اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا} (3)

قوله : { والنهار إِذَا جَلاَّهَا } ، الفاعل : ضمير النهار .

وقيل : عائد على الله تعالى ، والضمير المنصوب ، إمَّا للشمس ، وإما للظُّلمة ، وإما للأرض .

ومعنى «جلاها » أي : كشفها ، فمن قال : هي «الشمس » ، فالمعنى : أنه يبين بضوئه جرمها ، ومن قال : هي «الظلمة » ، فهي ون لم يجر لها ذكر ، كقولك : أضحتْ باردةً ، تريد : أضحت غداتنا باردة ، وهو قول الفراء والكلبي وغيرهما .

ومن قال : هي الدنيا والأرض ، وإن لم يجر لهما ذكر ، كقوله : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] .

قوله : «إذَا تَلاهَا » ، وما بعده فيه إشكال ؛ لأنه إن جعل شرطاً اقتضى جواباً ، ولا جواب لفظاً ، وتقديره غير صالح ، وإن جُعِلَ محضاً استدعى عاملاً وليس هنا عامل إلا فعل القسم حال ؛ لأنه إنشاء ، و«إذا » ظرف مستقبل ، والحال لا يعمل في المستقبل .

ويخص «إذا » وما بعدها إشكال آخر ذكره الزمخشري ، قال{[60271]} : فإن قلت : الأمر في نصب «إذَا » معضل ، لأنك لا تخلو إمَّا أن تجعل الواو عاطفة ، فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك : «مررت أمس بزيد واليوم عمرو » ، وإمَّا أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه .

قلت : الجواب فيه : أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحاً كلياً ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادة مسدهما معاً ، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو ، فحقهن أن يكنّ عوامل على الفعل ، والجار جميعاً ، كما تقول : «ضَرب زيد بكراً وعمرو خالداً » ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام «ضرب » الذي هو عاملهما انتهى .

وقال أبُو حيَّان{[60272]} : أما قوله في واوات العطف : «فتنصب وتجر » ، فليس هذا بالمختار على أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل ، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه ، ثم إن الإنشاء حجة في ذلك .

وقوله : «فتقع في العطف على عاملين » ، ليس ما في الآية من العطف عاملين ، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب ، على اسمين مجرور ومنصوب ، فصرف العطف لم ينب مناب عاملين ، وذلك نحو قولك : مررت بزيد قائماً وعمرو جالساً ؛ وأنشد سيبويه في كتابه : [ الطويل ]

5219- فَلَيْسَ بِمعروفٍ لَنا أنْ نَرُدَّهَا *** صِحَاحاً ولا مُسْتنكَرٌ أن تُعَقَّرَا{[60273]}

فهذا من عطف مجرور ومرفوع ؛ والعطف على عاملين فيه أربعة مذاهب ، ونسب الجواز إلى سيبويه .

وقوله في نحو قولك : «مررت أمس بزيد واليوم عمرو » ، هذا المثال مخالف لما في الآية ، بل وزان ما في الآية : «مررت بزيد أمس وعمرو اليوم » ونحن نجيز هذا .

وأمَّا قوله : «على استكراه » ، فليس كما ذكر ، بل كلام الخليل على المنع .

قال الخليل في قوله تعالى : { والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 1-3 ] : «الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء » .

وأما قوله : «إن واو القسم ليس يطرح معها إبراز الفعل اطراحاً كلياً » فليس هذا الحكم مجمعاً عليه ، بل أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو ، فتقول : «أقسم ، أو أحلف والله لزيد قائم » .

وأما قوله : «والواوات العواطف نوائب عن هذا » إلى آخره ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل ، وليس هذا بالمختار .

قال : والذي يقول : إن المُعضلَ هو تقدير العامل في «إذا » بعد الإقسام ، كقوله تعالى : { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] ، { والليل إِذْ أَدْبَرَ والصبح إِذَآ أَسْفَرَ } [ المدثر : 33 ، 34 ] ، { والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 2-4 ] ، وما أشبهها ف «إذا » ظرف مستقبل ، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ؛ لأنه فعل إنشائي ، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول ، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم ، ومجيء الليل ، لأنه معمول لذلك الفعل [ فالطلوع حال ، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل ، سيما إن كان جزماً ]{[60274]} ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه ، ويكون ذلك العامل في موضع الحال ، وتقديره : والنجم كائناً إذا هوى والليل كائناً إذا يغشى ، لأنه لا يلزم كائناً منصوباً بالعامل ، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً ، وأيضاً ، فقد يكون المقسم به جثة ، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث كما لا تكون أخباراً . انتهى ما رد به أبو حيان وما استشكله من أمر العامل في «إذا » .

قال شهاب الدين{[60275]} : المختار أن حرف العطف لا يعمل لقيامه مقام العامل ، فلا يلزم أبا القاسم لأنه يختار القول الآخر ، وقوله «ليس ما في الآية من العطف على عاملين » ممنوع بل فيه العطف على عاملين ولكنه في غموض ، وبيان أنه من العطف على عاملين ، أن قوله : { والنهار إِذَا جَلاَّهَا } - هاهنا - معمولان ، أحدهما مجرور وهو «النهار » والآخر منصوب وهو الظرف عطفاً على معمول عاملين والعاملان هنا في فعل المقسم به ، الناصب ل «إذا » الأولى ، وواو القسم الجارة ، فقد تحقق معك عاملان ، لهما معمولان ، فإذا عطفت مجروراً على مجرور ، وظرفاً على ظرف ، معمولين لعاملين ، لزم ما قاله أبو القاسم ، وكيف يجهل هذا مع التأمل والتحقيق ؟ ! .

وأما قوله : «وأنشد سيبويه » إلى آخره ، فهو اعتراف منه بأنه من العطف على عاملين ، غاية ما في الباب أنه استند إلى حكمه لسيبويه ، وأما قوله : أجاز ابن كيسان ، فلا يلزم مذهبه ، وأما قوله : فالمثال ليس كالآية بل وزانها ، إلى آخره ، فصحيح لما فيه من تقديم الظرف الثاني على المجرور والمعطوف والآية والظرف فيها متأخر ، وإنما مراد الزمخشري وجود معمول عاملين ، وهو موجود في المثال المذكور إلا أن في الآية إشكالاً آخر ، وهو كالتكرير للمسألة ، وأما قوله : بل كلام الخليل يدل على المنع ، إلى آخره ، فليس فيه ردٌّ عليه بالنسبة إلى قصده بل فيه تقوية لما قال ، غاية ما في الباب أنه عبر بالاستكراه عن المنع ، ولم يفهم المنع ، وقوله : ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف ، إلى آخره ، فأقول : بل يجوز تقديره ، وهو العامل ، ولا يلزم ما قاله من اختلاف الزمانين ، لأنه يجوز أن يقسم [ الآن بطلوع النجم في المستقبل ، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل ، ويجوز أن يقسم ]{[60276]} بالشيء الذي سيوجد وقوله «ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه » إلى آخره ، ليس بممنوع بل يجوز ذلك ويكون حالاً مقدرة ، وقوله «ويلزم ألاَّ يكون له عامل » ليس كذلك بل له عامل وهو فعل القسم ، ولا يضر كونه إنشائياً ، لأن الحال مقدرة كما تقدم ، وقوله «وقد يكون المقسم به جثة » جوابه : يقدر حينئذ حدث ، يكون الظرف الزماني حالاً عنه وسئل ابن الحاجب عن هذه المسألة ، فأجاب بنحو ما ذكرناه والله اعلم ، ولا يخلو الكلام فيها من بحث .


[60271]:الكشاف 4/758.
[60272]:البحر المحيط 8/374.
[60273]:البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه ص 50، وأمالي المرتضى 1/268 وجمهرة أشعار العرب 2/785، وشرح أبيات سيبويه 1/241، والكتاب 1/64 وخزانة الأدب 7/181، والمقتضب 4/194، 200.
[60274]:سقط من أ.
[60275]:ينظر: الدر المصون 6/529.
[60276]:سقط من ب.