فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ( 11 ) } .

{ تفسحوا } توسعوا .

{ انشزوا } انهضوا وقوموا .

وهذه تزكية أخرى يزكي الله بها أهل الإيمان ، نهاهم قبل ذلك عن النجوى ، أو أن يضيقوا بتناجي الأعداء ويغتموا له ، فإن الله ولي المؤمنين ، وفي هذه الآية الكريمة أرشدهم إلى ما به يتحابون ، وأن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس –وكأنهم كانوا يضنون بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأمروا أن يوسع بعضهم لبعض إذا قيل لهم توسعوا ، وأن يقدم الواحد منهم أخاه على نفسه إذا أمر أن يترك مكانه لغيره ، فإن لأهل السبق في الإيمان ، ولأهل العلم الذي يرسخ اليقين بالحق فضل وتقدم ، ورفعة مقام عند الله ، فلنقدم ولنوقر من أعلى المولى أقدارهم ؛ وربنا خبير بعمل كل عامل ، ومجاز كل ساع بسعيه .

مما روى صاحب [ الجامع لأحكام القرآن . . . ] : وقال ابن عباس : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب ؛ قال الحسن . . : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول فالأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة ، فنزلت . . . وقال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة وكان في المكان ضيق يوم الجمعة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم ، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله من غير أهل بدر : ( قم يا فلان وأنت يا فلان ) بعدد القائمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم ، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا : ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية . .

قلت : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة ، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه . . لكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه .

روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقيم الرجل الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه ) . . . روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فقعد فيه ولكن يقول افسحوا ) . . . يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به . . . ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال : ( يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك ) وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس .

قلت : والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية ؛ فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا ؛ وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة ، فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير : { إذا جاء نصر الله والفتح } فسكتوا ، فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه ؛ فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ؛ وفي البخاري عن عبد الله بن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بين قيس ابن حصن ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان أكثر أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، كهولا كانوا أو شبانا . . . وفي صحيح مسلم أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال : من استعملته على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى ؛ فقال : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا ؛ قال : فاستعملت عليهم مولى ؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض ؛ قال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) . . اه .