مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

قوله تعالى : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } .

اعلم أن هذا من النوع الثاني من الأحكام التي ذكرها في هذه السورة وهو حكم الأنكحة وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : الأقساط العدل ، يقال أقسط الرجل إذا عدل ، قال الله تعالى : { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } والقسط العدل والنصفة ، قال تعالى : { كونوا قوامين بالقسط } قال الزجاج : وأصل قسط وأقسط جميعا من القسط وهو النصيب ، فإذا قالوا : قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه ، ألا ترى أنهم قالوا : قاسطته إذا غلبته على قسطه ، فبنى قسط على بناء ظلم وجار وغلب ، وإذا قالوا أقسط فالمراد أنه صار ذا قسط عدل ، فبنى على بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه .

المسألة الثانية : اعلم أن قوله : { وإن خفتم أن لا تقسطوا } شرط وقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } جزاء ، ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزء بهذا الشرط ، وللمفسرين فيه وجوه : الأول : روي عن عروة أنه قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ، إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : «وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة رضي الله عنها : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } قالت : وقوله تعالى : { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } المراد منه هذه الآية وهي قوله : { وإن خفتم أن لا تقسطوا } .

الوجه الثاني : في تأويل الآية : أنه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير ، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى ، فتحرجوا من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر ، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء ، فقالوا عدد المنكوحات ، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج .

الوجه الثالث : في التأويل : أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات .

الوجه الرابع : في التأويل : ما روي عن عكرمة أنه قال : كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام ، فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا ، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى } عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف ، فإن خفتم في الأربع أيضا فواحدة ، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع ، والناقص وهو الواحدة ، ونبه بذلك على ما بينهما ، فكأنه تعالى قال : فإن خفتم من الأربع فثلاث ، فإن خفتم فاثنتان ، فإن خفتم فواحدة ، وهذا القول أقرب ، فكأنه تعالى خوف من الإكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة إلى الإنفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير .

أما قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا } .

ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال أصحاب الظاهر : النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية ، وذلك لأن قوله { فانكحوا } أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، وتمسك الشافعي في بيان أنه ليس بواجب بقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات أو ما ملكت أيمانكم } إلى قوله : { ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم } فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله ، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب ، فضلا عن أن يقال إنه واجب .

المسألة الثانية : إنما قال : { ما طاب } ولم يقل : من طاب لوجوه : أحدها : أنه أراد به الجنس تقول : ما عندك ؟ فيقول رجل أو امرأة ، والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك ، وما تلك الحقيقة التي عندك ، وثانيها : أن ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر ، وتقديره : فانكحوا الطيب من النساء ، وثالثها : أن «ما » و«من » ربما يتعاقبان . قال تعالى : { والسماء وما بناها } وقال : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان ما سبح له الرعد ، وقال : { فمنهم من يمشى على بطنه } ورابعها : إنما ذكر «ما » تنزيلا للإناث منزلة غير العقلاء . ومنه : قوله : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } .

المسألة الثالثة : قال الواحدي وصاحب «الكشاف » : قوله { ما طاب لكم } أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها ، وهي الأنواع المذكورة في قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } وهذا عندي فيه نظر ، وذلك لأنا بينا أن قوله : { فانكحوا } أمر إباحة . فلو كان المراد بقوله : { ما طاب لكم } أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال : أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم : وذلك يخرج الآية عن الفائدة ، وأيضا فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة ، لأن أسباب الحل والإباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة ، أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب ، كانت الآية عاما دخله التخصيص . وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الإجمال والتخصيص كان رفع الإجمال أولى ، لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلا .

المسألة الرابعة : { مثنى وثلاث ورباع } معناه : اثنين اثنين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، وهو غير منصرف وفيه وجهان : الأول : أنه اجتمع فيها أمران : العدل والوصف ، أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى ، كما تقول : عمر وزفر وتريد به عامرا وزافرا ، فكذا ههنا تريد بقولك : مثنى : ثنتين ثنتين فكان معدولا ، وأما أنه وصف ، فدليله قوله تعالى : { أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع } ولا شك أنه وصف .

الوجه الثاني : في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة أن فيها عدلين لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه ، وأيضا أنها معدولة عن تكررها فإنك لا تريد بقولك : مثنى ثنتين فقط ، بل ثنتين ثنتين ، فإذا قلت : جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الإخبار عن مجيء هذا العدد فقط ، أما إذا قلت : جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين ، فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف ، وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف ، لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه ، وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم .

المسألة الخامسة : قال أهل التحقيق : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } لا يتناول العبيد وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها ، والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه ، ويدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء } فقوله : { لا يقدر على شىء } ينفي كونه مستقلا بالنكاح ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر » فثبت بما ذكرناه أن هذه الآية لا يندرج فيها العبد .

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد ، وقال مالك : يحل للعبد أن يتزوج بالأربع وتمسك بظاهر هذه الآية .

والجواب الذي يعتمد عليه : أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه : الأول : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } وهذا لا يكون إلا للأحرار ، والثاني : أنه تعالى قال :

{ فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان ، فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق .

أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك ، ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس ، قالوا : أجمعنا على أن للرق تأثيرا في نقصان حقوق النكاح ، كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر ، والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم .

المسألة السادسة : ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد ، واحتجوا بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا . والثاني : أن قوله : { مثنى وثلاث ورباع } لا يصلح تخصيصا لذلك العموم ، لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا ، فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان ، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقا ، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقا ، ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة ، بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا ههنا ، وأيضا فذكر جميع الأعداد متعذر ، فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد . والثالث : أن الواو للجمع المطلق فقوله : { مثنى وثلاث ورباع } يفيد حل هذا المجموع ، وهو يفيد تسعة ، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر ، لأن قوله : مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية . وأما الخبر فمن وجهين : الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع ، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : { فاتبعوه } وأقل مراتب الأمر الإباحة . الثاني : أن سنة الرجل طريقته ، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك سنة له ، ثم إنه عليه السلام قال : «فمن رغب عن سنتي فليس مني » فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز .

واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين : الأول : الخبر ، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أمسك أربعا وفارق باقيهن ، وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام : " أمسك أربعا وفارق واحدة " .

واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين : الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز . والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز ، إما بسبب النسب ، أو بسبب الرضاع ، وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله .

الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان : الأول : أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ ، فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية . الثاني : أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع ، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد .

والجواب عن الأول : الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الثاني ، أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته .

فإن قيل : فإذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : مثنى أو ثلاث أو رباع ، فلم جاء بواو العطف دون «أو » ؟

قلنا : لو جاء بكلمة «أو » لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك إلا على أحد هذه الأقسام ، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين ، ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا ههنا الفائدة في ترك «أو » وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم .

المسألة السابعة : قوله : { مثنى وثلاث ورباع } محله النصب على الحال مما طاب ، تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا .

قوله تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المعنى : فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها ، فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة ، سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ، ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر ، لا عليك أكثرت منهم أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم لم تعزل .

المسألة الثانية : قرئ { فواحدة } بنصب التاء والمعنى : فالتزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا ، فإن الأمر كله يدور مع العدل ، فأينما وجدتم العدل فعليكم به ، وقرئ { فواحدة } بالرفع والتقدير : فكفت واحدة ، أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم .

المسألة الثالثة : للشافعي رحمه الله أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من النكاح ، وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري ، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة ، كما إذا قال الطبيب : كل التفاح أو الرمان ، فإن ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض ، وكما أن الآية دلت على هذه التسوية ، فكذلك العقل يدل عليها ، لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت ، وكل ذلك حاصل بالطريقين ، وأيضا إن فرضنا الكلام فيما إذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها ، فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري ، وإذا ثبت بهذه الآية أن التزوج والتسري متساويان . فنقول : أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح ؛ لأن الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة .

ثم قال تعالى : { ذلك أدنى أن لا تعولوا } وفيه مسألتان .

المسألة الأولى : المراد من الأدنى ههنا الأقرب ، والتقدير : ذلك أقرب من أن لا تعولوا وحسن حذف «من » لدلالة الكلام عليه .

المسألة الثانية : في تفسير { أن لا تعولوا } وجوه : الأول : معناه : لا تجوروا ولا تميلوا ، وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين ، وروي ذلك مرفوعا ، روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ذلك أدنى ألا تعولوا } قال : ( لا تجوروا ) وفي رواية أخرى «أن لا تميلوا » قال الواحدي رحمه الله : كلا اللفظين مروي ، وأصل العول الميل يقال : عال الميزان عولا ، إذا مال ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار ، لأنه إذا جار فقد مال . وأنشدوا لأبي طالب .

بميزان قسط لا يغل شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير عائل

وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم ، فقال له : أتعول علي ، ويقال : عالت الفريضة إذا زادت سهامها ، وقد أعلتها أنا إذا زدت في سهامها ، ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل ، ثم اختص بحسب العرف بالميل إلى الجور والظلم . فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب إليه الأكثرون .

الوجه الثاني : قال بعضهم : المراد أن لا تفتقروا ، يقال : رجل عائل أي فقير ، وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته ، وإذا قلت نفقاته لم يفتقر .

الوجه الثالث : نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : { ذلك أدنى أن لا تعولوا } معناه : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم ، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية : أن معناه : أن لا تميلوا ولا تجوروا ، وثانيها : أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل : ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما ، فأما تفسير { تعولوا } بتعيلوا فإنه خطأ في اللغة ، وثالثها : أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء ، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين ، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال . وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا ، وهو أنه تعالى قال في أول الآية : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } ولم يقل أن تفتقروا ، فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط ، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل ، وذلك هو الجور لا كثرة العيال . وأنا أقول :

أما السؤال الأول : فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية : أن لا تجوروا ولا تميلوا ، ولكنه ذكر فيه وجها آخر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها ، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة ، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف ، وأيضا : فمن الذي أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين ، وكيف لا نقول ذلك ، ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ : ذلك أدنى أن لا تعيلوا ، وإذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة ، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى ، فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن .

وأما السؤال الثاني : فنقول : أنك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد ، لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والأعلام ، وشدة بلادتك ، ما عرفت أن هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد ، وبيان فساده من وجوه : الأول : أنه يقال : عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرة ، وهذا المعنى قريب من الميل لأنه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الإرادة وإذا كان كذلك كان معنى الآية : ذلك أدنى أن لا تكثروا ، وإذا لم تكثروا لم يقع الإنسان في الجور والظلم لأن مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة ، وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير إلى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور .

الوجه الثاني : إن الإنسان إذا قال : فلأن طويل النجاد كثير الرماد ، فإذا قيل له ما معناه ؟ حسن أن يقال : معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة ، وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة ، بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى . وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض ، وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه ، فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور ، والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور ، لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور ، فجعل هذا تفسيرا له لا على سبيل المطابقة ، بل على سبيل الكناية والاستلزام ، وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله ، والشافعي لما كان محيطا بوجوه أساليب المطابقة ، بل على سبيل الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام ، فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب ، لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه .

الوجه الثالث : ما ذكره صاحب «الكشاف » وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك : عال الرجل عياله يعولهم . كقولهم : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب ، فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن ، وأن الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة .

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو مملوكة فجوابه من وجهين : الأول : ما ذكره القفال رضي الله عنه ، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب ، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا ، وحينئذ تقل العيال أما إذا كانت المرأة حرة لم يكن الأمر كذلك فظهر الفرق . الثاني : أن المرأة إذا كانت مملوكة فإذا عجز المولى عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها ، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الإنفاق عليها ، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر ، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة .

وأما السؤال الرابع : وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم ، فالجواب عنه من وجهين : الأول : ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح ، لأنه لو حمل على الجور لكان تكرارا لأنه فهم ذلك من قوله : { وإن خفتم ألا تقسطوا } أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى . الثاني : أن نقول : هب أن الأمر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق إلى ذكر التفسير الأول ، لكن على سبيل الكناية والتعريض ، وإذا كان الأمر كذلك فقد زال هذا السؤال ، فهذا تمام البحث في هذا الموضع ، وبالله التوفيق .