الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

وقوله سبحانه : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } الآيَة : تسليةٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أي : لا تَهْتَمَّ بأمر الكَفَرَةِ من أجل إعراضهم عن الإيمان ، وقوله : { إلهه هَوَاهُ } إشارة إلى الأصنام ؛ إذ كانوا يعبدون ما يَهْوَوْنَ من الحجارة ، وقال قتادة : المعنى : لا يَهْوَى شيئاً إلا رَكِبَهُ ، لا يخافُ اللَّه ؛ فهذا كما يقال : الهوى إله مَعْبُودٌ ، وهذه الآية وإنْ كانت نزلَتْ في هَوَى الكُفْر ؛ فهِي مُتَنَاوِلَةٌ جميعَ هوى النفس الأَمَّارَةِ ؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وتمنى عَلَى اللَّهِ " ، وقال سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ : هَوَاكَ دَاؤُكَ ؛ فَإنْ خَالَفْتَهُ فَدَوَاؤُك ، وقال وهْبٌ : إذا عَرَضَ لك أمران ، وشككْتَ في خَيْرِهِمَا ، فانظر أَبْعَدَهُمَا مِنْ هَوَاكَ فَأْتِهِ ؛ ومن الحكمة في هذا قول القائل :

إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الهوى قَادَكَ الهوى *** إلى كُلِّ مَا فيهِ عَلَيْكَ مَقَالُ

قال الشيخ ابن أبي جَمْرَةَ : قولُهُ صلى الله عليه وسلم : " فَيُقَالُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئاً فَلِيَتْبَعْهُ " شيئاً يعم جَمِيعَ الأشياء ، مُدْرَكَةً كانَتْ أو غَيْرَ مُدْرَكَةٍ ، فالمُدْرَكُ : كالشمس والقمر ، وَغَيْرُ المُدْرَكِ ، مِثْلُ : الملائكة والهوى ؛ لقوله عزَّ وجَلَّ : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } ، وما أشبه ذلك ، انتهى . قال القُشَيْرِيُّ في رسالته : وحُكِيَ عن أبي عمران الواسطيِّ قال : انكسرت بنا السفينةُ ، فَبَقِيتُ أنا وامرأتي على لَوْحٍ ، وقد وَلَدَتْ في تِلْكَ الحَالِ صَبِيَّة ، فصَاحَتْ بي ، وقالت : يَقْتُلُنِي العَطَشُ ، فقلْتُ : هو ذا يرى حالَنَا ، فرفعتُ رَأْسِي ، فإذا رجُلٌ في الهواء جالِسٌ في يده سِلْسِلَةٌ من ذَهَبٍ ، وفيها كُوزٌ من ياقُوتٍ أَحْمَرَ ، فقال : هَاكَ ، اشربا ، قال : فأخذتُ الكُوزَ فَشَرِبْنَا منه ، فإذا هو أطيبُ مِنَ المِسْكِ ، وأبردُ مِنَ الثَّلْجِ ، وأحلى من العَسَلِ ، فقلت : مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللَّه ؟ فقال : عبدٌ لمولاكَ ، فقلْتُ له : بِمَ وَصَلْتَ إلى هذا ؟ فقال : تركْتُ هَوَايَ لمَرْضَاتِهِ ، فأجلَسَنِي في الهواء ، ثُمَّ غَابَ عَنِّي ، ولم أره ، انتهى .

وقوله تعالى : { على عِلْمٍ } قال ابن عباس : المعنى : على عِلْمٍ من اللَّه تعالى سَابِقٍ ، وقالت فرقة : أي : على عِلْمٍ من هذا الضَّالِّ بتَرْكِهِ للحَقِّ وإعراضِهِ عنه ، فتكُونُ الآية على هذا التأويل من آيات العِنَادِ ؛ من نحو قوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] .

وقوله تعالى : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } استعاراتٌ كُلُّهَا .

وقوله : { مِن بَعْدِ الله } فِيهِ حَذْفُ مضافٍ ، تقديره : مِنْ بعدِ إضلالِ اللَّهِ إيَّاه .