الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ في المجالس } الآية ، وقرأ عاصم : ( في المَجَالِسِ ) قال زيد بن أسلم وقتادة : هذه الآية نزلت بسبب تضايُقِ الناس في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك أَنَّهُمْ كانوا يتنافسون في القُرْبِ منه وسَمَاعِ كلامه والنظر إليه ، فيأتي الرجلُ الذي له الحَقُّ والسِّنُّ والقَدَمُ في الإسلام ، فلا يجد مكاناً ، فنزلت بسبب ذلك ، وروى أبو هريرة أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ فِيهِ الرَّجُلُ ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ " ، قال جمهور العلماء : سببُ نزولِ الآية مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ثم الحكم مُطَّرِدٌ في سائر المجالس التي هي للطاعات ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " أَحَبُّكُمْ إلَى اللَّهِ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ في الصَّلاَةِ ، وَرُكَباً في المَجَالِسِ " ، وهذا قول مالك رحمه اللَّه ، وقال : ما أرى الحكم إلاَّ يَطَّرِدُ في مجالس العلم ونحوها غَابِرَ الدهر ؛ قال ( ع ) : فالسنة المندوبُ إليها هي التفسُّحُ ، والقيامُ مَنْهِيٌّ عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، حيثُ نهى أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ ؛ فَيَجْلِسَ الآخر مَكَانَهُ .

( ت ) : وقد روى أبو دَاوُدَ في «سننه » عن سَعِيدِ بْنِ أبي الحَسَنِ قال : «جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ في شَهَادَةٍ ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ ، وَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَنَهَى أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ » وروى أبو داودَ عن ابن عمر قال : جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ ، فَذَهَبَ لِيَجْلِسَ فِيهِ ، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » انتهى . قال ( ع ) : فَأَمَّا القيام إجلالاً فجائز بالحديث ، وهو قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ : " قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ " وواجب على المُعَظَّمِ أَلاَّ يُحِبَّ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ النَّاسَ بِهِ ؛ لقوله عليه السلام : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَاماً ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " .

( ت ) : وفي الاحتجاج بقضية سعد نظر ؛ لأَنَّها احْتَفَّتْ بِها قرائن سَوَّغَتْ ذلك ؛ انظر السير ، وقد أطنب صاحب المدخل في الإنحاء والرَّدِّ على المجيزين للقيام ، والسلامةُ عندي تركُ القيام .

وقوله تعالى : { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } معناه : في رحمته وَجَنَّتِهِ .

( ص ) : { يَفْسَحِ } مجزوم في جواب الأمر ، انتهى . { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } معناه : ارتفعوا ، وقوموا فافعلوا ذلك ؛ ومن «رياض الصالحين » للنوويِّ : وعن عمرو بن شُعَيْبٍ ، عن أبيه ، عن جَدِّهِ ، أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : " لاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا " .

رواه أبو داودَ ، والترمذيُّ وقال : حديث حسن ، وفي رواية لأبي داودَ : " لاَ يَجْلِسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا " وعن حُذَيْفَةَ - رضي اللَّه عنه - أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الحَلْقَةِ " ، رواه أبو داود بإسناد حسن ، وروى الترمذيُّ عن أبي مِجْلِزٍ ؛ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : " مَلْعُونٌ على لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، أَوْ لَعَنِ اللَّهُ على لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ " قال الترمذيُّ : حديث حسن صحيح ، انتهى .

وقوله سبحانه : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ } الآية : قال جماعة : المعنى : يرفع اللَّه المؤمنين العلماءَ درجاتٍ ؛ فلذلك أمر بالتفسُّح من أجلهم ، وقال آخرون : المعنى : يرفع اللَّه المؤمنين والعلماءَ الصنفينِ جميعاً درجاتٍ ، لَكِنَّا نعلمُ تفاضُلَهم في الدرجات من مواضعَ أُخَرَ ؛ فلذلك جاء الأمر بالتفسح عامًّا للعلماء وغيرهم ، وقال ابن مسعود وغيره : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ } وهنا تَمَّ الكلامُ ، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ، ونصبهم بإضمار فعلٍ ، فللمؤمنين رفع على هذا التأويل ، وللعلماء درجات ، وعلى هذا التأويل قال مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّخِّيرِ : فَضْلُ العلمِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَضْلِ العِبَادَةِ ، وخيرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ ، وروى البخاريُّ وغيره عن أبي موسى عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بهِ مِنَ الهدى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً ، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الماء ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ ؛ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا ، وَسُقُوا ، وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أخرى إنَّما هِيَ قِيَعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءَ ، وَلا تُنْبِتُ كَلأً ؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " انتهى .