قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } الآية ، قال مقاتل بن حيان : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس منهم يوماً وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه فرد عليهم ، ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية . وقال الكلبي : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وقد ذكرنا في سورة الحجرات قصته . وقال قتادة : كانوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنوا بمجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض . وقيل : كان ذلك يوم الجمعة ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا } أي توسعوا في المجلس ، قرأ الحسن ، وعاصم : في المجالس لأن الكل جالس مجلساً ، معناه : ليتفسح كل رجل في مجلسه . وقرأ الآخرون : في المجلس على التوحيد ، لأن المراد منه مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، { فافسحوا } أوسعوا ، يقال : فسح يفسح فسحاً : إذا وسع في المجلس ، { يفسح الله لكم } يوسع الله لكم الجنة ، والمجالس فيها .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سفيان بن عيينة عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " .
أنبأنا عبد الوهاب بن الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي أنبأنا عبد المجيد عن ابن جريج قال : قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا " . وقال أبو العالية ، والقرظي ، والحسن : هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } قرأ أهل المدينة والشام وعاصم بضم الشين ، وقرأ الآخرون بكسرهما ، وهما لغتان أي ارتفعوا ، قيل : ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم . وقال عكرمة والضحاك : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية ، معناه : إذا نودي للصلاة فانهضوا لها . وقال مجاهد وأكثر المفسرين : معناه : إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى مجالس كل خير وحق فقوموا لها ولا تقصروا . { يرفع الله الذين آمنوا منكم } بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وقيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم ، { والذين أوتوا العلم }من المؤمنين بفضل علمهم ومسابقتهم ، { درجات } ، فأخبر الله عز وجل أن محمدا صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أمر وأن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا ، وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام ، { والله بما تعملون خبير } قال الحسن : قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال : أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبنكم في العلم ، فإن الله تعالى يقول :{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات .
أخبرنا الإمام أبو الحسين بن محمد القاضي ، حدثنا الإمام أبو الطيب سهل ابن محمد بن سليمان ، حدثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الهروي ، أنبأنا محمد بن يونس القرشي ، أنبأنا عبد الله بن داود ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة ، حدثني داود بن جميل عن كثير بن قيس قال :كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال : يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ما كانت لك حاجة غيره ؟ قال : لا ، قال : ولا جئت لتجارة ؟ قال : لا ، قال : ولا جئت إلا رغبة فيه ؟ قال : نعم ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم ، وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم السراج ، أنبأنا الحسن بن يعقوب العدل ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء ، حدثنا جعفر بن عون ، أنبأنا عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " مر بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، قال : كلا المجلسين على خير ، وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل ، فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلماً ، ثم جلس فيهم " .
{ 11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
هذا تأديب{[1016]} من الله لعباده المؤمنين ، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم ، واحتاج بعضهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس ، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود .
وليس ذلك بضار للجالس{[1017]} شيئا ، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه هو ، والجزاء من جنس العمل ، فإن من فسح فسح الله له ، ومن وسع لأخيه ، وسع الله عليه .
{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا } أي : ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم لحاجة تعرض ، { فَانْشُزُوا } أي : فبادروا للقيام لتحصيل تلك المصلحة ، فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم والإيمان ، والله تعالى يرفع أهل العلم والإيمان درجات بحسب ما خصهم الله به ، من العلم والإيمان .
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وفي هذه الآية فضيلة العلم ، وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه والعمل بمقتضاه .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس } توسعوا فيه ، وليفسح بعضكم عن بعض من قولهم افسح عني أي تنح وقرىء تفاسحوا ، والمراد بالمجلس الجنس ويدل عليه قراءة عاصم بالجمع أو مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا يتضامون به تنافسا على القرب منه ، وحرصا على استماع كلامه ، { فافسحوا يفسح الله لكم } فيما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر وغيرها ، { وإذا قيل انشزوا }انهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو جهاد أو ارتفعوا عن المجلس ، { فانشزوا } ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما ، { يرفع الله الذين آمنوا منكم }بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة ، { والذين أوتوا العلم درجات } ، ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة ، ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدى بغيره ، وفي الحديث : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " { والله بما تعملون خبير }تهديد لمن لم يتمثل الأمر أو استكرهه .
عن مالك قال: إن الآية في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسنا هذه، وإن الآية عامة في كل مجلس. قوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}... عن مالك: إن قوله: {يرفع الله الذين آمنوا} الصحابة، {والذين أوتوا العلم درجات}، يرفع الله بها العالم والطالب للحق...
قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله ابن عمر ابن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا». قال الشافعي: وأكره الرجل من كان إماما أو غير إمام أن يقيم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن نأمرهم أن يتفسحوا. (الأم: 1/204.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله" إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجالِسِ "يعني بقوله "تفسّحُوا": توسعوا، من قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعا.
واختلف أهل التأويل في المجلس الذي أمر الله المؤمنين بالتفسح فيه؛ فقال بعضهم: ذلك كان مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة...
عن قتادة، في قوله "تَفَسّحُوا فِي المَجْلِسِ" قال: كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فقيل لهم: {إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجْلِس فافْسَحُوا}...
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس، ولم يخصص بذلك مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له مجلس، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس القتال...
وقوله: {فافْسَحُوا} يقول: فوسعوا "يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ" يقول: يوسع الله منازلكم في الجنة.
{وإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا} يقول تعالى ذكره: وإذا قيل ارتفعوا، وإنما يُراد بذلك: وإذا قيل لكم قوموا إلى قتال عدوّ، أو صلاة، أو عمل خير، أو تفرّقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوموا...
وقوله: {يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ أُوتُوا العِلْم دَرَجاتٍ} يقول تعالى ذكره: يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم فما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به..
وقوله: {واللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة، لا يخفى عليه المطيع منكم ربه من العاصي، وهو مجاز جميعكم بعمله المحسن بإحسانه، والمسيئ بالذي هو أهله، أو يعفو.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} الآية: يخرج على وجهين:
أحدهما: {إذا قيل لكم تفسحوا} أي إذا قيل لكم: تأخروا في المجالس فتأخروا، {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} أي ارتفعوا، وتقدموا، فيكون قوله: {تفسحوا} إذا كان الحضور أولا هم الذين همهم السماع والعمل به دون أخذه والتفقه فيه، قيل لهم: تأخروا حتى يقرب من يصير إماما للناس وفقيها لهم. وإذا كان الحضور هم الذين، همهم التفقه، وهم الأئمة، ثم جاء بعد ذلك من كان همهم السماع والعمل به، قيل للذين تقدموا أولا: ارتفعوا، أو تقدموا، حتى يسمع من حضر بعدكم قول النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
والثاني: أنه إذا كان في المجلس أدنى سعة أو فسحة ما يمكن غيره من التحريك والتفسح دون القيام يقال لهم: تفسحوا، وإذا لم يمكن ذلك إلا بالقيام قيل لهم: قوموا وارتفعوا، وتقدموا.
وقوله تعالى: {يفسح الله لكم} يحتمل وجوها؛
أحدها: {يفسح الله لكم} في القبر.
{والثالث}: {يفسح الله لكم} في المجلس، وهو فسحة للقلب وتوسعة للعلم والحكم، والله أعلم...
{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} أخبر أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات لفضل العلم على سائر العبادات...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
السبب مجلس النبي عليه السلام، والحكم في سائر المجالس التي هي للطاعات...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِي تَفْسِيرِ الْمَجْلِسِ: فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...وَكَانَ قَوْمٌ إذَا أَخَذُوا فِيهِ مَقَاعِدَهُمْ شَحُّوا عَلَى الدَّاخِلِ أَنْ يَفْسَحُوا لَهُ...
[عَنْ أَنَسٍ] قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ إذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيُّهُمْ يُوَسِّعُ لَهُ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَلَى يَمِينِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: هَا هُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ»...
الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَسْجِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ الذِّكْرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَوْقِفُ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَالتَّفَسُّحُ وَاجِبٌ فِيهِ...
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا}: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا جَلَسُوا مَعَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي مَجْلِسِهِ أَطَالُوا، يَرْغَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرْتَفِعُوا.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالِارْتِفَاعِ إلَى الْقِتَالِ...
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ...الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ...وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْفُسْحَةُ كُلُّ فَرَاغٍ بَيْنَ مَلَأَيْنِ...
وَالنَّشْزُ: مَا ارْتَفَعَ من الْأَرْضِ. ذَكَرَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِلثَّانِي فِي الِارْتِفَاعِ؛ فَصَارَ مَجَازًا فِي اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى.
المسألة الرَّابِعَةُ: كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجَالِسِ مُشْكِلَةٌ، وَتَفَاصِيلُهَا كَثِيرَةٌ:
الْأَوَّلُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُفْسَحُ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ. الثَّانِي مَجْلِسُ الْجُمُعَاتِ يتَقَدَّمُ فِيهِ بِالْبُكُورِ إلَّا مَا يَلِي الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ لِذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى.
الثَّالِثُ: مَجْلِسُ الذِّكْرِ يَجْلِسُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ...
الرَّابِعُ مَجْلِسُ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْمِرَاسِ من النَّاسِ. الْخَامِسُ مَجْلِسُ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِالشُّورَى، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} فَيَرْتَفِعُ الْمَرْءُ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا...
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَسَكَتُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} حداهم بهذا الوصف على الامتثال، {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته: {تفسحوا} أي توسعوا أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع {في المجلس} أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه {فافسحوا} أي وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين. ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة، وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر قال: {وإذا قيل} أيّ من قائل كان -كما مضى- إذا كان يريد الإصلاح و الخير {انشزوا} أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر {يرفع الله} الذي له جميع صفات الكمال، عبر بالجلالة وأعاد إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء، {منكم} أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر، المبادرون إليها في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم. ولما كان المؤمن قد لا يكون من المشهورين بالعلم قال: {والذين} ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين، بنى للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي وهم مؤمنون {درجات}، درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق. قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض... (فافسحوا يفسح الله لكم).. ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام: (وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).. وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام. وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول [صلى الله عليه وسلم] لتلقي العلم في مجلسه. فالآية تعلمهم: أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات. وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول [صلى الله عليه وسلم] (والله بما تعملون خبير).. فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون، وبما وراءه من شعور مكنون. وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة. فالدين ليس بالتكاليف الحرفية، ولكنه تحول في الشعور، وحساسية في الضمير...