نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

ولما بين غاية البيان أنه الإله وحده بما له من الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأنه لا بد {[58162]}من جمعه{[58163]} الخلائق ليوم الفصل للحكم بينهم بما له من الحكمة{[58164]} والقدرة ، وحقر الهوى ونهى عن اتباعه ، وكانوا هم قد عظموه بحيث جعلوه معبوداً ، فلزم من ذلك تحقيرهم الإله ، ولم يرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك {[58165]}التعجيب ممن{[58166]} يظن أنه يقدر على رد أحد منهم عن غيه بشيء من الأشياء فقال : { أفرءيت } أي أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس { من اتخذ } أي-{[58167]} بغاية جهده {[58168]}واجتهاده{[58169]} { إلهه هواه } أي حول وصف الإله حتى صار هوى لنفسه ، فهو تابع لهواه ليس غير ، فهو في أودية الضلال يهيم على غير سنن فهو معرّض لكل بلاء ، فخسر أكثر من ربحه لكونه بلا دليل ، والدليل على أنهم لا يعبدون إلا مجرد الهوى ما رواه البخاري في وفد بني حنيفة من المغازي من صحيحه{[58170]} عن أبي رجاء العطاردي وهو مخضرم ثقة{[58171]} أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة ، قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا{[58172]} عليه ثم طفنا به - انتهى . ومع ذلك فكيفما قلبت أمرهم وجدته شعبة يسيرة من كفر الاتحادية ، وكل متشبثات{[58173]} قريش التي عابهم الله بها تشبثت{[58174]} بها الاتحادية حتى قولهم

{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }[ الزمر : 3 ] ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى ، ولم يبق إلا ما ينسب إلى الإلهية كما اضمحل الطين في : اتحدت الطين حرقاً ، فصار المعنى أن{[58175]} العابد لا يتحرك إلا بحسب{[58176]} ما يأمره به الإله{[58177]} ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب ، ولو كان التقديم في هذا بحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم{[58178]} هنا الهوى-{[58179]} لأن السياق والسباق له-{[58180]} وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا-{[58181]} ومفعول " رأى " الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام { فمن يهديه } تقديره : أيمكن أحداً{[58182]} غير الله هدايته ما دام هواه موجوداً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه - انتهى . ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود{[58183]} وهو الفضاء ، أي ينزل{[58184]} به عن{[58185]} درجة عليا إلى ما دونها . فهو في سفول ما دام {[58186]}تابعاً له{[58187]} لأنه بحيث {[58188]}لا قرار ولا تمكن ، فلذلك هو يوجب الهوان ، قال {[58189]}الأصبهاني : سئل ابن المقفع{[58190]} عن الهوى ، فقال : هوان سرقت نونه{[58191]} ، فنظمه من قال{[58192]} :

نون الهوان من الهوى مسروقة *** وأسير كل هوى أسير هوان

وقال آخر{[58193]} ولم يخطىء المعنى وأجاد{[58194]} :

إن الهوى لهو الهوان بعينه *** فإذا هويت فقد{[58195]} لقيت هوانا

{ وأضله الله } أي بما{[58196]} له من الإحاطة { على علم } منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر ، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك {[58197]}إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة ، وهو أنه {[58198]}لم يخلق الكون إلا حكيم ، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم {[58199]}على بعض{[58200]} من غير فصل بينهم-{[58201]} لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها ، أو على{[58202]} علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك ؛ لأنه جبله جبلة شر .

ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي{[58203]} منه إلى غيره ، وكان من لا ينتفع بما هو له-{[58204]} في حكم العادم له قال{[58205]} : { وختم } أي زيادة على الإضلال الحاضر { على سمعه } فلا فهم له في الآيات المسموعة . ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال : { وقلبه } أي فهو لا يعي ما{[58206]} من حقه وعيه . ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره{[58207]} ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال : { وجعل على بصره غشاوة } فصار لا يبصر الآيات المرئية ، وترتيبها هكذا ؛ لأنها في سياق الإضلال كما{[58208]} تقدم في البقرة .

ولما صار هذا الإنسان الذي صار-{[58209]} لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه ، ولا يبصر حق البصر ليهتدي{[58210]} ببصره دون رتبة الحيوان ، قال تعالى منكراً مسبباً للإنكار {[58211]}عما تقدمه{[58212]} : { فمن يهديه } وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله : { من بعد الله } أي إضلال الذي له الإحاطة بكل شيء . ولما كان من المعلوم قطعاً أنه لا هادي له غيره ، سبب عنه الإنكار لعدم التذكر{[58213]} حثاً على التذكر{[58214]} فقال{[58215]} مشيراً بإدغام تاء التفعل إلى{[58216]} عدم الاحتياج بسبب وضوحه إلى كثير تذكر : { أفلا تذكرون * } أي يكون لكم نوع تذكر فتذكرون{[58217]} أنهم لا يسمعون الآيات المتلوة ولا يعتبرون بالآيات المرئية مع ما لكل منهما من الظهور ، وأن من كان هذا حاله فلا سبيل لمخلوق مثله إلى هدايته .


[58162]:من مد، وفي ظ و م: لجمعه.
[58163]:من مد، وفي ظ و م: لجمعه.
[58164]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: الحكم.
[58165]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: التعجب من.
[58166]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: التعجب من.
[58167]:زيد من مد.
[58168]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58169]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58170]:راجع2/628.
[58171]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: رقة.
[58172]:من ظ ومد والصحيح،وفي الأصل و م: فحلبناها.
[58173]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: مستبات.
[58174]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: تيشت.
[58175]:زيد في الأصل و ظ: لا، ولم تكن الزيادة في م ومد فحذفناها.
[58176]:في مد: على حسب.
[58177]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: الإلهية.
[58178]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: تقدم.
[58179]:زيد من م ومد.
[58180]:زيد من م ومد.
[58181]:زيد من ظ و م ومد.
[58182]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: أحد.
[58183]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: المدود.
[58184]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: نزل.
[58185]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: في.
[58186]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: تابعه.
[58187]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: تابعه.
[58188]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: إلا.
[58189]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: ابن المقضع سيل الأصبهاني سيل ابن المقفع ولم تكن الزيادة في م ومد فحذفناها.
[58190]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: ابن المقضع سيل الأصبهاني سيل ابن لاقفع ولم تكن الزيادة في م ومد فحذفناها.
[58191]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: نون.
[58192]:زيد في الأصل: شعر، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد.
[58193]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58194]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58195]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: فلقد.
[58196]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: لما.
[58197]:زيد في الأصل: هو، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[58198]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: لا.
[58199]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58200]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58201]:زيد من ظ و م ومد.
[58202]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أعلى.
[58203]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: المنادى.
[58204]:زيد من ظ و م ومد.
[58205]:في الأصل و ظ بياض ملأناه من م ومد.
[58206]:في مد: مما.
[58207]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: مضره.
[58208]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: لما.
[58209]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: لا يهدى.
[58210]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: على تقدم.
[58211]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: على تقدم.
[58212]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: التذكير.
[58213]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: النكير.
[58214]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: التذكير.
[58215]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: قال.
[58216]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: على.
[58217]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: تذكرون.