المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

قرأ جمهور الناس : «تفسحوا » ، وقرأ الحسن وداود بن أبي هند{[11008]} : «تفاسحوا » ، وقرأ جمهور القراء : «في المجلس » ، وقرأ عاصم وحده وقتادة وعيسى : «في المجالس » . واختلف الناس في سبب الآية والمقصود بها ، فقال ابن عباس ومجاهد والحسن : نزلت في مقاعد الحرب والقتال .

وقال زيد بن أسلم وقتادة : نزلت بسبب تضايق الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر إليه ، فيأتي الرجل الذي له الحق والسن والقدم في الإسلام فلا يجد مكاناً ، فنزلت بسبب ذلك . وقال مقاتل : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ليجلس أشياخ من أهل بدر ونحو ذلك فنزلت الآية ، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس فيه الرجل ولكن تفسحوا يفسح الله لكم »{[11009]} ، وقال بعض الناس : إنما الآية مخصوصة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في سائر المجالس ، ويدل على ذلك قراءة من قرأ : «في المجلس » ، ومن قرأ «في المجالس » فذلك مراده أيضاً لأن لكل أحد مجلساً في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وموضعه فتجمع لذلك ، وقال جمهور أهل العلم : السبب مجلس النبي عليه السلام ، والحكم في سائر المجالس التي هي للطاعات ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أحبكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة وركباً في المجالس »{[11010]} ، وهذا قول مالك رحمه الله وقال : ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ : «في المجالس » ، ومن قرأ : «في المجلس » فذلك على هذا التأويل اسم جنس فالسنة المندوب إليها هي التفسح والقيام منهي عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى أن يقوم الرجل فيجلس الآخر مكانه ، فأما القيام إجلالاً فجائز بالحديث قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ : «قوموا إلى سيدكم »{[11011]} ، وواجب على المعظم ألا يحب ذلك ويأخذ الناس به لقوله عليه السلام : «من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار »{[11012]} .

وقوله تعالى :{ يفسح الله لكم } معناه : في رحمته وجنته ، وقوله تعالى : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } معناه : إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك ، ومنه نشوز العظام أي نباتها ، والنشز من الأرض المرتفع ، واختلف الناس في هذا النشوز الذي أمروا بامتثاله إذا دعوا إليه . فقال الحسن وقتادة والضحاك معناه : إذا دعوا إلى قتال أو طاعة أو صلاة ونحوه ، وقال آخرون معناه : إذا دعوا إلى القيام عن النبي عليه السلام لأنه كان أحياناً يحب الانفراد في آمر الإسلام فربما جلس قوم وأراد كل واحد أن يكون آخر الناس عهداً بالنبي عليه السلام ، فنزلت الآية آمرة بالقيام عنه متى فهم ذلك بقول أو فعل ، وقال آخرون معناه : { انشزوا } في المجلس بمعنى التفسح لأن الذي يريد التوسعة يرتفع إلى فوق في الهواء فإذا فعل ذلك جملة اتسع الموضع ، فيجيء { انشزوا } في غرض واحد مع قوله { تفسحوا } ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم : «انشُزوا » برفع الشين وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والأعرج .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر السين فيهما ، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة . يقال : نشز ينشِز كحشر يحشِر ويحشُر وعكف يعكِف ويعكُف . وقوله{ يرفع الله } جواب الأمر ، واختلف الناس في ترتيب قوله تعالى :{ الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ، فقال جماعة من المتأولين المعنى :{ يرفع الله } المؤمنين العلماء منكم{ درجات } ، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ويجيء على هذا قوله :{ والذين أوتوا العلم } بمنزلة قولك جاءني العاقل والكريم والشجاع ، وأنت تريد بذلك رجلاً واحداً ، وقال آخرون المعنى :{ يرفع الله } المؤمنين والعلماء الصنفين جميعاً { درجات } ، لكنا نعلم تفاضلهم في الدرجات من مواضع أخرى ولذلك جاء الأمر بالتفسح عاماً للعلماء وغيرهم ، وقال عبد الله بن مسعود وغيره :{ يرفع الله الذين آمنوا منكم } وتم القول ، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ونصبهم بإضمار فعل ، فالمؤمنون رفع على هذا التأويل وللعلماء درجات ، وعلى هذا التأويل قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع ، ثم توعد تعالى وحذر بقوله : { والله بما تعملون خبير } .


[11008]:هو داود بن أبي هند، القشيري، مولاهم، أبو بكر أو أبو محمد، البصري، ثقة متقن، من الطبقة الخامسة، مات سنة أربعين، وقيل قبلها.(تقريب التهذيب).
[11009]:أخرجه البخاري في الاستئذان والجمعة، ومسلم في السلام، وأبو داود والترمذي في الأدب، والدارمي في الاستئذان، وأحمد في المسند(2-17، 45، 338)، ولفظه كما في الأدب، والدارمي في الاستئذان، وأحمد في المسند(2-17، 45، 338)، ولفظه كما في مسند أحمد(لا يقم الرجل الرجلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا).
[11010]:لم أقف عليه.
[11011]:أخرجه البخاري في العتق والاستئذان، وأبو داود في الأدب، وأحمد في مسنده(3-22، 6-142)، ولفظه فيه: عن أبي أمامة بن سهل قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار، قال: فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، أو خيركم، ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: تُقتل مقاتلتهم وتُسبى ذراريهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أفضيت بحكم الله، وربما قال: قضيت بحكم الملك.
[11012]:أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، عن معاوية، ورمز له الإمام السيوطي بأنه حديث حسن.