معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (11)

قوله تعالى :{ ومن الناس من يعبد الله على حرف } الآية نزلت في وقم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله ، قال : هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيراً واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وقل ماله ، قال : ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شراً فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة فأنزل الله عز وجل : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } أكثر المفسرين قالوا : على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه ، نحو حرف الجبل والحائط الذي كالقائم عليه غير مستقر ، فقيل للشاك في الدين إنه يعبد الله على حرف لأنه على طرف وجانب من الدين لم يدخل فيه على الثبات والتمكن ، كاقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقر ، يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف لضعف قيامه ، ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف ، قال الحسن : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه { فإن أصابه خير } صحة في جسمه ، وسعة في معيشته ، { اطمأن به } أي : رضي به وسكن إليه ، { وإن أصابته فتنة } بلاء في جسده ، وضيق في معيشته ، { انقلب على وجهه } ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ، { خسر الدنيا } يعني هذا الشاك خسر الدنيا بفوات ما كان يؤمله { والآخرة } بذهاب الدين والخلود في النار . قرأ يعقوب خاسر بالألف والآخرة جر . { ذلك هو الخسران المبين } الظاهر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (11)

{ 11 - 13 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ }

أي : ومن الناس من هو ضعيف الإيمان ، لم يدخل الإيمان قلبه ، ولم تخالطه بشاشته ، بل دخل فيه ، إما خوفا ، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن ، { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ } أي : إن استمر رزقه رغدا ، ولم يحصل له من المكاره شيء ، اطمأن بذلك الخير ، لا بإيمانه . فهذا ، ربما أن الله يعافيه ، ولا يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه ، { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } من حصول مكروه ، أو زوال محبوب { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } أي : ارتد عن دينه ، { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ } أما في الدنيا ، فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله ، وعوضا عما يظن إدراكه ، فخاب سعيه ، ولم يحصل له إلا ما قسم له ، وأما الآخرة ، فظاهر ، حرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض ، واستحق النار ، { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي : الواضح البين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (11)

ثم بين - سبحانه - نوعاً آخر من الناس ، لا يقل جرماً عن سابقه فقال - تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ . . } .

قال صاحب الكشاف : " على حرف " أى : على طرف من الدين لا فى وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب فى دينهم : لا على سكون وطمأنينة ، كالذى يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن ، وإلا فر وطار على وجهه . . " .

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما أخرجه البخارى عن ابن عباس قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإذا ولدت أمرأته غلاماً ، ونتجت خيله . قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء . . . " .

والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد صورت المذبذبين فى عقيدتهم أكمل تصوير ، فهم يقيسون العقيدة بميزان الصفقات التجارية ، إن ربحوا من ورائها فرحوا ، وإن خسروا فيها أصابهم الغم والحزن .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى شأن المنافقين : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } والتعبير بقوله - سبحانه - { على حَرْفٍ } يصور هذا النوع من الناس ، وكأنه يتأرجح فى عبادته كما يتأرجح من يكون على طرف الشىء . فهو معرض للسقوط فى أية لحظة .

والمراد من الخير فى قوله - تعالى - { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } الخير الدنيوى من صحة وغنى ومنافع دنيوية .

أى : فإن نزل بهذا المذبذب فى عبادته خير دنيوى { اطمأن بِهِ } أى : ثبت على ما هو عليه من عبادة ثباتاً ظاهرياً ، وليس ثباتاً قلبياً حقيقياً كما هو شأن المؤمنين الصادقين الذين لا يزحزحهم عن إيمانهم وعد أو وعيد .

{ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أى : مصيبة أو شر { انقلب على وَجْهِهِ } أى : ارتد ورجع عن عبادته ودينه إلى الكفر والمعاصى .

وقوله - تعالى - : { خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران المبين } بيان لسوء عاقبة صنيعه .

أى : هذا الذى يعبد الله على حرف ، جمع على نفسه خسارتين ، خسارة الدنيا بسبب عدم حصوله على ما يريده منها ، وخسارة الآخرة بسبب ارتداده إلى الكفر وغشيان السيئات ، وذلك الذى جمعه على نفسه هو الخسران الواضح ، الذى لا ينازع فى شأنه عاقلان ، إذ لا خسران أشد وأظهر ، من الخسران الذى ضيع دنياه وآخرته .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (11)

{ ومن الناس من يعبد اله على حرف } على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قر وإلا فر . { فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني فقال " إن الإسلام لا يقال " فنزلت . { خسر الدنيا والآخرة } بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد ، وقرئ " خاسرا " بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف . { ذلك هو الخسران المبين } إذ لا خسران مثله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (11)

هذه الآية نزلت في أعراب وقوم لا يقين لهم كان أحدهم اذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان من نمو ماله وولد ذكر يرزقه وغير ذلك قال هذا دين جيد وتمسك به لهذه المعاني ، وإن كان الأمر بخلاف ، تشاءم به وارتد كما صنع العرنيون{[8314]} وغيرهم ، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم ، وقوله تعالى : { على حرف } معناه على انحراف منه عن العقيدة البيضاء أو على شفى منها{[8315]} معد للزهوق ، و «الفتنة » : الاختبار ، وقوله تعالى : { انقلب على وجهه } عبارة للمولي عن الأمور وخسارته { الدنيا والآخرة } ، أما { الدنيا } فبالمقادير التي جرت عليه ، وأما { الآخرة } فبارتداده وسوء معتقده ، وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «خاسراً الدنيا والآخرة » نصباً على الحال .


[8314]:بنو عرين: بطن من تميم، وعرينة ـ مصغر ـ: بطن من بجيلة، وفي اللسان: "العرنيون مثال الجهنيين: ارتدوا فقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم".
[8315]:الشفا: حرف الشيء وحده، قال تعالى: {على شفا جرف هار}، وقال: {وكنتم على شفا حفرة من النار}.