قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } سبحان الله : تنزيه الله تعالى من كل سوء ، ووصفه بالبراءة من كل نقص على طريق المبالغة ، وتكون سبحان بمعنى التعجب ، { أسرى بعبده } أي : سيره ، وكذلك سرى به ، والعبد هو : محمد صلى الله عليه وسلم . { من المسجد الحرام } ، قيل : كان الإسراء من مسجد مكة . روى قتادة عن أنس عن مالك ابن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " ، فذكر حديث المعراج . وقال قوم : عرج به من دار أم هانئ بنت أبي طالب ، ومعنى قوله : { من المسجد الحرام } أي : من الحرم . قال مقاتل : كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة . ويقال : كان في رجب . وقيل : كان في شهر رمضان { إلى المسجد الأقصى } ، يعني : بيت المقدس ، وسمي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار . وقيل : لبعده من المسجد الحرام { الذي باركنا حوله } ، بالأنهار والأشجار والثمار . وقال مجاهد : سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ، ومنه يحشر الناس يوم القيامة { لنريه من آياتنا } من عجائب قدرتنا ، وقد رأى هناك الأنبياء والآيات الكبرى { إنه هو السميع البصير } ذكر السميع ، لينبه على أنه المجيب لدعائه ، وذكر البصير ، لينبه على أنه الحافظ له في ظلمة الليل . وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : ما فقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه ، والأكثرون على أنه بجسده في اليقظة ، وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك .
أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا قتادة قال البخاري : وقال لي خليفة العصفري : حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد بن هشام . قال : حدثنا قتادة ، حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، حدثهم عن ليلة أسري به ، حدثنا قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حدثنا .
وأخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد الفارسي ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : -دخل حديث بعضهم في بعض- قال أبو ذر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فرج عني سقف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً ، فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه " . وقال مالك بن صعصعة : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : " بينما أنا في الحطيم ، وربما قال في الحجر ، بين النائم واليقظان ، وذكر بين رجلين ، فأتيت بطست من ذهب مملوء حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن ، واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ، ثم أعيد " . وقال سعيد وهشام : ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمةً ، ثم أوتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته فانطلقت مع جبريل حتى أتيت بيت المقدس ، قال : فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ، قال : ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة ، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح ، قيل من هذا ؟ قال : جبريل : قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح الباب ، فلما خلصت ، فإذا فيها آدم ، فقال لي : هذا أبوك آدم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح . وفي حديث أبي ذر : علونا السماء الدنيا ، فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحباً بالنبي الصالح ، والابن الصالح . قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى . ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، إذا بيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، وهما ابنا خالة ، قال : هذا يحيى وعيسى ، فسلم عليهما ، فسلمت فردا ، ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قال : ومن معك ؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، فإذا يوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، قال : هذا يوسف فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد علي ، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت فإذا إدريس ، قال هذا إدريس فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا هارون ، قال : هذا هارون فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا موسى ، قال : هذا موسى فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فلما جاوزت بكى قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي . ثم صعد بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، قيل : من هذا ؟ قال جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا إبراهيم ، قال : هذا أبوك إبراهيم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح ، والابن الصالح ، فرفع لي البيت المعمور ، فسألت جبريل ؟ فقال : هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم . وقال ثابت عن أنس : فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور ، إذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذان يا جبريل ؟ فقال : أما الباطنان ، فنهران في الجنة ، وأما الظاهرات فالنيل والفرات . وأوحى إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاةً في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، قال : فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف على أمتي ، فحط عني خمساً ، فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمسة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال : يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة . قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فقلت : سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضى وأسلم ، قال : فلما جاوزت نادى مناد : أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك . قال ابن شهاب : فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري ، كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوىً فيه صريف الأقلام " . قال ابن حزم وأنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ففرض الله على أمتي خمسين صلاة " . وروى معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أتي بالبراق ليلة أسري به ملجماً مسرجاً ، فاستصعب عليه ، فقال جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فارفض عرقاً " . وقال ابن بريده عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه ، فخرق بها الحجر وشد بها البراق " .
أنبأنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني محمود ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليلة أسري بي لقيت موسى ، قال : فنعته ، فإذا هو رجل- حسبته قال : مضطرب - رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة . قال : ولقيت عيسى ، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ربعة ، أحمر ، كأنما خرج من ديماس ، يعني : الحمام ، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به ، قال : وأتيت بإناءين : أحدهما لبن ، والآخر فيه خمر ، فقيل له : خذ أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته ، فقيل لي : هديت الفطرة و أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر لغوت أمتك " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، قال : هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس . قال : والشجرة الملعونة في القرآن قال : هي شجرة الزقوم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر ، قبل أن يوحى إليه ، وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال : أوسطهم هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه ، أوتنام عينه ، ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه حتى احتملوه ووضعوه عند بئر زمزم ، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده . وساق حديث المعراج بقصته . فقال : وإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان ، قال : هذا النيل والفرات ، عنصرهما واحد ، ثم مضى به في السماء الثانية ، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر ، قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك . وساق الحديث ، وقال : ثم عرج بي إلى السماء السابعة ، وقال : قال موسى : رب لم أظن أن ترفع علي أحداً ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعمله إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما يوحى إليه الله خمسين صلاة كل يوم وليلة ، وقال : فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه موسى عند الخمس ، فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه ، فأمتك أضعف قلوباً وأجساداً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبريل ، فرفعه عند الخامسة ، فقال : يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا ، فقال الجبار : يا محمد ، قال : لبيك وسعديك ، قال : إنه لا يبدل القول لدي ، كما فرضت عليك في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، وهي خمس عليك ، فقال موسى : ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه ، قال : فاهبط بسم الله . فاستيقظ وهو في المسجد الحرام . وروى مسلم هذا الحديث مختصراً عن هارون بن سعيد الإيلي ، عن ابن وهب ، عن سليمان ابن بلال . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : قد قال بعض أهل الحديث ما وجدنا لمحمد بن إسماعيل و لمسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا هذا ، وأحال الأمر فيه إلى شريك بن عبد الله ، وذلك أنه ذكر فيه أن ذلك قبل أن يوحى إليه ، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة قبل الهجرة بسنة . وفيه أيضاً : أن الجبار دنا فتدلى . وذكرت عائشة أن الذي دنا فتدلى جبريل عليه السلام . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : وهذا الاعتراض عندي لا يصح ، لأن هذا كان رؤيا في النوم ، أراه الله عز وجل قبل الوحي ، بدليل آخر الحديث : قال فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ، ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنة تحقيقاً لرؤياه من قبل ، كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ، ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونزل قوله عز وجل : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح – 27 ] وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال : يا جبريل إن قومي لا يصدقوني ، قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق . قال ابن عباس ، وعائشة ، رضي الله عنهم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي ، فروي أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً ، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال له كالمستهزئ : هل استفدت من شيء ؟ قال : نعم إني أسري بي الليلة قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ، قال : نعم ، فلم ير أبو جهل أنه ينكر ، مخافة أن يجحده الحديث ، قال : أتحدث قومك ما حدثتني ؟ قال : نعم ، قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا ، قال : فانفضت إليه المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما ، قال : فحدث قومك ما حدثتني قال : نعم إني أسري بي الليلة ، قالوا إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم ، قال : فمن بين مصفق ، ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً ، وارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه ، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ، قال : أو قد قال ذلك ؟ قال : نعم ، قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق . قال : وفي القوم من قد أتى المسجد الأقصى ، فقالوا : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ قال : نعم ، قال : ذهبت أنعت وأنعت ، فمازلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت ، قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد ، وأنا أنظر إليه ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب ، ثم قالوا : يا محمد أخبرنا عن عيرنا هي أهم إلينا ، فهل لقيت منها شيئاً ؟ قال : نعم مررت على عير بني فلان ، وهي بالروحاء ، وقد أضلوا بعيرا لهم ، وهم في طلبه ، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته ، ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه ؟ قالوا : هذه آية ، قال : ومررت بعير بني فلان ، وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما بذي طوى ، فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان ، فانكسرت يده ، فسلوهما عن ذلك ، قالوا : وهذه آية . قالوا : فأخبرنا عن عيرنا نحن متى تجيء ؟ قال : مررت بها بالتنعيم ، قالوا : فما عدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها ؟ فقال : نعم ، هيئتها كذا وكذا ، وفيها فلان وفلان ، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان ، تطلع عليكم عند طلوع الشمس ، قالوا وهذه آية . ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون : والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كدىً ، فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه ، إذ قال قائل منهم : والله هذه الشمس قد طلعت ، وقال آخر : وهذه والله الإبل قد طلعت ، يقدمها بعير أورق ، فيها فلان وفلان ، كما قال لهم ، فلم يؤمنوا ، { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا حجر بن المثنى ، أنبأنا عبد العزيز وهو ابن أبي سلمة - عن عبد الله بن الفضل ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني في الحجر ، وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قط ، قال : فرفعه الله لي أنظر إليه ، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، ولقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي ، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى قائم يصلي ، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي ، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فجاءت الصلاة فأممتهم ، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل : يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه . فالتفت إليه فبدأني بالسلام " .
{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
ينزه تعالى نفسه المقدسة ويعظمها لأن له الأفعال العظيمة والمنن الجسيمة التي من جملتها أن { أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الذي هو أجل المساجد على الإطلاق { إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل الأنبياء .
فأسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا ورجع في ليلته ، وأراه الله من آياته ما ازداد به هدى وبصيرة وثباتا وفرقانا ، وهذا من اعتنائه تعالى به ولطفه حيث يسره لليسرى في جميع أموره وخوله نعما فاق بها الأولين والآخرين ، وظاهر الآية أن الإسراء كان في أول الليل وأنه من نفس المسجد الحرام ، لكن ثبت في الصحيح أنه أسري به من بيت أم هانئ ، فعلى هذا تكون الفضيلة في المسجد الحرام لسائر الحرم ، فكله تضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد ، وأن الإسراء بروحه وجسده معا وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة .
وقد تكاثرت الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء ، وذكر تفاصيل ما رأى وأنه أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من هناك إلى السماوات حتى وصل إلى ما فوق السماوات العلى ورأى الجنة والنار ، والأنبياء على مراتبهم وفرض عليه الصلوات خمسين ، ثم ما زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم حتى صارت خمسا بالفعل ، وخمسين بالأجر والثواب ، وحاز من المفاخر تلك الليلة هو وأمته ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل .
وذكره هنا وفي مقام الإنزال للقرآن ومقام التحدي بصفة العبودية لأنه نال هذه المقامات الكبار بتكميله لعبودية ربه .
وقوله : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي : بكثرة الأشجار والأنهار والخصب الدائم .
ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة ، وأنه يطلب شد الرحل إليه للعبادة والصلاة فيه وأن الله اختصه محلا لكثير من أنبيائه وأصفيائه .
سورة الإسراء ، وقيل : إلا قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخر ثمان آيات . وهي مائة وإحدى عشرة آية .
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } سبحان اسم بمعنى التسبيح { الذي } هو التنزيه يستعمل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع عن الصرف قال :
قد قلت لمّا جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر
وانتصابه بفعل متروك إظهاره ، وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد . و{ أسرى } وسرى بمعنى ، و{ ليلا } نصب على الظرف . وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء ، ولذلك قرئ : من " الليل " . أي بعضه كقوله : { ومن الليل فتهجد به } . { من المسجد الحرام } بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " . أو " من الحرم " وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به ، أو ليطابق المبدأ المنتهى . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة عليها وقال : " مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت بهم " ، ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة ، وارتد ناس ممن آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إن كان قال لقد صدق ، فقالوا : أتصدقه على ذلك ، قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق ، واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا العير كما أخبر ، ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة بسنة . واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده ، والأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس ، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، ولذلك تعجب قريش واستحالوه ، والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية ، وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فيما يحمله ، والتعجب من لوازم المعجزات . { إلى المسجد الأقصى } بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد . { الذي باركنا حوله } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام ، ومحفوف بالأنهار والأشجار . { لنُريه من آياتنا } كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له ، ووقوفه على مقاماتهم ، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات . وقرئ " ليريه " بالياء . { إنه هو السميع } لأقوال محمد صلى الله عليه وسلم . { البصير } بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك .
تفسير سورة الإسراء . {[1]}
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات :{[2]} قوله عز وجل : " وإن كادوا ليفتنونك " ، وقوله : " وإن كادوا ليستفزونك " ، نزلت حين جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفدُ ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء ، وقوله عز وجل : " وقل رب أدخلني مدخل صدق " ، وقوله عز وجل : " إن ربك أحاط بالناس " وقال مقاتل : وقوله عز وجل : " إن الذين أوتوا العلم من قبله " . قال ابن مسعود في بني إسرائيل والكهف : " إنهن من العِتاق الأُوَل ، وهن في تِلاَدِي " ، {[3]} يريد أنهن من قديم كسبه .
لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده ، وهو محمد عليه السلام ، ويظهر أن { أسرى } هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره ، أسرى الملائكة بعبده ، وكذلك يقلق أن يسند { أسرى } وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى ، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة ، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث «أتيته سعياً ، وأتيته هرولة »{[7458]} حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث ، و { أسرى } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق فيمثل هذا اللفظ ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته{[7459]} و { أتى الله بنيانهم }{[7460]} [ النحل : 26 ] ويحتمل أن يكون { أسرى } بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى { ذهب الله بنورهم }{[7461]} [ البقرة : 17 ] ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه ، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابياً ، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم ، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله ، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه ، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته ، إلا في صعوده إلى السماء ، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل ، وجوزه الحسن وابن إسحاق ، والحديث ، قال القاضي أبو محمد ، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما ، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب ، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم ، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري : البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام .
قال القاضي أبو محمد : يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق ، ولا قالت له أم هاني : لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل ، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }{[7462]} [ الإسراء : 60 ] ، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا ، واحتج أيضاً بأن في بعض الأحاديث : فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم ، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام ، وأما معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيراً ، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { سبحان } مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل ، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى { سبحان } ، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً ، هذا كله مذهب سيبويه فيه ، وقالت فرقة : قال القاضي أبو محمد : نصبه على النداء كأنه قال : «يا سبحان » ، قال القاضي أبو محمد الذي ، وهذا ضعيف ومعناه تنزيهاً لله ، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة{[7463]} أنه قال للنبي صلى الله عليه ولم ما معنى سبحان الله ؟ قال :
«تنزيهاً لله من كل سوء » ، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل ، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء " {[7464]} ، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيهاً فوقع { سبحان } مكان قولك تنزيهاً ، وقال قوم من المفسرين : { أسرى } فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى ، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة ، وقرأ حذيفة وابن مسعود «أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام » ، وقوله من { المسجد الحرام } ، قال أنس بن مالك : أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال : هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم ، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه السلام أنه قال : «بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة » ، الحديث بطوله . وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام ، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه السلام : «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان{[7465]} » ، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال : أسري بالنبي عليه السلام من شعب أبي طالب ، وقالت فرقة : { المسجد الحرام } مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى { لتدخلن المسجد الحرام }{[7466]} [ الفتح : 27 ] وعظم المقصد هنا إنما هو مكة ، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيتي{[7467]} ، وروي بعضها عن النبي عليه السلام ، أنه قال : «خرج سقف بيتي » وهذا يلتئم مع قول أم هاني ، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام ، وقاله قتادة ، وقيل بعام ونصف ، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك في رجب ، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي صلى الله عليه وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً ، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة{[7468]} ، وقبل بيعة العقبة ، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه : وذلك قبل الوحي إليه ، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك{[7469]} ، و { المسجد الأقصى } ، مسجد بيت المقدس ، وسماه { الأقصى } أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة ، ويحتمل أن يريد ب { الأقصى } البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة .
و «البركة حوله » هي من جهتين ، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه ، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : «إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس » وقوله : { لنريه من آياتنا } يريد لنري محمداً بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب ، ويحتمل أن يريد لنري محمداً للناس آية ، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب ، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة . وقوله : { إنه هو السميع البصير } وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمداً في أمر الإسراء ، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي { هو السميع } لما تقولون { البصير } بأفعالكم .