قوله تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) .
سبب نزول هذه الآية أن عروة بن الزبير وهو ابن أسماء بنت أبي بكر الصديق قد سأل عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليّها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليّها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن{[687]} .
وعلى العموم فإن الآية من حيث سببها متعلقة بالخشية من الحيف يوقعه الوليّ على اليتيمة التي تكون في حجره فيما إذا رغب أن يتزوجها . فعليه إذ ذاك أن يعدل إلى من سواها من النساء تجنبا للظلم أن يقع على اليتيمة .
وقبل الحديث عن هذه الآية بالتفصيل فإنه ينبغي أن نعرض لحملة الحقد والتشويه المضلل التي يثيرها أعداء الإسلام في كل زمان ومكان حول تعدد الزوجات . وهي حملة عارمة خبيثة يثيرها خصوم الإسلام من المنافقين والكافرين ، يستوي في ذلك أن الحافز إلى مثل هذه الحملة هو الحقد المركوز في تلك الصدور أو الجهل المطبق الذي يركب رؤوس كثير من المضللين والواهمين والمخدوعين .
على أن الحكم من الناحية الشرعية هنا أن نصم بالكفر أو الردّة كل من يتطاول على الإسلام بما يلصق به شيئا من عيب أو نقيصة . فإن الإسلام هو دين الله وهو فوق كل العيوب والشبهات ، وأكمل من أن تناله نقائص أو قوادح .
أما تعدد الزوجات فهو حقيقة صريحة لا تقبل المواربة أو التأويل المتكلف . وهو كذلك إجراء إسلامي ممتاز يحسب للأمور والأحداث والظروف كل حساب . وليس الإسلام قاصرا عل أمة معينة ولا هو رهن بفترة من الزمان تمر كأي زمان . ولكن الإسلام دين البشرية مهما ازدادت أو انتشرت وهو كذلك دين الزمان كله إلى أن ينتهي الزمان كله . وعلى ذلك فإنه قمين بالإسلام أن تتحقق فيه كل عناصر الحيطة والتحسب لكافة الأحوال والملابسات فردية كانت أم جماعية كيلا يقف عاجزا عن مراعاة الظروف مهما امتدت أو الفطرة كيفما تباينت أو تفاوتت .
والإسلام بطبيعته دين وسط يقوم على الاعتدال والتوازن ويجانب التفريط أو المغالاة . فهو لا يفرض الزواج من واحدة فقط مهما تكن الظروف ، وهو لا يدع أمر النكاح بغير ضبط أو تحفظ ، فلا تفريط يحمل بواعث الضيق والتنطع والإحراج ، ولا إفراط أو مغالاة تسوق إلى الإسراف في تلفت وتسيب . بل إن الإسلام يقف من هذه المسألة الخطيرة خير موقف وينتهج أسلم أسلوب . فهو يدعو إلى الزواج أولا ويحذر من التبتّل والعزوبة . فإن كانت الحال عل السلامة والوئام بحيث يغمرها الرضى والطمأنينة والقناعة فبها ونعمت . أما إن كان ثمة ظروف ملحة تفرض شيئا من التعدد تحت اعتبارات شتى فلا مناص إذ ذاك من اللجوء إلى التعدد . وتلكم هي الاعتبارات أو بعضها :
أولها : المرض العضال يصيب الزوجة فيقعدها عن الالتزام بمهام الزوجية وفي مقدمتها المسيس . ولا يستطيع الزوج في حالة كهذه أن يطل مضطلعا بمشقة الاصطبار إلى زمن طويل حتى إنه يخشى عليه من التورط في أسباب العنت والانزلاق إذا ما سدت في وجهه سبل الزواج من أخرى .
ثانيها : العقم فقد تكون المرأة عقيما لا تلد . وفي ذلك من المضايقة والحرج ما لا يخفى إلا إذا أبيح للزوج أن ينكح أخرى عسى أن يرزق النسل . والإنسان مفطور على حب النسل ، وهو تظل تخالطه نسائم الشوق والحنين لأبناء وأحفاد تقرّ بهم عينه وتطمئن لهم نفسه . وعلى ذلك فإن من أشد ألوان المرارة التي تحيق بالنفس البشرية أن تسأم التشريع الذي يحرم عليها سببا يقود إلى النسل .
ثالثها : الحرب . وتلك حقيقة لا شك في وقوعها بين الحين والآخر . ذلك أن البشرية دائمة التطاحن والاقتتال المدمر . والشعوب والدول إذا ما اختلفت فإنها لا تتردد في اللجوء إلى أقسى السبل لفض المشكلات والخلافات ، وهي الحرب . وهي سبيل معلومة في العود على البشرية والمجتمعات بالقتل . ولا ريب أن يكون القتل في الرجال من أبرز مظاهر الحرب . الحرب التي تذهب بالرجال وتستبقي النساء لأنهن لطبيعتهن أقل اضطلاعا بواجب القتال . وفي ذلك بيان واضح في اختلال النسبة بين الرجال والنساء من حيث العدد ، فلا مناص عندئذ من معالجة الموقف بغير التعدد في الزواج ، وإلا وقعت مشكلات اجتماعية ونفسية خطيرة لسوف تفضي في الغالب إلى مفاسد وانحرافات .
رابعها : التباين بين الأفراد من حيث المطلب الغريزي . بمعنى أن ثمة تفاوتا متحققا بين الرجال في الرغبة . والناس في أمور الحياة كلها متفاوتون ، فهم متفاوتون من حيث أخلاقهم وأمزجتهم ، و من حيث طاقاتهم ومهاراتهم و من حيث قدراتهم العقلية والنفسية والروحية والبدنية ’ ومن حيث رغائبهم في المال أو البنين أو الطعام . وهم كذلك متفاوتون من حيث رغائبهم في شهوة الجنس . إذ يفترقون في هذا المجال لتتراوح النفوس والرغبات بين الفتور أو الاعتدال أو الشدة . وتلك هي سنة الله في الناس والخلائق أجمعين .
ومن جهة أخر فإن الإسلام دين صريح ومستبين ، يخاطب الإنسان عل نحو مكشوف وواضح وبغير مواربة أو ازورار . ذلك أن الإسلام يعترف للإنسان بما ركّب فيه من شهوات مركوزة فهو ( الإسلام ) يدعوه للأخذ بحظه من هذه الشهوات بعيد عن التحيل أو التدسس في الظلام . إن الإسلام بذلك يدعو بكل صراحة لا تعرف المجاملة أو التكلف إلى أن يمارس الإنسان الشهوة بالطريقة المشروعة الحلال من خلال التعاقد المشهود عل ملأ من الناس . أما أن تكون ممارسة الشهوة في غياهب الظلام وفي بطون المواخير حيث التلصص والخيانة وموات الضمير فذلك ما يأباه الإسلام ويعلن عليه الحرب والنكير . نقول ذلك ونحن نقف على حقائق مذهلة من أفاعيل الأفاكين دعاة التحرر الذين يعيبون على الإسلام صراحته النظيفة في التعدد مع أنهم مرتكسون في حمأة الأوساخ والقاذورات التي تتلطخ بها بيوت الدعارة والخنا ومواخير الفاحشة والرذيلة . وهذه هي الصورة التي يرتضيها المفسدون دعاة التحرر ويدعون لتطبيقها خيانة في الظلام وممارسة الرذيلة في خسة مخبوءة في أوكار الوحل والدنس . أما أن يتم ذلك بالتعاقد المشروع المشهود من خلال نكاح شرعي حلال فإن ذلك أمر مشين ومقبوح يعيبه المفسدون دعاة التحرر المبتذل ! ! إن هؤلاء لا يعارضون أن يقارف الرجل الشهوة مع عشرات النساء في المواخير وبيوت الدعارة ، أم أن يمارسها في زواج ثان مشروع ومحسوب فذلك تأخر ورجعية كما يتصور الأفاكون المضللون ! !
ثم متى يقع الحيف على الزوجة الثانية الجائية من جراء التعدد في الزواج ؟ إنه لم يوقع أحد عليها حيفا ؛ لأنها ارتضت الزواج بنفسها من غير قسر أو إكراه . ولو أن شيئا من القسر أو الإكراه قد وقع عليها حين الزواج لجاز أن تعتبر محيفة لكنها هي التي ارتضت لنفسها ذلك بمحض رغبتها ومطلق إرادتها .
أما الزوجة الأولى التي قد جيء إليها بضرة فإنها ليس لها أن ترفض حقا لزوجها لتحرمه من التمتع به تحت مختلف الأحوال والظروف كما بينا آنفا . لكنها إن وقع عليها حيف بسبب هذا الزواج وكان الحيف حقيقيا وخطيرا ومتعمدا من الزوج نفسه بحيث يترتب عليها من ذلك ضرر كيفما كان ، فإن لها أن ترفع الأمر إل القضاء . وشأن القاضي في ذلك أن يرفع عنها الضرر حتى ولو أد ذلك إلى التطليق .
بعد هذا الكلام لا نتصور أن حيفا أو ضررا حقيقيا يقع على إحدى الزوجتين . ولو أن شيئا من ذلك وقع فإنه لا يساوي حيفا أو ضررا يحيق بالرجل من جرّاء إكراه على الاكتفاء بواحدة مهما تكن الظروف . لا جرم أن إكراهه في ذلك مدعاة لكثير من احتمالات الجنوح وفساد النفس والأعصاب .
ولا نتصور كذلك أن مثل هذه الشبهة غير اجترار تلغط به حناجر الذين يكرهون الإسلام لدوافع شتى منها الحقد أو الحسد ، ومنها التقليد في نعيق سفيه أعمى للأجانب من شرقيين ملاحدة أو غربيين صليبيين واستعماريين وجميعهم يلتقون على صعيد الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين .
قوله : ( فأنكحوا ما طاب لكم من النساء ) قد يرض سؤال هنا : كيف جاءت " ما " للادميين مع أنها تستعمل لغير العاقل . فقد قيل في ذلك عدة أقوال لعل خيرها أن " من " و " ما " قد يتعاقبان . ومثل ذلك قول الله سبحانه : ( والسماء وما بناها ) أي ومن بناها . وقوله أيضا : ( فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي عل رجلين ومنهم من يمشي على أربع ) . وعلى ذلك فإن هذين الاسمين يتعاقبان وقيل : ( ما ) هنا للصفة أي انكحوا الطيب من النساء أي الحلال والأمر في قوله : ( فأنكحوا ) للإباحة لا للوجوب على الأرجح . أي أن الله جلت قدرته قد أباح للمؤمنين الزواج ممن يحل من النساء . فقد اكتفى بذكر من يجوز نكاحها ؛ لأن المحرمات من النساء كثير .
قوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) إعراب كل من هذه الأعداد النصب على البدل من الاسم الموصول " ما " وكل من هذه الأعداد نكرة لا تنصرف ؛ لأنها معدولة من لفظها . بمعنى أم مثنى معدولة عن اثنين ، وثلاث معدولة عن ثلاثة ، ورباع معدولة عن أربعة . {[688]} وتعني الآية إباحة التعدد بالخيار من الواحدة حتى الرابعة دون زيادة . وأي زواج من خامسة مع وجود أربع زوجات فهو باطل غير معتبر ولا مشروع . ولا يدل هذا العدد الوارد في الآية وهو المثنى والثلاث والرباع على إباحة تسع زوجات بزعم أن الواو تفيد الجمع . فإن هذا الفهم فاسد ؛ لمجانبته للظاهر المحكم من الكتاب والسنة ولمخالفته لما أجمع عليه سلف الأمة وخلفها مثلما هو مخالف للسان العرب . فالعرب لا تقول اثنين وثلاث وأربعة بدلا من قولها تسعة . وثمة فهم خر أشد قبحا ونكرا تمسك به بعض الروافض فقالوا بإباحة الجمع بين ثماني عشرة زوجة قائلين : إن العدد في هذه الألفاظ يفيد التكرار وأن الواو للجمع . فمثن تعني اثنين اثنين . وثلاث تعني ثلاثة ثلاثة . فأفاد ذلك إباحة الزواج من ثماني عشرة زوجة معا . وذلك مناف للشريعة واللغة في آن واحد .
وعلى ذلك فإن التحديد بأربع زوجات للإباحة أمر لا يقبل الجدال . وفي ذلك قد أخرج الإمام مالك في الموطأ وكذلك النسائي والدارقطني في سننهما أن النبي ( ص ) قال لغيلان بن أمية الثقفي بعد أن أسلم وله من الزوجات عشر نسوة : " اختر منهن أربعا وفارق سائرهن " .
وأخرج أبو داود في سننه عن الحارث بن قيس قال : أسلمت وعندي ثماني نسوة فذكرت ذلك للنبي ( ص ) فقال : " اختر منهن أربعا " .
أما ما أبيح للنبي ( ص ) فوق أربع فإن ذلك من خصوصياته وذلك أمر مبني على بواعث وأسباب فرضتها اعتبارات شتى من التشريع الذي يتعلق بهدم لمفاهيم وتصورات جاهلية ، أو التحبب لمختلف بطون العرب ورجالاتهم ذوي الصولة والمكانة ، أو الحدب على المضيعات من النساء المسلمات اللواتي انقطعت بهن الأسباب بعد ممات أزواجهن فتعرضن للفتنة والضياع وغير ذلك من الاعتبارات التي تحركها المصلحة العليا للدعوة الإسلامية .
وبذلك فإن الاحتجاج بزواج النبي من تسع لا يصلح دليلا في هذا المجال . أما قولهم بأن الواو جامعة فإن ذلك مخالف لقواعد اللسان العربي السليم . فالله سبحانه قد خاطب العرب بأفصح اللغات ولا يعقل أن تقول العرب اثنين وثلاثة وأربعة ولا تقول تسعة . والصحيح أن الواو في هذا الموضع تعني البدل فيكون المعنى : انكحوا ثلاث بدلا من مثنى ، ورباع بدلا من ثلاث .
وكذلك قولهم بأن العدل يفيد التكرار تنفيه أبسط أساليب اللغة . فالعرب لا تقول أربعة ستة ثمانية بدلا من قولها ثماني عشرة .
وقوله : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) واحدة منصوب بإضمار فعل تقديره : انكحوا واحدة . ذلك يعني أنكم إن خشيتم عدم العدل بين الزوجات من حيث النفقة والقسم والعشرة والجماع ( فواحدة ) أي ينبغي الوقوف عند واحدة دون غيرها ؛ كيلا يكون في التعدد حيف أو مجانبة للعدل . وقرئت واحدة بالرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف . والتقدير : فهي واحدة . {[689]}
وقوله : ( أو ما ملكت أيمناكم ) يريد بذلك الإماء . أي يجب الاكتفاء بواحدة أو ما تيسر من الإماء وهن ملك اليمين . ويجدر بنا أن نقف هنا وقفة لنبيّن مسألة ظالما خاض فيها المبطلون والجاحدون ليثيروا حول الإسلام الظنون والشبهات ، وليبعثوا في نفوس المسلمين كل ظواهر الشك والوهن .
أما الإماء أو ملك اليمين أو الجواري فإن ذلك كله ناشئ عن موضوع رئيس قد استغله الخصوم أبشع استغلال وذلك هو نظام الرق . ومن الحقيقة المغمورة التي تخف على كثير من الناس أن الإسلام قد عالج مسألة الرقيق على خير ما يكون عليه العلاج ، عل نحو يستأصل هذا النظام من أساسه لو قدر للإسلام أن يظل مهيمنا على الحياة ومؤثرا في المجتمع من غير إعاقة ولا تعثير .
وحقيقة المسألة أن نظام الرق كان متفشيا في العالم كله في غير ما غرابة أو استقباح . فقد كان من الأمور العادية تماما أن ينتشر الرقيق والإماء في كل مكان ، سواء كان ذلك في البيت أو الحقل أو دوائر الدولة . حتى يمكن القول بأن هذا النظام كان يمثل الدعامة الأساسية التي يستند إليها النظام الاقتصادي والاجتماعي لدى المجتمعات في الأزمنة الخالية . لقد كان نظام الرق مشروعا ومعتبرا لدى جميع النظم والشرائع والأديان التي سبقت الإسلام . فلم تنكره التوراة ولا الإنجيل ولا شريعة حمورابي ولا مذهب كونفوشيوس ولا فلسفة الإغريق وعلى رأسهم أرسطو وأفلاطون لم يستنكر هؤلاء نظام الرقيق ، بل العكس هو الذي كان واقعا . فلقد كان نظام الرقيق يحظى بتقدير وإقرار العلماء والفلاسفة والمشرعين في الأزمنة الخالية جميعها . وهنا يأتي دور الإسلام في المسألة . فقد جيء بالإسلام إلى هذه الدنيا وهي على حالها من تفشي ظاهرة العبيد في كل مجالات الحياة . ومن العسير البالغ أن يعمد الإسلام لتحريم الرق طفرة واحدة من غير توطئة ولا مقدمات . ولو عمد الإسلام لهذا التحريم أول مقدمه لكان في ذلك مدعاة لانهيار اجتماعي ونفسي مرير لا يطاق . لكن الإسلام وهو يعالج مسألة الرق قد سلك في ذلك سبيلين يؤديان إلى زوال هذا النظام بالكامل ثم الخلاص نهائيا من الرق وما يتعلق به من توابع وذيول .
وهي تبديد أسباب الرق للقضاء على كل مظاهره ووجوده . وفي ذلك استئصال لمنابع هذا النظام من جذوره بإبادة كل مقدماته ودواعيه التي تؤول إليه . يتبين ذلك في تحريم أسباب الرق كتحريم الإسلام للظلم والاستعباد بغير حق أو إيجاب الانتظار من الدائن للمدين حتى المسيرة فلا يسترقه مقابل دينه الذي يعجز عن أدائه . قال سبحانه : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إل ميسرة ) . وكان من عادة العرب الجاهلين إذا استقرض منهم الفقير مالا ولم يستطع أن يؤديه عند حلول أجله ، استرقه الدائن في مقابل دينه . لكن ذلك في الإسلام محظور البتة وعلى الدائن أن ينتظر حتى ميسرة المدين .
وعلى هذا فإن نظام الرق لا يلبث أن يتبدد ويتلاش مع مرور الزمن مادامت أسبابه وبواعثه قد أوقفت ، أو مادامت أبوابه التي تؤدي إليه قد أوصدت ، نتصور ذلك ونحن نتخيل نهرا كبيرا جاريا له روافد عديدة تمده بالأمواه من كل مكان حتى إذا تلاقت جميعا تمخضت عن نهر كبير جار . ولا سبيل إلى تجفيف هذا النهر الكبير إلا إذا عولنا عل تجفيف روافده وأسبابه . وتلك هي الحال بالنسبة للرق الذي كانت له دواع ومؤديات كثيرة قد عمد الإسلام من أول يوم لإيقافها وتحريمها كيما يتسنى لهذا النظام أن يتلاش ويضمحل .
وهي التحرير أي تحرير الرقاب المسترقة من إسار العبودية إلى حيث الانعتاق والحرية . وللإسلام في ذلك دوره العظيم فيما يتعلق بتحرير الرقيق نهائيا . وقد تجلى ذلك في دعوة الإسلام من أجل إعتاق العبيد حتى أقبل المسلمون جميعا في همة عظيمة ونخوة لا يحدها حد من أجل إعتاق العبيد لا لمطمع مادي أو دنيوي بل ابتغاء وجه الله ومرضاته .
وقد شرع الإسلام من أجل ذلك حكمين . أحدهما يفيد الوجوب المفروض وثانيهما يفيد المندوب المستحب ، وفي كلا الحكمين يكون المعتق مأجورا و له من ربه كبير المثوبة . أما حكم الوجوب المفروض فهو منتشر في جوانب شتى من السلوك والتصرفات التي تتعلق بمخالفات يرتكبها الناس في حياتهم كلما زلوا أو أخطأوا .
ومن جملة ذلك القتل الخطأ والحنث باليمين والظهار والجماع حال الصيام وغير ذلك من المخالفات . فإن من يجترح شيئا من ذلك فقد بات لزاما عليه أن يعتق رقبة .
أما حكم المندوب المستحب فهو ينتشر في كل جوانب الحياة بغير حدود . وهو حكم لا يتجاوز حد الندب والاستحباب وقد أهاب الإسلام بالمسلمين جميعا أن يسخوا في همة وتضحية في العتق . لقد هتف الإسلام بالمسلمين هتافا حانيا مؤثرا يخاطب الحس والوجدان ، وينفذ إلى القلب في صميمه كيما يسارعوا في نخوة عارمة لا تتردد من أجل تحرير العبيد . وقد استجاب المسلمون في مختلف الأزمنة والأمكنة لنداء الإسلام بالتحرير حتى كان الناس يتسابقون في سخاء وشهامة رفيعة على الإعتاق عن طيب خاطر . فكانت ظاهرة العتق للعبيد مثار اهتمام المسلمين واستباقهم المتزاحم على التحرير .
بمثل هذا التشريع يتبدد نظام الرق ويذوي ليتلاش رويدا رويدا . وتبعا لذلك فلسوف تنتهي مسألة الإماء أو الجواري . وهي مسألة لصيقة بنظام الرق أصلا . وليس بعد ذلك لمتحذلق مغرض أن يطعن في الإسلام طعنا يصمه بالكفر أو الردة ولا يجترئ على مثل هذا الطعن الغادر إلا معتد خصيم أو جاهل يلغط في نعيق كنعيق الغربان .
إن الإسلام فوق كل شبهة ، وهو يسمو على الطعون لو قدّر لبني ادم أن يقفوا عل هذا الدين في تشريعه وتصوره وفكره . وأن يعوه في تدبر وتبصر بعيدا عن التعصب والحقد والجهل .
وقوله : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) تعولوا من العول وهو الميل والجور والمعنى : أن الاكتفاء بواحدة أو ما ملكت أيمانكم أقرب إلى أن لا تميلوا عن الحق والعدل فتحيفوا وتظلموا . نقول : عال الميزان عولا إذا مال . وعال الحاكم في حكمه إذا جار . وقيل : تعولوا من العيلة وهي الفقر . مصدر عال يعيل فهو عائل أي فقير ، والجمع عالة . وقال الإمام الشافعي في تأويل ( ألا تعولوا ) : ألا تكثر عيالكم{[690]} .