فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

قوله : { يأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } يقال : فسح له يفسح فسحاً : أي وسع له ، ومنه قولهم بلد فسيح . أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضاً بالتوسعة في المجلس وعدم التضايق فيه . قال قتادة ومجاهد والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصفّ الأوّل ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال لتحصيل الشهادة { فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ } أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة ، أو في كلّ ما تريدون التّفسّح فيه من المكان والرزق وغيرهما . قرأ الجمهور : { تَفَسَّحُوا فِي المَجْلِسِ } وقرأ السلمي وزرّ بن حبيش وعاصم : ( في المَجَالِسِ ) على الجمع ، لأن لكلّ واحد منهم مجلساً ، وقرأ قتادة والحسن وداود بن أبي هند وعيسى بن عمر : ( تفاسحوا ) قال الواحدي : والوجه التوحيد في المجلس ، لأنه يعني به مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كلّ مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر ؛ سواء كان مجلس حرب ، أو ذكر ، أو يوم الجمعة ، وأن كلّ واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه ، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه ، ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم وغيرهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا » { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } قرأ الجمهور بكسر الشين فيها ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضمها فيهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال : نشز : أي ارتفع ، يَنْشِزُ وَيَنْشُزُ كعكف يعكف ويعكف ، والمعنى : إذا قيل لكم انهضوا فانهضوا . قال جمهور المفسرين : أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير . وقال مجاهد والضحاك وعكرمة : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة ، فقيل لهم : إذا نودي للصلاة فانهضوا . وقال الحسن : انهضوا إلى الحرب . وقال ابن زيد : هذا في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا } عن النبيّ { فَانشُزُواْ } فإن له حوائج فلا تمكثوا . وقال قتادة : المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، والظاهر حمل الآية على العموم ؛ والمعنى : إذا قيل لكم : انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تتثاقلوا ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصاً ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق ، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجاً أوّلياً ، وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجلس اندراجاً أوّلياً ، وقد قدّمنا أن معنى نشز : ارتفع ، وهكذا يقال : نشز ينشز : إذا تنحى عن موضعه ، ومنه امرأة ناشز : أي متنحية عن زوجها ، وأصله مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى ، ذكر معناه النحاس { يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ } في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما { والذين أُوتُواْ العلم درجات } أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة ، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات ، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات ، وقيل : المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك الذين أوتوا العلم ، وقيل : المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرؤوا القرآن . والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة ، ولا دليل يدلّ على تخصيص الآية بالبعض دون البعض ، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله ، وقد دلّ على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشرّ ، فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشرّ شراً .

/خ13