قوله تعالى : { وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون* أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال ابن عباس والحسن وقتادة : معناه ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه ؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ، ولا يحرم ما حرم الله . وقال آخرون : معناه اتخذ معبوده هواه فيعبد ما تهواه نفسه . قال سعيد بن جبير : كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئاً أحسن من الأول رموه أو كسروه ، وعبدوا الآخر . قال الشعبي : إنما سمي الهوى ؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار . { وأضله الله على علم } منه بعاقبة أمره ، وقيل على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه ، { وختم } طبع ، { على سمعه } فلم يسمع الهدى ، { وقلبه } فلم يعقل الهدى ، { وجعل على بصره غشاوةً } قرأ حمزة والكسائي : " غشوة بفتح الغين وسكون الشين ، والباقون ( غشاوة ) ظلمة فهو لا يبصر الهدى ، { فمن يهديه من بعد الله } أي : فمن يهديه بعد أن أضله الله ، { أفلا تذكرون* }
وقوله تعالى : { أفرأيت } سهل بعض القراء الهمزة وخففها قوم ، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود مخففة ، وفي مصحف أبي بن كعب : «أفرايت » دون همز . وهذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن المعرضين عن الإيمان ، أي لا تعجل بهم ولا تهتم بأمرهم ، فليس فيهم حيلة لبشر ، لأن الله تعالى أضلهم . وقال ابن جبير : قوله : { إلهه هواه } إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة المعنى : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف الله ، وهذا كما يقال : الهوى إله معبود .
وقرأ الأعرج وابن جبير : «آلهة هواه » على التأنيث في «آلهة » .
وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة ، قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلا ذمه . وقال الشعبي : سمي هوى لهويه بصاحبه . وقال النبي عليه السلام : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله »{[10275]} وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وقال سهل : إذا شككت في خير أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . ومن حكمة الشعر في هذا قول القائل :
إذا أنت لم تعص الهوى قادك ال . . . هوى إلى كل ما فيه عليك مقال{[10276]}
وقوله تعالى : { على علم } قال ابن عباس المعنى : على علم من الله تعالى سابق . وقالت فرقة : أي على علم من هذا الضال بأن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه ، فتكون الآية على هذا من آيات العناد من نحو قوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }{[10277]} [ النمل : 14 ] وعلى كلا التأويلين : ف { على علم } ، حال .
وقوله تعالى : { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } استعارة كلها ، إذ هو الضال لا ينفعه ما يسمع ولا ما يفهم ولا ما يرى ، فكأنه بهذه الأوصاف المذكورة ، وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها ، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله : { اتخذ } وفي قوله : { على علم } على التأويل الأخير فيه ، ولو لم ينص على الاكتساب لكان مراداً في المعنى .
وقرأ أكثر القراء «غِشاوة » بكسر الغين . وقرأ عبد الله بن مسعود : «غَشاوة » بفتح الغين وهي لغة ربيعة ، وحكي عن الحسن وعكرمة : «غُشاوة » بضم الغين وهي لغة عكل ، وقرأ حمزة والكسائي : «غَشْوة » بفتح الغين وإسكان الشين .
و قرأ الأعمش وابن مصرف بكسر الغين دون ألف .
وقوله : { من بعد الله } فيه حذف مضاف تقديره : من بعد إضلال الله إياه .
وقرأ عاصم وأراه الجحدري : «تذكرون » بتخفيف الذال . وقرأ جمهور الناس : «تذّكرون » على الخطاب أيضاً بتشديد الذال . وقرأ الأعمش : «تتذكرون » بتاءين .
لما كان الذين حسبوا أن يكونوا في الآخرة في نعمة وعزة كما كانوا في الدنيا قالوا ذلك عَنْ غير دليل ولا نظر ولكن عن اتباع ما يشتهون لأنفسهم من دوام الحال الحسن تفرع على حسبانهم التعجيب من حالهم ، فعطف بالفاء الاستفهامُ المستعملُ في التعجيب ، وجعل استفهاماً عن رؤية حالهم ، للإشارة إلى بلوغ حالهم من الظهور إلى حد أن تكون مرئية .
وأصل التركيب : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } الخ ، فقدمت همزة الاستفهام ، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود من معه من المسلمين ، أو الخطاب لغير معيّن ، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب .
و { مَنْ } الموصولة صادقة على فريق المستهزئينَ الذين حسبوا أن يكون مَحْياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقوله : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا } [ الجاثية : 24 ] الخ .
والمعنى : أن حجاجهم المسلمين مركَّز على اتباع الهوى والمغالطةِ ، فلا نهوض لحجتهم لا في نفس الأمر ولا فيما أرادوه ، على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث ، وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدَى فلا يستطيع غيره هداهم .
و { إلهه } يجوز أن يكون أطلق على ما يلازم طاعته حتى كأنه معبود فيكون هذا الإطلاق بطريقة التشبيه البليغ ، أي اتخذ هواه كإله له لا يخالف له أمراً . ويجوز أن يبقى { إلهه } على الحقيقة ويكون { هواه } بمعنى مَهْوِيَّهُ ، أي عبد إلها لأنه يحب أن يعبده ، يعني الذين اتخذوا الأصنام آلهة لا يقلعون عن عبادتها لأنهم أحبوها ، أي ألِفوها وتعلقت قلوبهم بعبادتها ، كقوله تعالى : { وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } [ البقرة : 93 ] .
ومعنى { أضلّه الله } أنه حفّهم بأسباب الضلالة من عقول مكابرة ونفوس ضعيفة ، اعتادت اتباع ما تشتهيه لا تستطيع حَمل المصابرة والرضى بما فيه كراهية لها . فصارت أسماعهم كالمختوم عليها في عدم الانتفاع بالمواعظ والبراهين ، وقلوبُهم كالمختوم عليها في عدم نفوذ النصائح ودلائل الأدلة إليها ، وأبصارُهم كالمغطاة بغشاوات فلا تنتفع بمشاهدة المصنوعات الإلهية الدالة على انفراد الله بالإلهية وعلى أنَّ بعد هذا العالم بعثاً وجزاء .
ومعنى { على علم } أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم ، أي عقول سليمةٍ أوْ مع أنهم بلغهم العِلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام .
فحرف { على } هنا معناه المصاحبة بمعنى ( مع ) وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف . وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني ( على ) كما في قول الحارث بن حلزة :
فيَقيناً على الشَّنَاءة تَنْمينا *** حُصون وعِزّة قعساء
والمعنى : أنه ضال مع مَا له من صفة العلم ، فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى .
وقرأ الجمهور { غشاوة } بكسر الغين وفتح الشين بعدها ألف . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { غَشْوةٌ } بفتح الغين وسكون الشين وهو من التسمية بالمصدر وهي لغة . وتقدم معنى الختم والغشاوة في أول سورة البقرة .
وفرع على هذه الصلة استفهام إنكاري أن يكون غيرُ الله يستطيع أن يهديهم ، والمراد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لشدة أسفه لإعراضهم وبقائهم في الضلالة .
و { من بعد الله } بمعنى : دون الله ، وتقدم عند قوله تعالى : { فبأيّ حديثٍ بعده يؤمنون } آخر سورة الأعراف ( 185 ) .
وفرع على ذلك استفهام عن عدم تذكر المخاطبين لهذه الحقيقة ، أي كيف نَسُوها حتى ألحُّوا في الطمع بهداية أولئك الضالّين وأسفوا لعدم جدوى الحجة لديهم وهو استفهام إنكاري .
ومن المفسرين من حمل { مَن } الموصولة في قوله { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } على معيَّن فقال مقاتل : هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينَه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل : والله إني لأعْلَم إنه لصادق فقال له المغيرة : مَهْ ، وما دَلَّكَ على ذلك ، قال : كنّا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تمّ عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن قال : فما يمنعك أن تؤمن به قال : تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كِسرَة ، واللاتِ والعُزّى إنْ اتبعتُه أبداً فنزلت هذه الآية . وإذا صح هذا فإن مطابقة القصة لقوله تعالى : { وأضله الله على علم } ظاهرة . وعن مقاتل أيضاً : أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين كان يَعْبُد من الأصنام ما تهواه نفسه .
وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق ، فإذا كان الحق محبوباً لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعاً للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيامَ رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث « أرِحْنا بها يا بلال » يعني الإقامة للصلاة . وعن عبد الله بن عمْرو بن العاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به » وعن أبي الدرداء « إذا أصبح الرجل اجتمع هَواه وعَمله وعلمه فإن كان عمَلُه تبعاً لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعاً لِعلمه فيومه يوم صالح » . وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة .
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه *** ولم ينْه قلباً غاوياً حيثُ يَمَّمَا
فيوشك أن تَلقَى له الدهرَ سبَّة *** إذا ذُكرت أمثالها تَمْلأ الفما
ومن الكلمات المأثورة « ثلاث من المهلكات : شُحّ مطاع ، وهوًى متبع ، وإعجاب المرأ بنفسه » ويروى حديثاً ضعيف السند .
وقدم السمع على القلب هنا بخلاف آية سُورة البقرة { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } [ البقرة : 7 ] لأن المخبَر عنهم هنا لما أخبر عنهم بأنهم اتخذوا إلههم هواهم ، فقد تقرر أنهم عقدوا قلوبهم على الهوى فكان ذلك العَقد صَارفاً السمع عن تلقي الآيات فَقُدِّمَ لإفَادةِ أنهم كالمختوم على سمعهم ، ثم عطف عليه { وقلبِه } تكميلاً وتذكيراً بذلك العقد الصارف للسمع ثم ذكر ما { على بصره } من شبهِ الغشاوة لأن ما عقد عليه قلبه بصره عن النظر في أدلة الكائنات .
وأما آية سورة البقرة فإن المتحدث عنهم هم هؤلاء أنفسهم ولكن الحديث عنهم ابتدىء بتساوي الإنذار وعدمه في جانبهم بقوله : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [ البقرة : 6 ] فلما أريد تفصيله قدم الختم على قلوبهم لأنه الأصل كما كان اتخاذ الهوى كالإله أصلاً في وصف حالهم في آية سورة الجاثية . فحالة القلوب هي الأصل في الانصراف عن التلقي والنظر في الآيتين ولكن نظم هذه الآية كان على حسب ما يقتضيه الذكر من الترتيب ونظم آية البقرة كان على حسب ما يقتضيه الطبْع . وقرأ الجمهور { أفلا تذكرون } بتشديد الذال . وقرأه عاصم بتخفيف الذال وأصله عند الجميع { تتذكرون } . فأما الجمهور فقراءتهم بقلب التاء الثانية ذالاً لتقارب مخرجيهما قصداً للتخفيف ، وأما عاصم فقراءته على حذف إحدى التاءين .
ابن العربي: قال المخزومي: سمعت مالكا يقول: لا يرى شيئا إلا عبده.
ابن كثير: عن مالك فيما روي عنه من التفسير: لا يهوى شيئا إلا عبده.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ دينه بهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا يحرّم ما حَرّمَ، ولا يحلل ما حَلّلَ، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ معبوده ما هويت عبادته نفسه من شيء.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحقّ، الذي له الألوهة من كلّ شيء؛ لأن ذلك هو الظاهر من معناه دون غيره.
"وأضَلّهُ اللّهُ على عِلْمٍ": وخذله عن محجة الطريق، وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي، ولو جاءته كل آية.
"وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ": وطَبَعَ على سمعه أن يسمع مواعظ الله وآي كتابه، فيعتبر بها ويتدبرها، ويتفكر فيها، فيعقل ما فيها من النور والبيان والهُدى.
"وَقَلْبِهِ": وطبع أيضا على قلبه، فلا يعقل به شيئا، ولا يعي به حقا.
وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غَشاوَةً: وجعل على بصره غشاوة أن يبصر به حجج الله، فيستدلّ بها على وحدانيته، ويعلم بها أن لا إله غيره.
"فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ": فمن يوفّقه لإصابة الحقّ، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه.
"أفَلا تَذَكّرُونَ" أيها الناس، فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا، فلن يهتدي أبدا ولن يجد لنفسه وليا مرشدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأضلّه الله على علم} هذا يُخرّج على وجوه: أحدها: أي أضلّه الله على علم من ذلك الإنسان بالطريق الهدى والحق، لا أنه أضلّه على خفاء من ذلك الإنسان بالطريق الحق وسبيله، أي قد بيّن له السبيل والطريق الحق.
{وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غِشاوة} هذا يخرّج على وجهين: أحدهما: أي غطّى قلبه بما هوِيه، وجعل فيه ظُلمة؛ فتلك الظُلمة وذلك الغطاء أوجبه غطاء السمع والبصر، وحال بينه وبين سماع الحُجج والبراهين، وصارت ظلمة البصر وغطاؤه مانعا له عن اكتساب التدبّر والتفكّر.
والثاني: يحتمل أن يكون ما هووه مانعا لهم عن اكتساب الحياة الدائمة ما لو اتبعوا أمر الله تعالى وما دعاهم إليه كانت لهم تلك الحياة كقوله تعالى: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم} [الأنفال: 24].
{فمن يهديه من بعد الله} هذا أيضا يحتمل وجهين: أحدهما: حقيقة الهداية، وهو التوفيق والعصمة، فكأنه يقول، والله أعلم: فمن يقدر دون الله هدايته وتوفيقه بعد اختياره الضلال؟
والثاني هدى البيان؛ فكأنه يقول: فمن يقدر أن يأتي ببيان أكثر وأبين من بعد بيان الله تعالى الذي بيّن له؟ أي لا أحد يقدر ذلك.
{أفلا تذكّرون} أي أفلا يتّعظون؟ أو أفلا تذكرون بيان الله أو ما بيّن لهم؟ والله أعلم.
ثم الآية في قوم، علِم الله أنهم لا يؤمنون أبدا، لئلا يشتغل بهم، ولا يهتم لهم، ولكن يشتغل بغيرهم، ويقطع طمعه عن إيمانهم، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إلهه هواه" وإنما سمي الهوى إلها من حيث إن العاصي يتبع هواه ويرتكب ما يدعوه إليه، ولم يرد أنه يعبد هواه أو يعتقد أنه يحق له العبادة، لأن ذلك لا يعتقده أحد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه. وقرئ: «آلهة هواه»، لأنه كان يستحسن الحجر فيعبده، فإذا رأى ما هو أحسن رفضه إليه، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى: يعبد كل وقت واحداً منها {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} وتركه عن الهداية واللطف وخذله على علم، عالماً بأنّ ذلك لا يجدي عليه، وأنه ممن لا لطف له. أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقرّبة {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ} إضلال {الله}.
عاد تعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طوائفهم، فقال: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} يعني تركوا متابعة الهدى وأقبلوا على متابعة الهوى فكانوا يعبدون الهوى كما يعبد الرجل إلهه.
وقرئ (آلهته هواه) كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحدا منها.
{وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} فقوله {وأضله الله على علم} هو المذكور في قوله {إن الذين كفروا} إلى قوله {لا يؤمنون} وقوله {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} هو المراد من قوله {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة}، والتفاوت بين الآيتين أنه في هذه الآية قدم ذكر السمع على القلب، وفي سورة البقرة قدم القلب على السمع، والفرق أن الإنسان قد يسمع كلاما فيقع في قلبه منه أثر، مثل أن جماعة من الكفار كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه، وأما كفار مكة فهم كانوا يبغضونه بقلوبهم بسبب الحسد الشديد فكانوا يستمعون إليه، ولو سمعوا كلامه ما فهموا منه شيئا نافعا، ففي الصورة الأولى كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس، وفي الصورة الثانية كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن، فلما اختلف القسمان لا جرم أرشد الله تعالى إلى كلا هذين القسمين بهذين الترتيبين اللذين نبهنا عليهما ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام قال: {فمن يهديه من بعد الله} أي من بعد أن أضله الله.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
الغشاوة: هي الغطاء. وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب. فإن ما في القلب من الخير والشر يظهر على العين، فالعين مرآة القلب، تظهر ما فيه. وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا أو أبغضت كلامه ومجالسته، تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته. فتلك أثر البغض والإعراض عنه. وغلظت الغشاوة على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعما جاء به من الهدى ومن الحق. وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالغمامة، ولما غشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك الغشي غشاوة على أعينهم، فلا تبصر مواقع الهدى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين غاية البيان أنه الإله وحده بما له من الإحاطة بجميع صفات الكمال، وأنه لا بد من جمعه الخلائق ليوم الفصل للحكم بينهم بما له من الحكمة والقدرة، وحقر الهوى ونهى عن اتباعه، وكانوا هم قد عظموه بحيث جعلوه معبوداً، فلزم من ذلك تحقيرهم الإله، ولم يرجعوا عن ضلالهم، تسبب عن ذلك التعجيب ممن يظن أنه يقدر على رد أحد منهم عن غيه بشيء من الأشياء فقال: {أفرءيت} أي أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس.
{من اتخذ} أي- بغاية جهده واجتهاده.
{إلهه هواه} أي حول وصف الإله حتى صار هوى لنفسه، فهو تابع لهواه ليس غير فهو في أودية الضلال يهيم على غير سنن فهو معرّض لكل بلاء، فخسر أكثر من ربحه لكونه بلا دليل، والدليل على أنهم لا يعبدون إلا مجرد الهوى ما رواه البخاري في وفد بني حنيفة من المغازي من صحيحه عن أبي رجاء العطاردي وهو مخضرم ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة، قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به -انتهى.
ومفعول "رأى "الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام {فمن يهديه} تقديره: أيمكن أحداً غير الله هدايته ما دام هواه موجوداً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه- انتهى. ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود وهو الفضاء، أي ينزل به عن درجة عليا إلى ما دونها. فهو في سفول ما دام تابعاً له لأنه بحيث لا قرار ولا تمكن، فلذلك هو يوجب الهوان، قال الأصبهاني: سئل ابن المقفع عن الهوى، فقال: هوان سرقت نونه، فنظمه من قال: نون الهوان من الهوى مسروقة *** وأسير كل هوى أسير هوان وقال آخر ولم يخطىء المعنى وأجاد: إن الهوى لهو الهوان بعينه *** فإذا هويت فقد لقيت هوانا.
{وأضله الله} أي بما له من الإحاطة.
{على علم} منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة، وهو أنه لم يخلق الكون إلا حكيم، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم على بعض من غير فصل بينهم- لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها، أو على علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك؛ لأنه جبله جبلة شر.
ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي منه إلى غيره، وكان من لا ينتفع بما هو له- في حكم العادم له قال: {وختم} أي زيادة على الإضلال الحاضر
{على سمعه} فلا فهم له في الآيات المسموعة.
ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال: {وقلبه} أي فهو لا يعي ما من حقه وعيه. ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال: {وجعل على بصره غشاوة} فصار لا يبصر الآيات المرئية، وترتيبها هكذا؛ لأنها في سياق الإضلال كما تقدم في البقرة.
ولما صار هذا الإنسان الذي صار- لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه، ولا يبصر حق البصر ليهتدي ببصره دون رتبة الحيوان، قال تعالى منكراً مسبباً للإنكار عما تقدمه: {فمن يهديه} وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله: {من بعد الله} أي إضلال الذي له الإحاطة بكل شيء.
ولما كان من المعلوم قطعاً أنه لا هادي له غيره، سبب عنه الإنكار لعدم التذكر حثاً على التذكر فقال مشيراً بإدغام تاء التفعل إلى عدم الاحتياج بسبب وضوحه إلى كثير تذكر: {أفلا تذكرون *} أي يكون لكم نوع تذكر فتذكرون أنهم لا يسمعون الآيات المتلوة ولا يعتبرون بالآيات المرئية مع ما لكل منهما من الظهور، وأن من كان هذا حاله فلا سبيل لمخلوق مثله إلى هدايته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
التعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها، وتخضع له، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها. وتقيمه إلهاً قاهراً لها، مستولياً عليها، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول. يرسم هذه الصورة ويعجِّب منها في استنكار شديد: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه؟).. أفرأيته؟ إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب! وهو يستحق من الله أن يضله، فلا يتداركه برحمة الهدى. فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض! (وأضله الله على علم).. على علم من الله باستحقاقه للضلالة. أو على علم منه بالحق، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع. وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه: (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة).. فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور؛ وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى. وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم.
(فمن يهديه من بعد الله؟).. والهدى هدى الله. وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة. فذلك من شأن الله، الذي لا يشاركه فيه أحد، حتى رسله المختارون.
(أفلا تذكرون؟).. ومن تذكر صحا وتنبه، وتخلص من ربقة الهوى، وعاد إلى النهج الثابت الواضح، الذي لا يضل سالكوه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أصل التركيب: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} الخ، فقدمت همزة الاستفهام، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود من معه من المسلمين، أو الخطاب لغير معيّن، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب.
و {مَنْ} الموصولة صادقة على فريق المستهزئينَ الذين حسبوا أن يكون مَحْياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقوله: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا} [الجاثية: 24] الخ.
والمعنى: أن حجاجهم المسلمين مركَّز على اتباع الهوى والمغالطةِ، فلا نهوض لحجتهم لا في نفس الأمر ولا فيما أرادوه، على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث، وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدَى فلا يستطيع غيره هداهم.
ومعنى {على علم} أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم، أي عقول سليمةٍ أوْ مع أنهم بلغهم العِلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.
فحرف {على} هنا معناه المصاحبة بمعنى (مع) وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف. وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني (على) والمعنى: أنه ضال مع مَا له من صفة العلم، فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى.
وقرأ الجمهور {غشاوة} بكسر الغين وفتح الشين بعدها ألف، وقرأه حمزة والكسائي وخلف {غَشْوةٌ} بفتح الغين وسكون الشين وهو من التسمية بالمصدر وهي لغة.
وفرع على هذه الصلة استفهام إنكاري أن يكون غيرُ الله يستطيع أن يهديهم، والمراد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لشدة أسفه لإعراضهم وبقائهم في الضلالة.
و {من بعد الله} بمعنى: دون الله.
وفرع على ذلك استفهام عن عدم تذكر المخاطبين لهذه الحقيقة، أي كيف نَسُوها حتى ألحُّوا في الطمع بهداية أولئك الضالّين وأسفوا لعدم جدوى الحجة لديهم وهو استفهام إنكاري.
ومن المفسرين من حمل {مَن} الموصولة في قوله {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} على معيَّن فقال مقاتل: هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينَه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: والله إني لأعْلَم إنه لصادق فقال له المغيرة: مَهْ، وما دَلَّكَ على ذلك، قال: كنّا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تمّ عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن قال: فما يمنعك أن تؤمن به قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كِسرَة، واللاتِ والعُزّى إنْ اتبعتُه أبداً فنزلت هذه الآية. وإذا صح هذا فإن مطابقة القصة لقوله تعالى: {وأضله الله على علم} ظاهرة.
وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق، فإذا كان الحق محبوباً لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعاً للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيامَ رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث « أرِحْنا بها يا بلال» يعني الإقامة للصلاة. وعن عبد الله بن عمْرو بن العاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به» وعن أبي الدرداء « إذا أصبح الرجل اجتمع هَواه وعَمله وعلمه فإن كان عمَلُه تبعاً لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعاً لِعلمه فيومه يوم صالح».
وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة.
وقدم السمع على القلب هنا بخلاف آية سُورة البقرة {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7] لأن المخبَر عنهم هنا لما أخبر عنهم بأنهم اتخذوا إلههم هواهم، فقد تقرر أنهم عقدوا قلوبهم على الهوى؛ فكان ذلك العَقد صَارفاً السمع عن تلقي الآيات فَقُدِّمَ لإفَادةِ أنهم كالمختوم على سمعهم، ثم عطف عليه {وقلبِه} تكميلاً وتذكيراً بذلك العقد الصارف للسمع ثم ذكر ما {على بصره} من شبهِ الغشاوة؛ لأن ما عقد عليه قلبه بصره عن النظر في أدلة الكائنات.
وأما آية سورة البقرة فإن المتحدث عنهم هم هؤلاء أنفسهم ولكن الحديث عنهم ابتدئ بتساوي الإنذار وعدمه في جانبهم بقوله: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] فلما أريد تفصيله قدم الختم على قلوبهم؛ لأنه الأصل كما كان اتخاذ الهوى كالإله أصلاً في وصف حالهم في آية سورة الجاثية. فحالة القلوب هي الأصل في الانصراف عن التلقي والنظر في الآيتين ولكن نظم هذه الآية كان على حسب ما يقتضيه الذكر من الترتيب، ونظم آية البقرة كان على حسب ما يقتضيه الطبْع.
وقرأ الجمهور {أفلا تذكرون} بتشديد الذال. وقرأه عاصم بتخفيف الذال وأصله عند الجميع
{تتذكرون}. فأما الجمهور فقراءتهم بقلب التاء الثانية ذالاً لتقارب مخرجيهما قصداً للتخفيف، وأما عاصم فقراءته على حذف إحدى التاءين.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ...}.
الإله هو المعبود الذي تكرَّس كلّ حياتك لخدمة مراده منك، وكلمة المعبود كلمة عامة تُطلق على المعبود بحق، وهو الله تعالى الخالق الرازق المبدع لهذا الكون، وتُطلق على المعبودات بالباطل كالذين عبدوا الأصنام أو الشمس أو القمر.
هذه وغيرها معبودات باطلة لا تضر ولا تنفع، وما عبدها الجهلاء إلا لإرضاء عاطفة التدين عندهم، فهم يريدون ديناً بلا تكاليف، وإلهاً بلا أوامر ولا نَواهٍ.
ومن هذه الآلهة الباطلة الهوى، فمن الناس مَنْ يتخذ إلهه هواه، والهوى في حدِّ ذاته مذموم، لذلك قالوا: آفة الرأي الهوى.
ولما مدح الحق سبحانه رسول الله قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ} [النجم: 3]...
ثم يُبيِّن الحق سبحانه أن الذي اتخذ إلهه هواه إنسانٌ ضال {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ..} أي: حكم بضلاله لأنه جعله مختاراً، فاختار هواه، ولو جعله مقهوراً كالسماء والأرض ما استطاع المخالفة، وقلنا: إن الله يريد منا القلب لا القالب، يريدنا أنْ نذهب إليه طواعية.
يقول الحق سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7-8] إذن: لما اختار الضلال ووجده الله تعالى ضالاً حكم عليه أزلاً بأنه ضالّ، وجاء الواقع كما حكم الحق سبحانه، وكما علم الله منه.
لذلك قلنا: إن الملائكة تظلّ تتعجَّب حينما يروْنَ واقع الحياة وفْق ما كتب في اللوح المحفوظ فيقولون: نِعْم الرب.
معنى {أَفَرَأَيْتَ..} يعني: أعلمتَ سَواء أكنتَ رأيت بعينك أو لم تَرَ، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] أي: ألم تعلم، لأن رسول الله وُلد في هذا العام ولم يَرَ حادثة الفيل.
وقوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً} معنى ختم يعني: ضرب وطمس، وهنا جمع كل وسائل الإدراك في النفس الإنسانية، الأذن التي تسمع آيات الله تسمع بلاغة كلام الله ووعده ووعيده، والبصر الذي يرى الآيات الكونية ويتأملها ويستدل بها على خالقها ومُبدعها، والقلب محل الاعتقاد.
وما ختم الله على كل هذه الوسائل إلا لأن صاحبها أحبَّ الكفر وارتاح إلى الضلال، فأعانه الله على ما يحب، وختم على هذه الجوارح حتى لا يخرج منها الكفر ولا يدخلها الإيمان، وكيف يؤمن مَنْ لا يسمع كلام الله ولا يرى آياته في الكون ولا يميل قلبُه إلى لذة الإيمان بالله.
لذلك قال في ختام الآية: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} لا أحد يملك هدايته كما قال في موضع آخر: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33].