولو أنا أهلكناهم من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزي} [طه: 134].
[29964]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[29965]:في المحتسب (2/68): روى أيوب عن يحيى عن ابن عامر أنه قرأ "وإن أدري لعله"، وإن أدري أقريب" بفتح الياء فيهما جميعا.
[29966]:انظر المحتسب 2/68-69.
[29967]:لم أجد ما قاله ابن جني فيما رجعت إليه من كتبه، وهو في التبيان 2/920.
[29968]:في ب: التي. وهو تحريف.
[29969]:ألفا: سقط من الأصل.
[29970]:التبيان 2/930.
[29971]:في الأصل: يقع.
[29972]:من قوله تعالى: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته} [سبأ: 14]. حيث قرأ نافع وأبو عمرو "منسأته" بألف من غير همز، وقرأ الباقون بهمزة مفتوحة إلا ابن ذكوان فإنه سكن الهمزة. السبعة (527)، الكشف 2/203.
[29973]:انظر البحر المحيط 6/344.
[29974]:التبيان 2/930.
[29975]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/233. بتصرف.
[29976]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/233. بتصرف.