الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ } الآية ، قال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ( عليه السلام ) ، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .

وقال ( المقاتلان ) : " كان النبي ( عليه السلام ) في الصفّة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين الأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر وفيهم ثابت بن قيس بن شماس ، وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليكم أيّها النبّي ورحمة الله ، فردّ عليهم النبي ( عليه السلام ) ثم سلّموا على القوم بعد ذلك ، فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبي ( عليه السلام ) ما يحملهم على القيام فلم يفسحوا لهم ، فشقّ ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار والتابعين من غير أهل بدر : " قم يا فلان وأنت يا فلان " ، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر ، فشقّ ذلك على من أُقيم من مجلسه ، وعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم ( عليه السلام ) الكراهية في وجوهم ، فقال المنافقون للمسلمين : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس ؟ فوالله ما عدل على هؤلاء ، إنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مقامهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية " .

وقال الكلبي : نزلت في ثابت بن قيس بن الشماس وقد ذكرت هذه القصّة في سورة الحجرات فأنزل الله عزّ وجلّ في الرجل الذي لم يتفّسح له { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ } : توسّعوا ، ومنه قولهم : مكان فسيح إذا كان واسعاً في المجلس .

قرأ السلمي والحسن وعاصم ( فِي الْمَجَالِسِ ) بالألف على الجمع ، وقرأ قتادة : ( تفاسحوا ) بالألف فيهما ، وقرأ الآخرون ( تَفَسَّحُواْ ) ( في المجْلس ) يعنون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم واختاره أبو حاتم وأبو عبيد قال : لأنّه قراءة العامّة ، مع أن المجلس يؤدي معناه عن المجالس كلّها من مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ( عليه السلام ) وغيره .

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال : حدّثنا فليح ، عن أيوب بن عبد الرحمن بن صعصعة [ الأنصاري ، عن يعقوب ] بن أبي يعقوب ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم " .

وقال أبو العالية والقرظي : هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصّف فيقول لهم : توسّعوا ، فيأبون عليه لحرصهم على القتال ، فأمرهم الله سبحانه أن يفسح بعضهم لبعض . وهذه رواية العوفي عن ابن عباس .

قال الحسن : بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين وصفّ أصحابه للقتال تشاحّوا على الصف الأوّل ليكونوا في أوّل غارة القوم ، فكان الرجل منهم يجيء إلى الصّف الأوّل فيقول لإخوانه : توسّعوا لي ؛ ليلقى العدوّ ويصيب الشهادة ، فلا يوسّعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .

{ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ } قرأ عاصم وأهل المدينة والشام بضم الشينين ، وقرأ الآخرون بكسرهما . وهما لغتان ، يعني وإذا قيل لكم : قوموا وتحرّكوا وارتفعوا وتوسّعوا لإخوانكم فافعلوا .

وقال أكثر المفسّرين : معناه : وإذا قيل لكم : انهضوا إلى الصلاة والجهاد والذكر وعمل الخير أي حق كان فانشزوا ولا تقصّروا .

قال عكرمة والضحاك : يعني إذا نودي للصلاة فقوموا لها ، وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة إذا نودي لها ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .

وقال ابن زيد : هذا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن كلّ رجل منهم كان يحبّ أن يكون آخر عهده رسول الله ، فقال الله سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ } عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّ له حوائج { فَانشُزُواْ } ولا تطلبوا المكث عنده

{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } بطاعتهم رسول الله وقيامهم من مجالسهم وتفسّحِهم لإخوانهم { وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } منهم بفضل علمهم وسابقتهم { دَرَجَاتٍ } فأخبر الله سبحانه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أُمر وأنّ أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا ، وأنّ النفر من أهل بدر مستحقّون لما عوملوا من الإكرام { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عامر البلخي قال : حدّثنا القاسم ابن عبّاد قال : حدّثنا صالح بن محمّد الترمذي قال : حدّثنا المسيّب بن شريح ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن قال : قرأ ابن مسعود هذه الآية { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } فقال : أيّها الناس ، افهموا هذه الآية ولِتَرَغّبكم في العلم فإن الله سبحانه يقول : يرفع الله المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات .

وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه قال : أخبرنا صالح ابن مقاتل ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة ، وفضل النبيّ صلى الله عليه وسلم على العالم درجة ، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من جاءته منّيته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة " .