قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } الآية ، قال مقاتل بن حيان : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس منهم يوماً وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه فرد عليهم ، ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية . وقال الكلبي : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وقد ذكرنا في سورة الحجرات قصته . وقال قتادة : كانوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنوا بمجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض . وقيل : كان ذلك يوم الجمعة ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا } أي توسعوا في المجلس ، قرأ الحسن ، وعاصم : في المجالس لأن الكل جالس مجلساً ، معناه : ليتفسح كل رجل في مجلسه . وقرأ الآخرون : في المجلس على التوحيد ، لأن المراد منه مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، { فافسحوا } أوسعوا ، يقال : فسح يفسح فسحاً : إذا وسع في المجلس ، { يفسح الله لكم } يوسع الله لكم الجنة ، والمجالس فيها .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سفيان بن عيينة عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " .
أنبأنا عبد الوهاب بن الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي أنبأنا عبد المجيد عن ابن جريج قال : قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا " . وقال أبو العالية ، والقرظي ، والحسن : هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } قرأ أهل المدينة والشام وعاصم بضم الشين ، وقرأ الآخرون بكسرهما ، وهما لغتان أي ارتفعوا ، قيل : ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم . وقال عكرمة والضحاك : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية ، معناه : إذا نودي للصلاة فانهضوا لها . وقال مجاهد وأكثر المفسرين : معناه : إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى مجالس كل خير وحق فقوموا لها ولا تقصروا . { يرفع الله الذين آمنوا منكم } بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وقيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم ، { والذين أوتوا العلم }من المؤمنين بفضل علمهم ومسابقتهم ، { درجات } ، فأخبر الله عز وجل أن محمدا صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أمر وأن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا ، وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام ، { والله بما تعملون خبير } قال الحسن : قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال : أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبنكم في العلم ، فإن الله تعالى يقول :{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات .
أخبرنا الإمام أبو الحسين بن محمد القاضي ، حدثنا الإمام أبو الطيب سهل ابن محمد بن سليمان ، حدثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الهروي ، أنبأنا محمد بن يونس القرشي ، أنبأنا عبد الله بن داود ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة ، حدثني داود بن جميل عن كثير بن قيس قال :كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال : يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ما كانت لك حاجة غيره ؟ قال : لا ، قال : ولا جئت لتجارة ؟ قال : لا ، قال : ولا جئت إلا رغبة فيه ؟ قال : نعم ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم ، وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم السراج ، أنبأنا الحسن بن يعقوب العدل ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء ، حدثنا جعفر بن عون ، أنبأنا عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " مر بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، قال : كلا المجلسين على خير ، وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل ، فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلماً ، ثم جلس فيهم " .
{ إذا قيل : لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } اختلف في سبب نزول الآية ، فقيل : نزلت في مقاعد الحرب والقتال وقيل : نزلت بسبب ازدحام الناس ، في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصهم على القرب منه وقيل : أقام النبي صلى الله عليه وسلم ، قوما ليجلس أشياخا من أهل بدر في مواضعهم ، فنزلت الآية ثم اختلفوا هل هي مقصورة على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أو هي عامة في جميع المجالس ، فقال قوم : إنها مخصوصة ، ويدل على ذلك قراءة المجلس بالإفراد ، وذهب الجمهور إلى أنها عامة ويدل على ذلك قراءة المجالس بالجمع وهذا هو الأصح ، ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس والتفسيح المأمور به هو التوسع دون القيام ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " وقد اختلف في هذا النهي عن القيام من المجلس لأحد هل هو على التحريم أو الكراهة .
{ يفسح الله لكم } أي : يوسع لكم في جنته ورحمته .
{ وإذا قيل انشزوا } أي : إذا قيل : لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك ، واختلف في هذا النشوز المأمور به فقيل : إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة ، وقيل : إذا أمروا بالقيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان يحب الانفراد أحيانا وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام ، وقيل : المراد القيام في المجلس للتوسع .
{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } فيها قولان :
أحدهما : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات فقوله :{ والذين أوتوا العلم درجات } صفة للذين آمنوا كقوله : جاءني العاقل الكريم وأنت تريد رجلا واحدا .
والثاني : يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات ، فالدرجات على الأول للمؤمنين بشرط أن يكونوا علماء ، وعلى الثاني للمؤمنين الذين ليسوا علماء ، وللعلماء أيضا ولكن بين درجات العلماء وغيرهم تفاوت يوجد في موضع آخر كقوله صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم رجلا " ، وقوله عليه السلام : " يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء " ، فإذا كان لهم فضل على العابدين والشهداء ، فما ظنك بفضلهم على سائر المؤمنين .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير } .
يأمر الله عباده المؤمنين بحسن الأدب في مجالس العلم والذكر ، فما ينبغي أن تكون بينهم أثرة أو فظاظة في الأسلوب والتخاطب ، وإنما يأمرهم ربهم بالتعاطف والتآلف والتواضع فيما بينهم ، ليكونوا على الدوام إخوة مؤتلفين متحابين .
وفي سبب نزول هذه الآية قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .
وقيل : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فأتى ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : " قم يا فلان فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ {[4484]} فوالله ما عدل على هؤلاء قوم أخذوا مجالسهم ، وأحبهم القرب من نبيهم أقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهو قوله : { ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم } تفسحوا ، من الفسحة وهي السعة . وفسح له في المجلس أي وسع له ، وتفسحوا في المجلس وتفاسحوا أي توسعوا{[4485]} .
والآية عامة في سائر المجالس التي يجتمع فيها المسلمون للخير والبر والصلاح سواء جلسوا للذكر أو العلم أو الحرب . فكل مسلم هو أحق بمكانه الذي سبق إليه ، وفي الحديث : " من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به " ومع ذلك فإن على المسلم أن يفسح لأخيه في المجلس وهو أن يوسع له ، ليمكنه الجلوس فيه من أجل الاستفادة وكسب الأجر ، وفي النهي عن أن يقام المرء من مجلسه ليجلس فيه آخر ، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ليجلس فيه آخر ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " وعلى هذا إذا قعد الرجل في موضع من المسجد فليس لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه ، وفي ذلك روى مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول : " افسحوا " .
قوله : { يفسح الله لكم } أن يوسع الله منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة .
قوله : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } انشزوا ، من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض . ونشز الرجل ، أي ارتفع في المكان ، وإنشاز عظام الميت رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض ، ونشزت المرأة ، أي استعصت على بعلها وأبغضته{[4486]} .
والمعنى : إذا دعيتم إلى خير أو معروف أو إصلاح فأجيبوا ، أو إذا قيل لكم : انهضوا إلى الصلاة أو إلى قتال العدو ، أو قيل لكم : تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا .
قوله : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتو العلم درجات } وذلك تكريم من الله للعلم وأهله ، فهم أولو درجات عالية في الآخرة ولهم من الله في الدنيا حسن الثواب .
وإنما يكون التكريم والاعتبار للناس بحسب ما في قلوبهم من الإيمان والعقيدة والتقوى ، وبما أوتوه من رصيد العلم في مختلف علوم الإسلام ، وغير ذلك من العلوم الكونية التي لا مناص للمسلمين من تعلمها والاستفادة منها لتقووا بها على رد العدوان من المعتدين ، ودفع الشر والكيد عن أنفسهم من الظالمين المتربصين .
ويستفاد من الآية أيضا أن المؤمن العالم خير من المؤمن غير العالم ، وإن كان في كل منهما خير . وبذلك فإن العالم لذو شأن عظيم في ميزان الله ، وكذلك العلماء المؤمنون فإنهم أولو كرامة ظاهرة ومميزة يفوقون بها غيرهم درجات ، وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وعنه صلى الله عليه وسلم : " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " .
قوله : { والله بما تعملون خبير } الله خبير بأهل الإيمان والعلم والطاعة الذين يخشون ربهم ويخافون عقابه ويبتغون بعلمهم وجه ربهم{[4487]} .