قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } سبحان الله : تنزيه الله تعالى من كل سوء ، ووصفه بالبراءة من كل نقص على طريق المبالغة ، وتكون سبحان بمعنى التعجب ، { أسرى بعبده } أي : سيره ، وكذلك سرى به ، والعبد هو : محمد صلى الله عليه وسلم . { من المسجد الحرام } ، قيل : كان الإسراء من مسجد مكة . روى قتادة عن أنس عن مالك ابن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " ، فذكر حديث المعراج . وقال قوم : عرج به من دار أم هانئ بنت أبي طالب ، ومعنى قوله : { من المسجد الحرام } أي : من الحرم . قال مقاتل : كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة . ويقال : كان في رجب . وقيل : كان في شهر رمضان { إلى المسجد الأقصى } ، يعني : بيت المقدس ، وسمي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار . وقيل : لبعده من المسجد الحرام { الذي باركنا حوله } ، بالأنهار والأشجار والثمار . وقال مجاهد : سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ، ومنه يحشر الناس يوم القيامة { لنريه من آياتنا } من عجائب قدرتنا ، وقد رأى هناك الأنبياء والآيات الكبرى { إنه هو السميع البصير } ذكر السميع ، لينبه على أنه المجيب لدعائه ، وذكر البصير ، لينبه على أنه الحافظ له في ظلمة الليل . وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : ما فقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه ، والأكثرون على أنه بجسده في اليقظة ، وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك .
أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا قتادة قال البخاري : وقال لي خليفة العصفري : حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد بن هشام . قال : حدثنا قتادة ، حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، حدثهم عن ليلة أسري به ، حدثنا قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حدثنا .
وأخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد الفارسي ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : -دخل حديث بعضهم في بعض- قال أبو ذر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فرج عني سقف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً ، فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه " . وقال مالك بن صعصعة : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : " بينما أنا في الحطيم ، وربما قال في الحجر ، بين النائم واليقظان ، وذكر بين رجلين ، فأتيت بطست من ذهب مملوء حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن ، واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ، ثم أعيد " . وقال سعيد وهشام : ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمةً ، ثم أوتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته فانطلقت مع جبريل حتى أتيت بيت المقدس ، قال : فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ، قال : ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة ، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح ، قيل من هذا ؟ قال : جبريل : قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح الباب ، فلما خلصت ، فإذا فيها آدم ، فقال لي : هذا أبوك آدم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح . وفي حديث أبي ذر : علونا السماء الدنيا ، فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحباً بالنبي الصالح ، والابن الصالح . قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى . ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، إذا بيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، وهما ابنا خالة ، قال : هذا يحيى وعيسى ، فسلم عليهما ، فسلمت فردا ، ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قال : ومن معك ؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، فإذا يوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، قال : هذا يوسف فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد علي ، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت فإذا إدريس ، قال هذا إدريس فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا هارون ، قال : هذا هارون فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا موسى ، قال : هذا موسى فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فلما جاوزت بكى قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي . ثم صعد بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، قيل : من هذا ؟ قال جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا إبراهيم ، قال : هذا أبوك إبراهيم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح ، والابن الصالح ، فرفع لي البيت المعمور ، فسألت جبريل ؟ فقال : هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم . وقال ثابت عن أنس : فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور ، إذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذان يا جبريل ؟ فقال : أما الباطنان ، فنهران في الجنة ، وأما الظاهرات فالنيل والفرات . وأوحى إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاةً في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، قال : فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف على أمتي ، فحط عني خمساً ، فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمسة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال : يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة . قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فقلت : سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضى وأسلم ، قال : فلما جاوزت نادى مناد : أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك . قال ابن شهاب : فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري ، كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوىً فيه صريف الأقلام " . قال ابن حزم وأنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ففرض الله على أمتي خمسين صلاة " . وروى معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أتي بالبراق ليلة أسري به ملجماً مسرجاً ، فاستصعب عليه ، فقال جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فارفض عرقاً " . وقال ابن بريده عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه ، فخرق بها الحجر وشد بها البراق " .
أنبأنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني محمود ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليلة أسري بي لقيت موسى ، قال : فنعته ، فإذا هو رجل- حسبته قال : مضطرب - رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة . قال : ولقيت عيسى ، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ربعة ، أحمر ، كأنما خرج من ديماس ، يعني : الحمام ، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به ، قال : وأتيت بإناءين : أحدهما لبن ، والآخر فيه خمر ، فقيل له : خذ أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته ، فقيل لي : هديت الفطرة و أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر لغوت أمتك " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، قال : هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس . قال : والشجرة الملعونة في القرآن قال : هي شجرة الزقوم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر ، قبل أن يوحى إليه ، وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال : أوسطهم هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه ، أوتنام عينه ، ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه حتى احتملوه ووضعوه عند بئر زمزم ، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده . وساق حديث المعراج بقصته . فقال : وإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان ، قال : هذا النيل والفرات ، عنصرهما واحد ، ثم مضى به في السماء الثانية ، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر ، قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك . وساق الحديث ، وقال : ثم عرج بي إلى السماء السابعة ، وقال : قال موسى : رب لم أظن أن ترفع علي أحداً ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعمله إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما يوحى إليه الله خمسين صلاة كل يوم وليلة ، وقال : فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه موسى عند الخمس ، فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه ، فأمتك أضعف قلوباً وأجساداً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبريل ، فرفعه عند الخامسة ، فقال : يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا ، فقال الجبار : يا محمد ، قال : لبيك وسعديك ، قال : إنه لا يبدل القول لدي ، كما فرضت عليك في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، وهي خمس عليك ، فقال موسى : ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه ، قال : فاهبط بسم الله . فاستيقظ وهو في المسجد الحرام . وروى مسلم هذا الحديث مختصراً عن هارون بن سعيد الإيلي ، عن ابن وهب ، عن سليمان ابن بلال . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : قد قال بعض أهل الحديث ما وجدنا لمحمد بن إسماعيل و لمسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا هذا ، وأحال الأمر فيه إلى شريك بن عبد الله ، وذلك أنه ذكر فيه أن ذلك قبل أن يوحى إليه ، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة قبل الهجرة بسنة . وفيه أيضاً : أن الجبار دنا فتدلى . وذكرت عائشة أن الذي دنا فتدلى جبريل عليه السلام . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : وهذا الاعتراض عندي لا يصح ، لأن هذا كان رؤيا في النوم ، أراه الله عز وجل قبل الوحي ، بدليل آخر الحديث : قال فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ، ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنة تحقيقاً لرؤياه من قبل ، كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ، ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونزل قوله عز وجل : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح – 27 ] وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال : يا جبريل إن قومي لا يصدقوني ، قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق . قال ابن عباس ، وعائشة ، رضي الله عنهم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي ، فروي أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً ، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال له كالمستهزئ : هل استفدت من شيء ؟ قال : نعم إني أسري بي الليلة قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ، قال : نعم ، فلم ير أبو جهل أنه ينكر ، مخافة أن يجحده الحديث ، قال : أتحدث قومك ما حدثتني ؟ قال : نعم ، قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا ، قال : فانفضت إليه المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما ، قال : فحدث قومك ما حدثتني قال : نعم إني أسري بي الليلة ، قالوا إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم ، قال : فمن بين مصفق ، ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً ، وارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه ، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ، قال : أو قد قال ذلك ؟ قال : نعم ، قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق . قال : وفي القوم من قد أتى المسجد الأقصى ، فقالوا : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ قال : نعم ، قال : ذهبت أنعت وأنعت ، فمازلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت ، قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد ، وأنا أنظر إليه ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب ، ثم قالوا : يا محمد أخبرنا عن عيرنا هي أهم إلينا ، فهل لقيت منها شيئاً ؟ قال : نعم مررت على عير بني فلان ، وهي بالروحاء ، وقد أضلوا بعيرا لهم ، وهم في طلبه ، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته ، ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه ؟ قالوا : هذه آية ، قال : ومررت بعير بني فلان ، وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما بذي طوى ، فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان ، فانكسرت يده ، فسلوهما عن ذلك ، قالوا : وهذه آية . قالوا : فأخبرنا عن عيرنا نحن متى تجيء ؟ قال : مررت بها بالتنعيم ، قالوا : فما عدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها ؟ فقال : نعم ، هيئتها كذا وكذا ، وفيها فلان وفلان ، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان ، تطلع عليكم عند طلوع الشمس ، قالوا وهذه آية . ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون : والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كدىً ، فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه ، إذ قال قائل منهم : والله هذه الشمس قد طلعت ، وقال آخر : وهذه والله الإبل قد طلعت ، يقدمها بعير أورق ، فيها فلان وفلان ، كما قال لهم ، فلم يؤمنوا ، { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا حجر بن المثنى ، أنبأنا عبد العزيز وهو ابن أبي سلمة - عن عبد الله بن الفضل ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني في الحجر ، وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قط ، قال : فرفعه الله لي أنظر إليه ، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، ولقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي ، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى قائم يصلي ، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي ، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فجاءت الصلاة فأممتهم ، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل : يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه . فالتفت إليه فبدأني بالسلام " .
سورة الإسراء ، وقيل : إلا قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخر ثمان آيات . وهي مائة وإحدى عشرة آية .
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } سبحان اسم بمعنى التسبيح { الذي } هو التنزيه يستعمل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع عن الصرف قال :
قد قلت لمّا جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر
وانتصابه بفعل متروك إظهاره ، وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد . و{ أسرى } وسرى بمعنى ، و{ ليلا } نصب على الظرف . وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء ، ولذلك قرئ : من " الليل " . أي بعضه كقوله : { ومن الليل فتهجد به } . { من المسجد الحرام } بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " . أو " من الحرم " وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به ، أو ليطابق المبدأ المنتهى . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة عليها وقال : " مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت بهم " ، ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة ، وارتد ناس ممن آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إن كان قال لقد صدق ، فقالوا : أتصدقه على ذلك ، قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق ، واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا العير كما أخبر ، ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة بسنة . واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده ، والأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس ، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، ولذلك تعجب قريش واستحالوه ، والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية ، وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فيما يحمله ، والتعجب من لوازم المعجزات . { إلى المسجد الأقصى } بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد . { الذي باركنا حوله } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام ، ومحفوف بالأنهار والأشجار . { لنُريه من آياتنا } كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له ، ووقوفه على مقاماتهم ، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات . وقرئ " ليريه " بالياء . { إنه هو السميع } لأقوال محمد صلى الله عليه وسلم . { البصير } بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك .
سميت في كثير من المصاحف سورة الإسراء . وصرح الآلوسي بأنها سميت بذلك ، إذ قد ذكر في أولها الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم واختصت بذكره .
وتسمى في عهد الصحابة سورة بني إسرائيل . ففي جامع الترمذي في أبواب الدعاء عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي . وبذلك ترجم لها البخاري في كتاب التفسير ، والترمذي في أبواب التفسير . ووجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها . وهو استيلاء قوم أولى بأس الآشوريين عليهم ثم استيلاء قوم آخرين وهم الروم عليهم .
وتسمى أيضا سورة { سبحان } ، لأنها افتتحت بهذه الكلمة . قال في بصائر ذوي التمييز .
وهي مكية عند الجمهور . قيل : إلا آتين منها ، وهما { وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله قليلا } . وقيل : إلا أربعا ، هاتين الآيتين ، وقوله { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } ، وقوله { وقل رب أدخلني مدخل صدق } الآية . وقيل : إلا خمسا ، هاته الأربع ، وقوله { إن الذين أوتوا العلم من قبله } إلى آخر السورة . وقيل : إلا خمس آيات غير ما تقدم ، وهي المبتدأة بقوله { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } الآية ، وقوله { ولا تقربوا الزنى } الآية ، وقوله { أولئك الذين يدعون } الآية ، وقوله { أقم الصلاة } الآية ، وقوله { وآت ذا القربى حقه } الآية . وقيل إلا ثمانيا من قوله { وإن كادوا ليفتنونك } إلى قوله { سلطانا نصيرا } .
وأحسب أن منشأ هاته الأقوال أن ظاهر الأحكام التي اشتملت عليها تلك الأقوال يقتضي أن تلك الآي لا تناسب حالة المسلمين فيما قبل الهجرة فغلبت على ظن أصحاب تلك الأقوال مدنية . وسيأتي بيان أن ذلك غير متجه عند التعرض لتفسيرها .
ويظهر أنها نزلت في زمن فيه جماعة المسلمين بمكة ، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم ، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام ، وذلك من قوله { وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه } إلى قوله { كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها } .
وقد اختلف في وقت الإسراء . والأصح أنه كان قبل الهجرة بنحو سنة وخمسة أشهر ، فإذا كانت قد نزلت عقب وقوع الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم تكون قد نزلت في حدود سنة اثنتي عشرة بعد البعثة ، وهي سنة اثنتين قبل الهجرة في منتصف السنة .
وليس افتتاحها بذكر الإسراء مقتضيا أنها نزلت عقب وقوع الإسراء . بل يجوز أنها نزلت بعد الإسراء بمدة .
وذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى تنويها بالمسجد الأقصى وتذكيرا بحرمته .
نزلت هذه السورة بعد سورة القصص وقبل سورة يونس .
وعدت السورة الخمسين في تعداد نزول سورة القرآن .
وعدد آيها مائة وعشر في عد أهل المدينة ، ومكة ، والشام ، والبصرة . ومائة وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة .
العماد الذي أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن وحي من الله .
ورد مطاعن المشركين فيه وفيمن جاء به ، وأنهم لم يفقهوه فلذلك أعرضوا عنه .
وإبطال إحالتهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى المسجد الأقصى . فافتتحت بمعجزة الإسراء توطئة للتنظير بين شريعة الإسلام وشريعة موسى عليه السلام على عادة القرآن في ذكر المثل والنظائر الدينية ، ورمزا إلهيا إلى أن الله أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم من الفضائل أفضل مما أعطى من قبله .
وأنه أكمل له الفضائل فلم يفته منها فائت ، فمن أجل ذلك أحله بالمكان المقدس الذي تداولته الرسل من قبل ، فلم يستأثرهم بالحلول بذلك المكان هو مهبط الشريعة الموسوية ، ورمز أطوار تأريخ بني إسرائيل وأسلافهم ، والذي هو نظير المسجد الحرام في أن أصل تأسيسه في عهد إبراهيم كما سننبه عليه عند تفسير قوله تعالى { إلى المسجد الأقصى } ، فأحل الله به محمدا عليه الصلاة والسلام بعد أن هجر وخرب إيماء إلى أن أمته تجدد مجده .
وأن الله مكنه من حرمي النبوة والشريعة ، فالمسجد الأقصى لم يكن معمورا حين نزول هذه السورة وإنما عمرت كنائس حوله ، وأن بني إسرائيل لم يحفظوا حرمة المسجد الأقصى ، فكان إفسادهم سببا في تسلط أعدائهم عليهم وخراب المسجد الأقصى . وفي ذلك رمز إلى أن إعادة المسجد الأقصى ستكون على يد أمة هذا الرسول الذي أنكروا رسالته .
ثم إثبات دلائل تفرد الله بالإلهية ، والاستدلال بآية الليل والنهار وما فيهما من المنن على إثبات الوحدانية .
والتذكير بالنعم التي سخرها الله للناس ، وما فيها من الدلائل على تفرده بتدبير الخلق ، وما تقتضيه من شكر المنعم وترك شكر غيره ، وتنزيهه عن اتخاذ بنات له .
وإظهار فضائل من شريعة الإسلام وحكمته ، وما علمه الله المسلمين من آداب المعاملة نحو ربهم سبحانه ، ومعاملة بعضهم مع بعض ، والحكمة في سيرتهم وأقوالهم ، ومراقبة الله في ظاهرهم وباطنهم .
وعن ابن عباس أنه قال : التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل . وفي رواية عنه : ثمان عشرة آية منها كانت في ألواح موسى ، أي من قوله تعالى { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } إلى قوله { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا } .
ويعني بالتوراة الألواح المشتملة على الوصايا العشر ، وليس مراده أن القرآن حكى ما في التوراة ولكنها أحكام قرآنية موافقة لما في التوراة .
على أن كلام ابن عباس معناه : أن ما في الألواح مذكور في تلك الآي ، ولا يريد أنهما سواء ، لأن تلك الآيات تزيد بأحكام ، منها قوله { ربكم أعلم بما في نفوسكم } إلى قوله { لربه كفورا } ، وقوله { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ، وقوله { ولا تقربوا مال اليتيم } إلى قوله { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } ، مع ما تخلل ذلك كله من تفصيل وتبيين عريت عنه الوصايا العشر التي كتبت في الألواح .
والحث على إقامة الصلوات في أوقاتها .
والتحذير من نزغ الشيطان وعداوته لآدم وذريته ، وقصة إبايته من السجود .
وذكر ما عرض للأمم من أسباب الاستئصال والهلاك .
وتهديد المشركين بأن الله يوشك أن ينصر الإسلام على باطلهم .
وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين واستعانتهم باليهود . واقتراحهم الآيات ، وتحميقهم في جهلهم بآية القرآن وأنه الحق .
وتخلل ذلك من المستطردات والنذر والعظات ما فيه شفاء ورحمة ، ومن الأمثال ما هو علم وحكمة .
الافتتاح بكلمة التسبيح من دون سبق كلام مُتضمّنٍ ما يَجب تنزيه الله عنه يؤذن بأن خبراً عجيباً يستقبله السامعون دالاً على عظيم القدرة من المتكلم ورفيع منزلة المتحدث عنه .
فإن جملة التسبيح في الكلام الذي لم يقع فيه ما يوهم تشبيهاً أو تنقيصاً لا يليقان بجلال الله تعالى مثل { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافّات : 180 ] يتعين أن تكون مستعملة في أكثر من التنزيه ، وذلك هو التعجيب من الخبر المتحدث به كقوله { قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } [ النور : 16 ] ، وقول الأعشى :
قد قلتُ لما جاءني فخرُه *** سُبْحَان من علقمَةَ الفاخِرِ
ولما كان هذا الكلام من جانب الله تعالى والتسبيح صادراً منه كان المعنى تعجيب السامعين ، لأن التعجب مستحيلة حقيقته على الله لا لأن ذلك لا يلتفت إليه في محامل الكلام البليغ لإمكان الرجوع إلى التمثيل ، مثل مجيء الرجاء في كلامه تعالى نحو { لعلكم تفلحون } [ البقرة : 189 ] ، بل لأنه لا يستقيم تعجب المتكلم من فعل نفسه ، فيكون معنى التعجيب فيه من قبيل قولهم أتعجب من قول فلان كيْت وكيْت .
ووجه هذا الاستعمال أن الأصل أن يكون التسبيح عند ظهور ما يدل على إبطال ما لا يليق بالله تعالى . ولما كان ظهور ما يدل على عظيم القدرة مزيلاً للشك في قدرة الله وللإشراك به كان من شأنه أن يُنطق المتأمل بتسبيح الله تعالى ، أي تنزيهه عن العجز .
وأصل صيغ التسبيح هو كلمة { سبحان الله } التي نُحت منها السبحلة . ووقع التصرف في صيغها بالإضمار نحو سبحانَك وسبحانه ، وبالموصول نحو { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } [ يس : 36 ] ومنه هذه الآية .
والتعبير عن الذات العلية بطريق الموصول دون الاسم العلم للتنبيه على ما تفيده صلة الموصول من الإيماء إلى وجه هذا التعجيب والتنويه وسببه ، وهو ذلك الحادث العظيم والعناية الكبرى . ويفيد أن حديث الإسراء أمر فَشا بين القوم ، فقد آمن به المسلمون وأكبَره المشركون .
وفي ذلك إدماج لرفعة قدر محمد وإثباتُ أنه رسول من الله ، وأنه أوتي من دلائل صدق دعوته ما لا قِبل لهم بإنكاره ، فقد كان إسراؤه إطلاعاً له على غائب من الأرض ، وهو أفضل مكان بعد المسجد الحرام .
و{ أسرى } لغة في سَرَى ، بمعنى سار في الليل ، فالهمزة هنا ليست للتعدية لأن التعدية حاصلة بالباء ، بل أسرى فعل مفتح بالهمزة مرادف سَرى ، وهو مثل أبان المرادف بَان ، ومثل أنهج الثوبُ بمعنى نَهَجَ أي بلِيَ ، ف { أسرى بعبده } بمنزلة { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] .
وللمبرد والسهيلي نكتة في التفرقة بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بأن الثانية أبلغ لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعولَ في الفعل ، فأصل ( ذهب به ) أنه استصحبه ، كما قال تعالى : { وسار بأهله } [ القصص : 29 ] . وقالت العرب أشبعهم شتماً ، ورَاحوا بالإبل . وفي هذا لطيفة تناسب المقام هنا إذ قال { أسرى بعبده } دون سرّى بعبْدَه ، وهي التلويح إلى أن الله تعالى كان مع رسوله في إسرائه بعنايتهِ وتوفيقه ، كما قال تعالى { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] ، وقال : إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [ التوبة : 40 ] .
فالمعنى : الذي جعل عبده مُسرياً ، أي سارياً ، وهو كقوله تعالى : { فأسر بأهلك بقطع من الليل } [ هود : 81 ] .
وإذ قد كان السُرى خاصاً بسير الليل كان قوله : { ليلاً } إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جُزء ليلة ، وإلا لم يَكن ذكره إلا تأكيداً ، على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة .
وفي ذلك إيماء إلى أنه أسراء خارق للعادة لقطع المسافة التي بين مبدأ السير ونهايته في بعض ليلة ، وأيضاً ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره المفيد للتعظيم .
فتنكير { ليلاً } للتعظيم ، بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل { أسرى } ، وبقرينة عدم تعريفه ، أي هو ليل عظيم باعتبار جعله زمناً لذلك السرى العظيم ، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم . ألا ترى كيف احْتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغة خاصة في قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر } [ القدر : 1 2 ] إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة{[263]} .
و ( عَبْد ) المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد كما هو مصطلح القرآن ، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافاً إلى ضمير الغيبة الراجع إلى الله تعالى إلا مراداً به النبي ؛ ولأن خبر الإسراء به إلى بيت المقدس قد شاع بين المسلمين وشاع إنكاره بين المشركين ، فصار المراد { بعبده } معلوماً .
والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد إضافته تعريفاً .
والمسجد الحرام هو الكعبة والفِناء المحيط بالكعبة بمكة المتخذ للعبادة المتعلقة بالكعبة من طواف بها واعتكاف عندها وصلاة .
وأصل المسجد : أنه اسم مكان السجود . وأصل الحرام : الأمر الممنوع ، لأنه مشتق من الحَرْم بفتح فسكون وهو المنع ، وهو يرادف الحرم . فوصف الشيء بالحرام يكون بمعنى أنه ممنوع استعماله استعمالاً يناسبه ، نحو { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي أكل الميتة ، وقول عنترة :
أي ممنوع قربانها لأنها زوجة أبيه وذلك مذموم بينهم .
ويكون بمعنى الممنوع من أن يعمل فيه عمل ما . ويبين بذكر المتعلق الذي يتعلق به . وقد لا يذكر متعلّقة إذا دل عليه العرف ، ومنه قولهم : { الشهر الحرام } [ البقرة : 194 ] أي الحرام فيه القتال في عرفهم . وقد يحذف المتعلق لقصد التكثير ، فهو من الحذف للتعميم فيَرجع إلى العموم العرفي ، ففي نحو { البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] يراد الممنوع من عُدوان المعتدين ، وغزوِ الملوك والفاتحين ، وعملِ الظلم والسوءِ فيه .
والحرام : فَعال بمعنى مفعول ، كقولهم : امرأة حَصان ، أي ممنوعة بعفافها عن الناس .
فالمسجد الحرام هو المكان المعد للسجود ، أي للصلاة ، وهو الكعبة والفناء المجعول حرماً لها . وهو يختلف سعة وضيقاً باختلاف العصور من كثرة الناس فيه للطواف والاعتكاف والصلاة .
وقد بنى قريش في زمن الجاهلية بيوتهم حول المسجد الحرام . وجعل قُصي بقربه دارَ الندوة لقريش وكانوا يجلسون فيها حول الكعبة ، فانحصر لما أحاطت به بيوت عشائر قريش . وكانت كل عشيرة تتخذ بيوتها متجاورة . ومجموع البيوت يسمى شِعباً بكسر الشين . وكانت كل عشيرة تسلك إلى المسجد الحرام من منفذ دُورها ، ولم يكن للمسجد الحرام جدار يُحفظ به . وكانت المسالك التي بين دُور العشائر تسمى أبواباً لأنها يسلك منها إلى المسجد الحرام ، مثل باب بني شيبة ، وباب بني هاشم ، وباب بني مخزوم وهو باب الصفا ، وباب بني سهم ، وباب بني تيم . وربما عُرِف بعض الأبواب بجهة تقرب منه مثل بَاب الصفا ويسمى باب بني مخزوم . وباب الحزورة سمي بمكان كانت به سوق لأهل مكة تسمى الحَزْورة . ولا أدري هل كانت أبواباً تغلق أم كانت منافذ في الفضاء فإن الباب يطلق على ما بين حاجزين .
وأول من جعل للمسجد الحرام جداراً يُحفظ به هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبعَ عشرة من الهجرة .
ولُقب بالمسجد لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعله لإقامة الصلاة في الكعبة كما حكى الله عنه { ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] . ولما انقرضت الحنيفية وترك أهل الجاهلية الصلاة تناسوا وصفهُ بالمسجد الحرام فصاروا يقولون : البيت الحرام . وأما قول عمر : إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فإنه عبر عنه باسمه في الإسلام .
فغلبَ عليه هذا التعريف التوصيفي فصار له علماً بالغلبة في اصطلاح القرآن . ولا أعرف أنه كان يعرف في الجاهلية بهذا الاسم ، ولا على مسجد بيت المقدس في عصر تحريمه عند بَني إسرائيل . وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } في [ البقرة : 144 ] ، وعند قوله تعالى : { أن صدوكم عن المسجد الحرام } في أول العقود [ المائدة : 2 ] .
وعلميته بمجموع الوصف والموصوف وكلاهما معَرّف باللام . فالجزء الأول مثل النجم والجزء الثاني مثل الصعِق ، فحصل التعريف بمجموعهما ، ولم يعد النحاةُ هذا النوع في أقسام العلم بالغلبة . ولعلهم اعتبروه راجعاً إلى المعرف باللام . ولا بد من عده لأن علميته صارت بالأمرين .
والمسجد الأقصى هو المسجد المعروف ببيتِ المقدِس الكائن بإيلياء ، وهو المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام .
والأقصى ، أي الأبعد . والمراد بعده عن مكة ، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام ، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء وكونه خارقاً للعادة لكونه قطْعَ مسافة طويلة في بعض ليلة .
وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علماً بالغلبة على مسجد بيت المقدس كما كان المسجد الحرام علماً بالغلبة على مسجد مكة . وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء . ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذٍ .
وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزةٌ خفية من معجزات القرآن إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قَصِيٌ عن المسجد الحرام ، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذٍ .
فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية ، والتي بينها قول النبي : " لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجد الأقصى ، ومسجدي " .
وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله : { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } أمران :
أحدهما : التنصيص على قطع المسافة العظمية في جزء ليلة ، لأن كلا من الظرف وهو { ليلاً } ومن المجرورين { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } قد تعلق بفعل { أسرى } ، فهو تعلق يقتضي المقارنة ، ليعلم أنه من قبيل المعجزات .
وثانيهما : الإيماء إلى أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزاً إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضاً ؛ فقد صدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى . ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة لأن كل سُرى يعقبه تأويب . وبذلك حصل رد العجز على الصدر .
ومن هنا يظهر مناسبة نزول التشريع الاجماعي في هذه السورة في الآيات المفتتحة بقوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ، ففيها : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ، { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 23 35 ] إيماء إلى أن هذا الدين سيكون ديناً يحكم في الناس وتنفذ أحكامه .
والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم عليه السلام كما ورد ذلك عن النبي . ففي « الصحيحين » عن أبي ذر قال : قلتُ يا رسول الله أي مسجد وُضع في الأرض أولُ ؟ قال المسجدُ الحرام . قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى . قلت كمْ بينهما ؟ قال أربعون سنة » .
فهذا الخبر قد بين أن المسجد الأقصى من بناء إبراهيم لأنه حُدد بمدة هي من مدة حياة إبراهيم عليه السلام . وقد قُرن ذكره بذكر المسجد الحرام .
وهذا مما أهملَ أهل الكتاب ذكره .
وهو مما خَصّ الله نبيئه بمعرفته . والتوراة تشهد له ، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر : أن إبراهيم لما دخل أرض كنعان ( وهي بلاد فلسطين ) نصب خيمته في الجبل شرقي بيت إيل ( بيت إيل مدينة على بعد أحد عشر ميلاً من أورشليم إلى الشمال وهو بلد كان اسمه عند الفلسطينيين ( لوزا ) فسماه يعقوب : بيت إيل ، كما في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين ) وغربي بلاد عاي ( مدينة عبرانية تعرف الآن « الطيبة » ) وبنى هنالك مذبحاً للرب .
وهم يطلقون المذبح على المسجد لأنهم يذبحون القرابين في مساجدهم . قال عمر بن أبي ربيعة :
دُميةٌ عند راهب قسيس *** صوروها في مذبح المحراب
أي مَكانَ المذبح من المسجد ، لأن المحراب هو محل التعبد ، قال تعالى : { وهو قائم يصلي في المحراب } [ آل عمران : 39 ] .
ولا شك أن مسجد إبراهيم هو الموضع الذي توخى داود عليه السلام أن يضع عليه الخيمة وأن يبني عليه محرابه أو أوحى الله إليه بذلك ، وهو الذي أوصى ابنَه سليمان عليه السلام أن يبني عليه المسجدَ ، أي الهيكل . وقد ذكر مؤرخو العبرانيين ومنهم ( يوسيفوس ) أن الجبل الذي سكنه إبراهيم بأرض كنعان اسمه ( نَابو ) وأنه هو الجبل الذي ابتنى عليه سليمان الهيكل وهو المسجد الذي به الصخرة .
وقصة بناء سليمان إياه مفصلة في سفر الملوك الأول من أسفار التوراة .
وقد انتابه التخريب ثلاث مرات :
أولاها : حين خربه بختَنَصّر ملكُ بابل سنة 578 قبل المسيح ثم جدده اليهود تحت حكم الفُرس .
الثانية : خربه الرومان في مدة طيطوس بعد حروب طويلة بينه وبين اليهود وأعيد بناؤه ، فأكمل تخريبَه أدريانوس سنة 135 للمسيح وعفى آثاره فلم تبق منه إلا أطلال .
الثالثة لما تنصرت الملكة هيلانة أم الأنبراطور قسطنطين ملكِ الروم ( بيزنطة ) وصارت متصلبة في النصرانية ، وأشرب قلبُها بُغْض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح كان مما اعتدت عليه حين زارت أورشليم أن أمرت بتعفية أطلال هيكل سليمان وأن ينقل ما بقي من الأساطين ونحوها فتبني بها كنيسة على قبر المسيح المزعوم عندهم في موضع توسموا أن يكون هو موضع القبر ( والمؤرخون من النصارى يشكون في كون ذلك المكان هو المكان الذي يُدَّعَى أن المسيح دفن فيه ) وأن تسميها كنيسة القيامة ، وأمَرَت بأن يجعل موضعُ المسجد الأقصى مرمَى أزبال البلد وقُماماته فصار موضعُ الصخرة مَزْبلة تراكمت عليها الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها .
ولما فتح المسلمون بقية أرض الشام في زمن عمر وجاء عمر بن الخطاب ليشهد فتح مدينة إيلياء{[264]} وهي المعروفة من قبلُ ( أورشليم ) وصارت تسمى إيلياء بكسر الهمزة وكسر اللام وكذلك كان اسمها المعروف عند العرب عندما فتح المسلمون فلسطين . وإيلياء اسم نبيء من بني إسرائيل كان في أوائل القرن التاسع قبل المسيح .
وبيتان بيتُ الله نحن ولاته *** وبيتٌ بأعلى إيلياء مشرَّف
وانعقد الصلح بين عُمر وأهل تلك المدينة وهم نصارى . قال عمر لبطريق لهم اسمه ( صفرونيوس ) « دُلني على مسجد داوود » ، فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على دَرَج الباب فتجشم عمر حتى دخَل ونظر فقال : الله أكبر ، هذا والذي نفسي بيده مسجدُ داوود الذي أخبرنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أُسري به إليه » . ثم أخذ عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها ، ومضى عمر إلى جهة محراب داوود فصلى فيه ، ثم ارتحل من بلد القدس إلى فلسطين .
ولم يَبن هنالك مسجداً إلى أن كان في زمن عبد الملك بن مروان أمر بابتداء بناء القبة على الصخرة وعمارة المسجد الأقصى . ووكل على بنائها رَجاء بن حَيْوَة الكِندي أحد علماء الإسلام ، فابتدأ ذلك سنة ست وستين وكان الفراغ من ذلك في سنة ثلاث وسبعين .
كان عمر أول من صلى فيه من المسلمين وجعل له حرمة المساجد .
ولهذا فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن تسمية قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل لأن ، حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد . فالتسمية باعتبار ما كان ، وهي إشارة خفية إلى أنه سيكون مسجداً بأكمل حقيقة المساجد .
واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهراً . ثم نسخ استقباله وصارت الكعبة هي القبلة الإسلامية .
وقد رأيت أن سائحاً نصرانياً اسمه ( اركولف ) زار القدس سنة 670 م ، أي بعد خلافة عمر بأربع وثلاثين سنة ، وزعم أنه رأى مسجداً بناه عمر على شكل مربع من ألواح وجذوع أشجار ضخمة وأنه يسع نحو ثلاثة آلاف{[265]} .
والظاهر أن نسبة المسجد الأقصى إلى عمر بن الخطاب وهَم من أوهام النصارى اختلط عليهم كشف عمر موضع المسجد فظنوه بناءً . وإذا صدق اركولف فيما ذكر من أنه رأى مكاناً مربعاً من ألواح وعمد أشجار كان ذلك شيئاً أحدثه مسلمو البلاد لصيانة ذلك المكان عن الامتهان .
وقوله { الذي باركنا حوله } صفة للمسجد الأقصى . وجيء في الصفة بالموصولية لقصد تشهير الموصوف بمضمون الصلة حتى كأن الموصوف مشتهر بالصلة عند السامعين . والمقصود إفادة أنه مبارك حوله .
وصيغة المفاعلة هنا للمبالغة في تكثير الفعل ، مثل عافاك الله .
والبركة : نماء الخير والفضل في الدنيا والآخرة بوفرة الثواب للمصلين فيه وبإجابة دعاء الداعين فيه . وقد تقدم ذكر البركة عند قوله تعالى : { مباركاً وهدى للعالمين } في [ آل عمران : 96 ] .
وقد وصف المسجد الحرام بمثل هذا في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين } [ آل عمران : 96 ] .
ووجه الاقتصار على وصف المسجد الأقصى في هذه الآية بذكر هذا التبريك أن شهرة المسجد الحرام بالبركة وبكونه مقام إبراهيم معلومة للعرب ؛ وأما المسجد الأقصى فقد تناسى الناس ذلك كله ، فالعرب لا علم لهم به والنصارى عفوا أثره من كراهيتهم لليهود ، واليهود قد ابتعدوا عنه وأيسوا من عوده إليهم ، فاحتيج إلى الإعلام ببركته .
و حولَ يدل على مكان قريب من مكان اسم ما أضيف ( حولَ ) إليه .
وكونُ البركة حولَه كنايةٌ عن حصول البركة فيه بالأوْلى ، لأنها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه ؛ ففيه لطيفة التلازم ، ولطيفة فحوَى الخطاب ، ولطيفة المبالغة بالتكثير . وقريب منه قول زياد الأعجم :
إنّ السماحةَ والمروءة والندى *** في قبةٍ ضُربت على ابن الحشرج
ولكلمة { حوله } في هذه الآية من حسن الموقع ما ليس لكلمة ( في ) في بيت زياد ، ذلك أن ظرفية ( في ) أعم . فقوله : ( في قبة ) كناية عن كونها في ساكن القبة لكن لا تفيد انتشارها وتجاوزها منه إلى ما حوله .
وأسباب بركة المسجد الأقصى كثيرة كما أشارت إليه كلمة { حوله } . منها أن واضعه إبراهيم عليه السلام ، ومنها ما لحقه من البركة بمن صلى به من الأنبياء من داوود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل ، ثم بحلول الرسول عيسى عليه السلام وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله ، ومنها بركة من دُفن حوله من الأنبياء ، فقد ثبت أن قبري داوود وسليمان حول المسجد الأقصى . وأعظم تلك البركات حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة ، وصلاته فيه بالأنبياء كلهم .
وقوله : { لنريه من آياتنا } تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية ، تعليلٌ ببعض الحِكَم التي لأجلها منح الله نبيئه منحة الإسراء ، فإن للإسراء حِكماً جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في « الصحيح » . وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته ، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى .
ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها .
وإنما اقتُصر في التعليل على إراءة الآيات لأن تلك العلة أعلق بتكريم المُسرَى به والعناية بشأنه ، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية . قال تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] .
فإن فطرة الله جعلت إدراك المحسوسات أثبت من إدراك المدلولات البرهانية . قال تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] ، ولذلك لم يقل الله بعد هذا التعليل أو لم يطمئن قلبك ، لأن اطمئنان القلب مُتَّسِعُ المدى لا حد له فقد أنطق الله إبراهيم عن حكمة نبوءة ، وقد بادر محمداً بإراءة الآيات قبل أن يسأله إياها توفيراً في الفضل .
قال علي بن حزم الظاهري وأجاد :
ولكن للعيان لطيفُ معنى *** له سأل المعايَنة الكليمُ
واعلم أن تقوية يقين الأنبياء من الحكم الإلهية لأنهم بمقدار قوة اليقين يزيدون ارتقاء على درجة مستوى البشر والتحاقاً بعلوم عالم الحقائق ومساواة في هذا المضمار لمراتب الملائكة .
وفي تغيير الأسلوب من الغيبة التي في اسم الموصول وضميريه إلى التكلم في قوله : باركنا . . . ولنُريه من آياتنا سلوكٌ لطريقة الالتفات المتبعة كثيراً في كلام البلغاء . وقد مضى الكلام على ذلك في قوله تعالى : { إياك نعبد } في [ الفاتحة : 5 ] .
منها : أنه لما استُحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم .
ومنها : الإيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة .
ومنها : التوطئة والتمهيد إلى محمل معاد الضمير في قوله : { إنه هو السميع البصير } ، فيتبادر عود ذلك الضمير إلى غير من عاد إليه ضمير { نريه } لأن الشأن تناسق الضمائر ، ولأن العود إلى الالتفات بالقرب ليس من الأحسن .
فقوله : { إنه هو السميع البصير } الأظهرُ أن الضميرين عائدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقاله بعض المفسرين ، واستقرَبَه الطيبي ، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى . ولعل احتماله للمعنيين مقصود .
وقد تجيء الآيات محتملة عدّةَ معانٍ . واحتمالها مقصود تكثيراً لمعاني القرآن ، ليأخذ كل منه على مقدار فهمه كما ذكرنا في المقدمة التاسعة . وأياما كان فموقع ( إنّ ) التوكيد والتعليل كما يؤذن به فصل الجملة عما قبلها .
وهي إما تعليل لإسناد فعل { نريه إلى فاعله ؛ وإما تعليل لتعليقه بمفعوله ، فيفيد أن تلك الإراءة من باب الحكمة ، وهي إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ، فهو من إيتاء الحكمة من هو أهلها .
والتعليل على اعتبار مرجع الضمير إلى النبي أوقع ، إذ لا حاجة إلى تعليل إسناد فعل الله تعالى لأنه محقق معلوم . وإنما المحتاج للتعليل هو إعطاء تلك الإراءة العجيبة لمن شك المشركون في حصولها له ومن يحسبون أنه لا يطيقها مثله .
على أن الجملة مشتملة على صيغة قصر بتعريف المسند باللام وبضمير الفصل قصراً مؤكداً ، وهو قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً للقلب ، أي هو المدرك لما سمعه وأبصرهُ لا الكاذِبُ ولا المتوهمُ كما زعم المشركون . وهذا القصر يؤيد عود الضمير إلى النبي لأنه المناسب للرد . ولا ينازع المشركون في أن الله سميع وبصير إلا على تأويل ذلك بأنه المُسمع والمبصِر لرسوله الذي كذبتموه ، فيؤول إلى تنزيه الرسول عن الكذب والتوهم .
ثم إن الصفتين على تقدير كونهما للنبيء هما على أصل اشتقاقهما للمبالغة في قوة سمعه وبصره وقبولهما لتلقي تلك المشاهدات المدهشة ، على حد قوله تعالى : { ما زاغ البصر وما طغى }
[ النجم : 17 ] ، وقوله : { أفتمارونه على ما يرى } [ النجم : 12 ] .
وأما على تقدير كونهما صفتين لله تعالى فالمناسب أن تؤولا بمعنى المسمع المبصر ، أي القادر على إسماع عبده وإبصاره ، كما في قول عمرو بن معد يكرب :
وقد اختلف السلف في الإسراء أكان بجسد رسول الله من مكة إلى بيت المقدس أم كان بروحه في رؤيا هي مشاهدة رُوحانية كاملة ورؤيا الأنبياء حق . والجمهور قالوا : هو إسراء بالجسد في اليقظة ، وقالت عائشة ومعاوية والحسن البصري وابن إسحاق رضي الله عنهم أنه إسراء بروحه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي .
واستدل الجمهور بأن الامتنان في الآية وتكذيبَ قريش بذلك دليلان على أنه ما كان الإخبار به إلا على أنه بالجسد . واتفق الجميع على أن قريشاً استوصفوا من النبي علامات في بيت المقدس وفي طريقه فوصفها لهم كما هي ، ووصف لهم عيراً لقريش قافلة في طريق معين ويوم معين فوجدوه كما وصف لهم .
ففي « صحيح البخاري » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل . . . " إلى آخر الحديث . وهذا أصح وأوضح مما روي في حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هاني بنت أبي طالب أو من شعب أبي طالب .
والتحقيق حمل ذلك على أنه إسراء آخر ، وهو الوارد في حديث المعراج إلى السماوات وهو غير المراد في هذه الآية . فللنبيء صلى الله عليه وسلم كرامتان : أولاهما الإسراء وهو المذكور هنا ، والأخرى المعراج وهو المذكور في حديث « الصحيحين » مطولاً وأحاديث غيرِه . وقد قيل : إنه هو المشار إليه في سورة النجم .